*هالة صلاح الدين
خلال ما يزيد على ساعتين ونصف الساعة نشهد من خلال مسرحية “خلف الجميلات إلى الأبد” الهند وهي تموج بطموح يتخطى حدودها الجغرافية. وهناك خلف الفنادق الفخمة المحدقة بمطار مومباي، حي عشوائي مترامي الأطراف معدوم الموارد. وبين أركان قاعة أوليفر تقعقع أصوات متواترة تشي برهبة صناعية، ويصيبنا مهندس الصوت بول أرديتي بالصمم من خلال أزيز الطائرات، آسرا شيئا من فوضى الحي.
هذا الحي الذي يزخر بأناس يعيشون في عالم قذر مخفي خلف ناطحات السحاب. يعانون نقصا أي نقص وإن لا يعدمون بصيصا من النور. ولكن غاياتهم تصطدم بحقائق عالمية لا رادّ لها لينحسر النقاب عن الحدود الحقيقية لعصر تنافسي هائج من التغييرات العنيفة.
يبني السكان أكواخا رثة بسهولة متناهية، وبالسهولة نفسها تهدمها الحكومات المتعاقبة. تتداعى على أرض سبخة أكواخ من الصفيح، صممتها ببراعة المصممة البريطانية كاترينا ليندساي.
والخشبة ذاتها يقحم فيها المخرج روفوسنوريس، دراجات بخارية وحيوانات وحشودا لا نهائية من الناس، منها أطفال يتسولون، ولوحات إعلانات هائلة الحجم تلوح فوق رؤوس السكان، إحداها تعلن عن شركة قراميد تحت عنوان “الجميلات إلى الأبد”.
نرى سكان المنطقة يضمرون تلهفا على حياة عصية، يرسمون خططا هشة تعترضها العوائق. ها هي انتصارات ضئيلة يحتفلون بها، ونكسات ساحقة ينهارون تحتها.
إنها قصة الفقر في كل بقعة، تبدو مكررة؟ أجل، بمعنى ما، إلاّ أن الأداء التمثيلي وسخاء المنتجين جعلا العرض يستحق ولا شك الحضور، بالإضافة إلى اسم كاتبها اليساري ديفيد هير المرشح مرتين لجائزة الأوسكار لأفضل سيناريو عن فيلمي “الساعات” و”القارئ”.
يرغب سونيل القزم ذو الاثني عشر عاما في التهام الطعام التهاما حتى يكون في طول كالو، صبي في الخامسة عشرة من عمره يمتهن سرقة خردة الحديد، ويغرق حتى أنفه في العوز غير أنه يوهم نفسه كذبا بأنه سيرتقي لا محالة ذات يوم إلى “المتعة الكاملة”، بينما تتوالى مونولوجاته القصيرة على خلفية من موسيقى البانجرا الهندية.
تحمل آشا الهندوسية جروحا قديمة تعود إلى طفولتها في قرية فقيرة، وفي شبابها تجد طريقا بديلة متواطئة في الفساد السياسي حتى تتسلق إلى الطبقة المتوسطة. لها علاقات بحزب شيف سينا القومي الهندوسي، وتخطط لسرقة أموال حكومية مخصصة لمكافحة الفقر حتى تحوّل نفسها إلى “امرأة من الدرجة الأولى”. على الجانب الآخر، و”بشيء من الحظ” تجاهد ابنتها مانجو، جميلة الحي المثالية، لكي تصبح أول فتاة تتخرج من الجامعة في الحي.
ومن خلال شخصية فتاتين شابتين ندرك كيف يمكن أن تشكّل الثقافة والعادات الهندية التقليدية عامل هدم. فالفتاتان تلتقيان سرا في مرحاض عموميّ متهدم، لا لارتكاب فعلة شنيعة، وإنما لتعلّم كل منهما الأخرى اللغة الإنكليزية، ربما “ننجو يوما ما من هذه الحفرة”. ولا مفر من هذا التواري المهين، فالفتاة المنتمية إلى طبقتهما لا تصلح في نظر المجتمع إلاّ إلى “الخدمة والعبودية”.
وإلى جوار كل هذه الشخصيات المتقاطعة تحتل النفاية مكانة البطل المحرك للأحداث في المسرحية. ففي قلبها تجني أسرة حسين المسلمة الكادحة المهاجرة من شمال الهند دخلا هزيلا من تدوير أكوام النفاية. تضع الأم زهرونيسا -وتقوم بدورها البريطانية ميرا سايل باقتدار- وابنها عبدول عينهما على شراء منزل “مثل بقية الناس”.
عبدول مراهق حالم، وإنما صاحب مبدأ، لا ينكص عن المغامرة. وعندما تنهال أنهار من زجاجات بلاستيكية على المسرح كما الشلالات، يرى في مخلفات الأغنياء “ثروة يستعصي عدّها”. وبعدها، يربط النص العولمة بالنفاية ربطا لصيقا قد لا يكون منطقيا.
فالركود العالمي وانكشاف الوجه المظلم للنمو الاقتصادي يهدد وفقا للمسرحية تجارة القمامة، أو يجعل القائمين عليها لا يقتاتون إلاّ لماما. والأثر البطيء لانهيار سوق الأسهم في وول ستريت سوف يؤدّي في رأي المؤلف إلى انهيار أسعار الزجاجات البلاستيكية وجوع العائلات.
وفي النهاية لم تكن الأزمة الاقتصادية هي التي نالت من هذه الأسرة. هناك ساكنة أخرى على وشك أن تُلوح باتهام سيدمرها ويهدّم الحي على رؤوس أهله. ففي مشهد مأساوي مريع تحرق فاطيما العاهرة المضطربة ذات الساق الواحدة نفسها كي تورط عبدول. والقضية تهبط بالأسرة إلى كوارث النظام النيابي والقضائي الفاسد. وتستحيل زهرونيسا الصلبة امرأة متهدمة مع توالي الأحداث حين تبيع كل ما تمتلكه لدفع رشوة لا تنتهي.
لا تظهر المسرحية النظام البوليسي رادعا للجريمة، وإنما مصنع رشوة هائل من الموظفين. وهكذا يخنق الفساد والمحسوبية أعناق مواطني الحي. اللافت حقا هو أن النظام ليس وحده المتسبب في هذا العوج.
فدون معونة الشرطة، يبتز قطاع الطرق أموالا ممن ينقبون عن الخرق في النفايات بدعوى حمايتهم، ولسخرية الأقدار تكف مانجو عن تدريس اللغة الإنكليزية للأطفال لانشغالها بمساعدة أمها على إدارة شبكة وهمية من روضات الأطفال بدعم من منظمة خيرية أميركية، حتى الراهبة تأخذ طعاما منتهي الصلاحية تبرّع به المحسنون إلى دار الأيتام لتبيعه إلى تجار الشوارع؛ هل يتعلم المواطنون من الشرطة أم أن المحكوم هو صورة من الحاكم؟!
________
*العرب