“صباح مناسب للقتل” .. ذاكرة الزمان والمكان والخوف


لنا عبد الرحمن

خاص- ( ثقافات )

يمهد الغلاف في
المجموعة القصصية “صباح مناسب للقتل” الذي يشغل اللون الأبيض الجزء الأعلى
منه ؛ لاستقبال كلمة صباح التي تأتي ملائمة للأصفر المشرق الذي يحتل الجانب الأيمن
من الغلاف ثم هناك الأحمر الطفولي في تجاوره مع الأصفر يُبعد فكرة القتل التي تحضر
في العنوان، ولم يعزز من وجودها سوى خطوط هامشية من الأسود والكحلي والبني، فقد ظلت
حالة اليقظة الصباحية تطغى على حالة القتل، وجاء هذا منسجما مع مضمون النصوص ؛ لأن
حضور فعل القتل بدا هامشيا مقابل حلول الموت القدري الذي يخيم شبحه على معظم القصص،
الى جانب فعل “التذكر” الذي يبدو المحور الأساسي
.

الذاكرة، هي الملمح
الموثر في قصص “صباح مناسب للقتل ” لأسامة جاد ( صدرت عن دار العين
بالقاهرة ) بداية من الإهداء الذي يقدمه الكاتب إلى أمه ويربط الأمر بفعل القراءة الأولى
“الفرسان الثلاث لالكسندر توماس”. ثم يتابع اختيار أسماء لكتاب وفنانين تَرَكُوا
بصمة في ذكرياته وتكوينه المعرفي.. هذه الذاكرة تحضر أيضا في عناوين القصص مثل “يتركن
أسماءهن على باب البيت”، ” لم تعد تستدعي الشمس الى جلستها كل صباح”،”اغتراب”
” يوم أن نفضت يديها من العجين” ” كان الراديو قديما” “كانت
رائحة شر في الهواء المذعور”، “ينتظر القطار”، “يذكر نفسه دائماً
بشراء الخبز” ، و” ليلة أن اصطدنا الثعلب”
.

في كتاب
“الذاكرة الجماعية”، يكشف موريس هالبفاكس عن علاقة الذاكرة بالمكان والزمان،
مميزا بين الزمن الآني -الواقعي” والزمن الإنساني اي شعور الانسان بالزمن وتفاعله
معه، موضحا أن المرء لا يتذكر تاريخا محددا لحدث معين، لكنه يتذكر حدثا قريبا يمت للتاريخ
بصلة.أما ارتباط الذاكرة بالمكان فهي أكثر وضوحا ؛ لأنها تتحدث عن أماكن  محددة.

ومن الملاحظ في
عناوين القصص أن استخدام الكاتب للفعل الماضي يحضر بشكل مباشر أو  وسط صورة تحيل إلى الماضي رغم استخدام صيغة المضارع
كما في “يتركن أسماءهن على باب البيت” و أيضا لم تعد تستدعي الشمس الى جلستها
كل صباح.. أو إلى ما يحمل إحالة إلى الماضي كما في العناوين التي استخدم فيها  زمن محدد مثل كلمة يوم، أو ليلة أو صباح، ولا تبتعد
هذه العناوين في إحالتها الزمنية لوقت مضى عن أبطال القصص، الحاضرين من الذاكرة لا
في الواقع، كما في يتركن أسماءهن على باب البيت، حيث تبدأ القصة بمشهد دال على الفراق،
لنقرأ
:

“غمرها صوت
سعاد مكاوي وهي تهدا لما رمتنا العين، شوف انت فين وأنا فين، حرصت على مد الألف ووصل
الهمزة كما تؤديها سعاد تماما”

يتعدد الأبطال
في هذه القصة، هناك : أبو مينا، أم مينا ، الحاج محمود، أم خديجة، زوجة الحاج محمود
.. تقدم القصة مشاهدا أليفة لصلات عائلية حميمة بين أسرة ابو مينا وعائلة الحاج محمود،
الذين جمعت بينهم المحبة الانسانية ولم يفرقهم الدين،انهم ” جيران من أربعين سنة”،
يختار اسامة جاد لقطات يومية نبيلة تجمع بين المرأتين، خوف أم مينا على جارتها وطلبها
منها ان تذهب للطبيب لأنها لم تعد تسمع جيدا، بل واحتفاظها بنسخة من مفتاح بيت جارتها
واستخدامه وهي تدخل مما يدل على عمق الثقة والألفة بين الجارتين، وان كانت القصة تنتهي
كما هو متوقع بموت أم خديجة فان سوْال اأم مينا للكاهن يظل معلقا: هل تضع المعاش في
المسجد أم في الكنيسة كي تصل الرحمة لروحها أسرع؟

لعل ميزة هذه للقصة
في نهايتها المفتوحة ؛ حيث لا تملك ام مينا اليقين كاملا في وضع المال، هي تحتاج لسلطة
أعلى ترشدها أين تضع المال كي تصل الرحمة لروح رفيقتها، لكن هل كانت ام مينا تحتاج
إلى رأي الكاهن حقا؟ ولماذا لم تكتف بالوعي الداخلي الذي امتلكته في علاقتها بجارتها
المسلمة على مدار أربعين عاما؟

إن التقاط الكاتب لمشاهد إنسانية قد تبدو عابرة ويومية، لا
تبدو كذلك في النص حيث اجتزائه المحدد للموقف يبدو كما لو أنه يعمد إلى وضع كادر سينمائي
يوقفه على لقطة محددة تجذب انتباه المتلقي، قصة “تحدث الغائبين وتقسم حبوب الضغط” نموذجا،
القصة تصف امرأة عجوز فقدت زوجها وتاأتي لتصرف معاشه في التأمينات.. هذا المشهد المتكرر
مع آلاف النساء يوميا، يتم اختزاله في مشهد سردي متعاطف يتكثف فيجعل من بطلة القصة
التي تظل بلا اسم هي كل امرأة في مثل حالها
.

وإن كانت تنتمي
كل قصص المجموعة لفعل التذكر، إلا أن اختلاف سياق القصة بين الواقعية، والفانتازيا
في بعض القصص، وخاصة القصص القصيرة جداً،  أضفى
عليها تنوعا في التلقي رغم وجود مستوى لغوي وتعبيري واحد.

 قصة” قال مو وأشار بيده” تستمد من أجواء
الفانتازيا حالة تبدو معها التركيبات الحرفية هنا أقرب للسيميائية مثل كلمتي “مو”
و ” عو”، تحضران كعلامتين كل منهما تودي إلى الأخرى، “مو” بالنسبة
للطفل في القصة حملت دلالة القتل في الجزء الأول، حتى دخوله عالم الكبار لتتحول “
مو ” إلى “عو” يقول: ” شاهد زرقة أنيابه يوم أن خرج لصيد ال مو
مع جدهم ذات مساء

وتبدأ قصة “
المرأة التي تكره الشرفات” بعبارة تحيل إلى زمن مضى تقول : لم تدلف إلى الشرفة
منذ خمسة وثلاثين عاما، البطلة هنا  امرأة عجوز
ايضا مرت في حياتها بالكثير من النكبات، حد انها صارت تكره رؤية نور الشمس الشرفات،بل
إنها  تعاني من فوبيا الضوء،  عاشت جرف السيل، فارقها ابنها،وانكفأت روحها لا
تنتظر شيئا، لكن رغم ذلك نراها في نهاية القصة تحمل حفيدتها وتواجه الشمس
.

في الذاكرة ثمة
مساحة الغفران للبصيرة النافذة ولمزيج من الأحاسيس المتداخلة التي تتجاوز حدود التذكر
فقط إلى التعاطف البريء والقدرة على التسامح غير المشروط، هذا ما تعكسه رؤية الكاتب  لحالات النساء في معظم قصص المجموعة، والذي يتضح  سواء في الحالة أو في الوصف كما في قصة ” تشبهين
صباح” التي تبدو من أجمل قصص المجموعة لنقرأ:” لم يكن شي مختلف بك، لكنه
شيء بك، كأنه اليتم، جعلني شاهق في داخلي عندما رأيتك، عيناك الذابلتان، ربما، وسعادتك
الصغيرة الخجولة مثل كمان أنهكه العازف في ألحان عصية

يستمر الكاتب في
استخدام لعبة الذكريات في هذه القصة أيضا، ومع أكثر من شخصية، هناك صديقه أحمد الذي
يحمل معه حكاياته العتيقة، وهناك المرأة الغامضة التي يشير لها بدلالة شبهها لصباح،
وهناك نغمات الموسيقى،لا يذكر الكاتب من هي المرأة التي تشبه صباح، لكن  البطل  يشهق
في دهشة قائلا لصديقه : “صباح، دي ملاك زي مريم فخر الدين او زبيدة ثروت

لكن هذا المخيال
الطفولي لا يلبث أن يتلاشى في نهاية القصة وهو يقول : “تضعين رأسك على كتفي، في
غابة من التعب، وصباح تغزو أحلامي كثيرا، أشتهيها كثيرا كما كانت، عندما كنت طفلا

تبدو بعض القصص
في المجموعة غير مكتملة من حيث البناء القصصي، يشوبها غموض يجعلها أقرب للمشهد أو الحالة
الملتبسة كما في القصة التي حملت عنوان المجموعة..كذلك قصة ” أحلام بيضاء رطبة”،و”بنات
صغيرات” و”دفء”و” ينتظر القطار”و”بلل”،في حين بدت
بعض القصص تحتاج لمزيد من الاسترسال لاحتوائها على عدة شخصية وأحداث تظل معلقة  كما في “أضأنا كلوبات الجاز”، و”يوم
أن نفضت يديها من العجين”، و”بملابس فرحانة” و”قال من المهم ألا
تستحم في الصباح
“.

تميزت لغة بعض
القصص بالاعتماد على الجمل الأسمية، خاصة في المطلع القصصي، لنقرأ
:

عندما حمل
التيار، الذي فاجأها في ” هبة العصاري صغيرها…من قصة ” عشاء متأخر قليلا

خائب أول
العائدين، خائب وجبان، والذي سيبقى شجاع..من قصة ” سوناتا الفزع والزهو

الراديو
القديم، قديم ومازال يعمل..من قصة ” كان الراديو قديما
“.

– الشمس فاجأها
استيقاظنا يومها،…من قصة ” صباح مناسب للقتل

هذا الاعتماد على
اللغة الاسمية، يحضر أيضا في البناء اللغوي للقصص الذي أضفى عليها حالة من الشاعرية
التي لم تضعف من بنيتها السردية
.

ربما تظل الإشارة
التي ينبغي ذكرها بشأن قصص”صباح مناسب للقتل” ترتبط بالجانب الدلالي النفسي
في وجود حالة من الخوف الانساني، رعشة القلق التي تحمل أصداء الحاجة للاحتماء حينا
بالماضي، وحينا آخر بالتأمل الآني بما يحدث، من هنا يكون الارتداد للبحث عن الذات،
في عالم الحلم،في الذاكرة، في حكايات الطفولة، في البيت الريفي، في تأمل العجائز وما
يحدث لهم مع مرور الزمن. ولعل هذا الخوف الإنساني المبهم هو العمق الذي يشكل الوحدة
الكلية لقصص المجموعة.

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *