*عبد الكبير الميناوي
شكل عبور عدد من الشعراء العرب إلى الكتابة تحت سقف أجناس أدبية أخرى، ظاهرة أثارت الاهتمام وحركت وجهات النظر، المرحبة أو المتحفظة، التي لا يمكن، بأي حال من الأحوال، إلا أن تغني النقاش وتثري المشهد الأدبي.
بالنسبة للشاعر اللبناني شوقي بزيغ، مثلا، تبدو الأمور واضحة تماما: «هناك عشرات الشعراء كتبوا الرواية. لست ضد أن يكتب الشاعر رواية. ليفعل ما يشاء. لكن الحياة ضيّقة على أمرَين معًا، وعلى فنّين معًا. كلّ فن من الفنون يحتاج إلى حيوات وليس إلى حياة واحدة. فكيف لهذه الحياة أن نقسمها بين فنّين عظيمين، مثل الرواية والشعر؟».
هي وجهة نظر، فيها كثير من التحفظ، بخصوص الجمع بين جنسين أدبيين، يبسطها بزيغ في سياق نقاش متواصل تحركه أسئلة كثيرة، لعل أهمها تلك التي تتناول ثنائية «زمن الشعر» و«زمن الرواية»، و«جدوى الشعر في زمن العولمة»، التي تطرح، في جانب منها، في سياق تبرير اختيار عدد من الشعراء الكتابة تحت سقف الرواية، في زمن يرى فيه البعض أن الرواية أخذت مكان الشعر، مع التشديد على أن تحول الشعراء إلى الرواية ليس ظاهرة عربية فقط، حيث يتجه الكتاب، في أنحاء العالم، إلى الرواية «لأنها الأكثر انتشاراً ومردوداً مادياً ومعنوياً معاً».
في المغرب، مثلا، أخذ تحول عدد من الشعراء إلى الرواية، إما بشكل دائم أو مؤقت، شكل الظاهرة المثيرة للانتباه والتتبع والدرس، في وقت يدعو فيه كثيرون إلى الكف عن الكلام حول الأجناس الأدبية أو الفنية، مشددين على أن المهم ليس الكلام عليها، بل إنتاجها بشكل رائع، ما يعني أن العبرة تبقى بقيمة ما يكتب، وأن صفة شاعر أو روائي ليست قدرًا يحصر المبدع ضمن خانة إبداع أبدية، تتطلب منه الحصول على ترخيص مسبق للكتابة تحت لواء جنس أدبي آخر غير الجنس الذي اشتهر بالكتابة تحت سقفه.
ومن بين المبدعين المغاربة الذين عرفوا شعراء قبل أن يتحولوا، إما بشكل دائم أو مؤقت، إلى الرواية، نذكر حسن نجمي، وفاتحة مرشيد، ومحمد الأشعري، والطاهر بن جلون: لكلٍّ منطلقاته التي يبرر بها اختياره، في حواراته وكتاباته في الموضوع. حسن نجمي، مثلا، سيعلق على صدور «جيرترود»، عمله الروائي الثاني، بقوله إنها ليست المرة الأولى التي يعبُر فيها إلى الكتابة السردية، مشيرا إلى أنه كتب ونشر نصوصًا سردية متعددة ليست رواية «الحجاب» أولها، مشددا على أن «العبور إلى أجناس أخرى خارج الشعر، لا يعني بأي حال تخليًا عن القصيدة»، قبل أن يستدرك: «أحيانا أشعُر أنني لا أستطيع أن أكتب شيئًا آخر غير الشعر. أحيانا أرى أنني لا أصلح لشيء آخر غير الشّعْر، وأحيانا أخرى أدرك أنني قادر على أنْ أُجَرِّبَ نفسي في أكثر من جنس أدبي، وفي أكثر من تعبير. مسألة مزاج واستعداد وميول ورغبة بلا شك».
يوسع نجمي من مشهد الظاهرة، مشدداً على أنه ليس حالة شاذة في المشهد الإبداعي العربي والعالمي، وأنه لم يكن الشاعر الوحيد الذي كتَبَ الشعر والرواية، معددًا الأسماء المعروفة التي كتبت الشعر والرواية مغربيا، عربياً وعالمياً.
يشدد نجمي على أنه «ليس هناك من فاصل هندسي واضح بين الحالة الشعرية والحالة الروائية»، وأنه فيما يكتب الرواية، يبقى في العمق شاعراً، وأنه يتعامل مع الأحداث والوقائع والشخصيات بروح الشعر، مشيراً إلى أن للرواية تقنياتها المعلومة، وأنه لا يستطيع التخلص من وضعيته الاعتبارية بوصفه شاعراً، ولا يفصل نفسه عن العلاقة الشعرية مع الأشياء والموجودات واللغة والآخرين والمجتمع، مشدداً على أن كل ذلك ينبغي أن لا يتحول إلى نوع من التحايل أو الإحساس بالضعف.
لا يرى نجمي تغيراً في طقوس الكتابة لديه، سواء لبس جبة الشاعر أو معطف الروائي، مشدداً على أنه يكتب «بنفس الطريقة والطقوس، وبنفس اللحظة الملائمة للمزاج وروح الكتابة، سواء في كتابة القصيدة أو الرواية».
من جهتها، ترى فاتحة مرشيد أنه «لا شيء يمنع الكاتب من تغيير أشكال تعبيره والانتقال من جنس أدبي إلى آخر»، وأنه «ليس محكوماً على الشاعر أن يظل شاعراً، أو على الروائي أن يظل روائياً»، من جهة أن الكتاب لا يملكون «ترف اختيار الجنس» الذي يكتبون فيه، وأن «الفكرة هي التي تختار الشكل الذي ستكتب به».
من جانبه، يتصور محمد الأشعري الكتابة حقلاً مفتوحًا يجري فيه تلاقح مستمر بين مختلف التعبيرات الفنية والأدبية، ويرى أن هناك تصادماً مستمراً بين الشعر والتشكيل والسينما والرواية والقصة، بطريقة تجعلنا نعثر، أحياناً، على أجمل الشعر بعيدًا عن القصيدة، قبل أن يشدد على أن ما يهمه، في هذا الانتقال بين الأجناس الأدبية، ليس التنوع أو التعدد، بل الحرية التي تسمح له بالبحث المستمر عن إمكانات جديدة في الكتابة، من دون أن يخفي أن هاجسه الأساسي في هذا البحث يظل شعريًا.
أما بن جلون، الذي أصدر ديوانه الأول عام 1972، قبل أن يكرّس جهده للرواية، ويفوز سنة 1987 بجائزة «غونكور» عن روايته «ليلة القدر»، فيعترف، في أحد حواراته، بأن تعبيره الأثير هو الشعر، مشدداً على أن «الشعر ليس مهنة، إنه حالة، ونعمة نادرا ما تحلّ. الشعر لا يُدعى، لا يُنادى، لا يُكتب على الطلب. إنه يأتي من تلقاء عنفه وجنونه وصفائه. يجتاحنا. تولد فجأة في داخلنا حاجة ملحة وطارئة إلى كتابته. لا يسعنا الرفض. وأحياناً كثيرة يمتنع عن القدوم مهما توسّلناه (…) أما الرواية فلا تتبع هذه الشروط (…) فضلاً عن ذلك، فإن العصر الذي نعيش فيه لا يحبّ الشعر، بل يؤلّه البضاعة، المنتج التجاري، أكان هذا المنتج شيئا، أم إنساناً، أم جسد امرأة، أم نجومية ما. نعيش في عالم لا يفسح مكانا سوى للسلعة، والشعر هو المفهوم المضاد للسلعة بامتياز».
يقارن بن جلون، الذي سبق له أن فاز سنة 2010 بـ«جائزة الأركانة العالمية للشعر» التي يسلمها «بيت الشعر في المغرب»، بين الشعر والرواية، حتى يبرر انحيازه إلى السرد، خاصة حين يؤثث لكلامه بمفهوم البضاعة، ومنطق السوق الذي يحتفي بكل ما يباع بشكل جيد، لذلك يشدد على أن «الرواية ترافق العصر»، وأنها مرآته، لأنها «أكثر قدرة على احتمال بشاعته».
لا تفعل وجهة نظر بن جلون أكثر من الإفصاح عن عنوان كبير يسم واقع الممارسة الشعرية، على الصعيد الكوني، يحركه سؤال الجدوى من الشعر. وفي هذا السياق، ينطلق الشاعر الفرنسي جاك روبو من جملة حقائق صادمة، بصدد الانحسار المتزايد للشعر، ليصل إلى حقيقة أن هذا الوضع هو نتيجة شبه «الغياب الاقتصادي» للشعر، حيث لم تعد للشعر أهمية، وبالتالي هو غير قابل للبيع، قبل أن يطرح سؤال «من المسؤول؟»، ليجيب بأن مسؤولية هذا الوضع تنسب، بإصرار مؤثر، إلى الشعراء أنفسهم، حيث يتم اللجوء، دائمًا، إلى مجموعة من الاتهامات لتفسير وتبرير اللامبالاة التجارية، من قبيل أن الشعراء المعاصرين عصيّون على الفهم، نخبويون ونرجسيّون، لا ينقلون ما يحصل فعليًا في العالم، ولا يتدخّلون لتحرير الأسرى ولمحاربة الإرهاب، كما لا يطرحون حلاً للشرخ الاجتماعي، ولا يفعلون شيئًا لإنقاذ العالم، ولا يتكلّمون لغة الجميع، ولذلك ليس لديهم قرّاء.
على عادة الشعراء، يدافع روبو عن الشعر وجدواه، مشددًا على أنه ليس من المُفيد، أبدًا، التعليق على مثل هذه الاتهامات، قبل أن يطرح جملة أسئلة، من قبيل «أما زال بوسعنا أن نقول شاعر»، لنصل معه إلى أن الضعف الذي يطال الشعر، على المستوى الاقتصادي، يؤدّي إلى «ازدراء مُعلَن»، من قبل هذا العالم، إزاء من يتجرأون على المطالبة بصفة «شاعر»، والنتيجة المنطقية لكل هذا، بالنسبة إلى العالم، «أن تكون شاعرًا لا يعني شيئًا في الحقيقة»، وبالتالي «ليس مُستغربًا أن يثير اتخاذ صفة الشاعر، بالنسبة إلى الكثيرين، في أيامنا هذه، السخرية، وحتى الخجل»، وهو ما يؤدي إلى انتقال شعراء مُمتازين، أحبطت عزائمهم، لعدم التجاوب مع أعمالهم، لممارسة أنشطة أخرى، يرتبط بعضها بالإعلام، مثلا، أو حتى بمهن لا علاقة لها، من قريب أو من بعيد، بالإبداع والكتابة.
________
*الشرق الأوسط