صدى افتراضي


*ناصر الريماوي

( ثقافات )

في ذلك المساء الشتائي، أقسمت له بأنني قد فعلتها… والتقيتُ بهم!
غير أنه لم يكترث، هزّ رأسه في استخفاف وراح يرشق سقف الحجرة وجدرانها الكتيمة بنظراته الساخرة و يحدّق بالنافذة المغلقة، ولم يقل شيئاً…!
قبل ذلك، وعند الفجر. كان قد صحى الطقس بيننا… لأزاحم الوقت ونفير المركبات من مكاني هنا، وأعبر مسرعاً قنطرة حجرية قديمة، بلا لافتة إرشادية لتدل عليها لكنها تكفي للولوج نحو نهار آمن تحت سماء مدينة أخرى، وبأنني أدركتُ نزهة الصباح في وقتها، لأشارك “طارق لحمادي” مشيته فوق جسور “قسنطينة” الجزائرية، تبادلنا خلال المسير حوارات كثيرة، جرَفَنا أغلبها نحو هاوية الجدل، وكان لنبرة الصوت وقعها المباغت في العتاب، حين لم يصافحني قبل أن يغيب في ضباب المدينة.
بعدها بدقائق … كنتُ أرافق ” أنوار سرحان” في سيرها المعتاد بين بيتها الغافي في حضن “حيفا”، إلى مكتب الترجمة المشرع على بحر مدينتها المالح، هناك، حيث اعتادت أن تقبع وحيدة بين أكوام النصوص، لتقضمَ الوقتَ بصمتها في تأمل عميق بين والكتابة والعمل، كنتُ أختلقُ الحوارات الفائضة عن حاجة السمع في تطفّل يفوق احتمال أحد، وفي العودة، أسترق النظر إلى وجهها الهاديء، وأنا أقول في نفسي: يا الله، كم هي مختلفة، ولا تشبه أحداً…!
على جانب الشارع الأسفلتي العريض الذي يشق صحراء “الخليج العربي” إلى نصفين، كنت أوقف “سيارتي” إلى جانب “سيارة” أخرى وأترجّل، أستقبل الرمل وأتبع خطوات سبقتني نحو قوس المدى المشدود بلا نهاية، خلف تلة رملية صفراء أشعلتها خيوط الشمس عند المغيب، تعانقنا طويلا… قال لي وهو يسكب الشاي من إبريق نحاسي ملطخ بالسواد يغلي على جمر الحطب: تأخرتَ كثيراً، سبقتكَ أشياء كثيرة إلى هنا، السكينة، وحْي الشّعر… وواجهات البيوت القديمة في “بيت لحم”!
سقط الليل بحلكة ثقيلة من حولنا بدّد وهج النار بعضها بهالة يسيرة، وكافية لندرك الأشياء، عواء موصول تناهى من بعيد، ثم تشتت في اتجاهات عديدة ولم يصلنا منه سوى الصدى، عظاءات تقافزت أمامنا ثم غطست في جحورها الرملية، الرطبة. ، على إنعكاس ذلك اللهب بدا وجه “طلعت شعيبات” أكثر إشراقا وهو يناجي أفقاً مقفراً على اتساع البراري بالشعر، ويقرأ الليل أمامي بخشوع التراتيل المنقوشة على جذع حارته الوادعة في “بيت لحم”… ثم افترقنا.
استوقفني بحركة حاسمة من يده وهو يسترد نظراته عن سقف حجرتي وجدرانها، قفز للنافذة المغلقة، فتحها على مصراعيها، ثم غادر وهو يزفر. وأنا أطوي شاشة الحاسب المحمول على برامج “الفيسبوك” و”الشات”، رأيته يعبر الشارع ويفتح ذراعيه للأرصفة والناس، غمرني شوق قديم للشوارع وصراخ الباعة…. هممت بالخروج، لولا رنّة التنبيه التي باغتتني بورود رسالة إلكترونية، هامّة، مفخخة بالعتاب، أعادتني للطاولة مجدداً… ولم أغادر حتى هذه اللحظة. 
_________________________
*قاص من الأردن 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *