*حسام ملحم
لا شكّ أن كتاب “السّيرتان” للشاعر والروائي السّوري سليم بركات، يعتبر واحدا من تلك المصائد التي لا نشعر بفكّيها، إلا بعد أن تخترق نقيّ الرّوح، وهي جمع لكتابين: الأول حمل عنوان “الجندب الحديديّ”، والكتاب الثاني “هاته عاليا، هات النّفير على آخره”.
الطفولة، كمرحلة عمريّة، تعتبر خزينا هائلا -إن لم تكن الخزين الوحيد- لكثير من الكتّاب، سواء ظهرت صراحة في ما يكتبون، أو لمسناها واهية، في روحيّة ما يكتبون.
كيف لا، والطفولة، رغم قصر زمنها، تؤكد لنا حين نقرأها في كتب السّير، أن لازمن حقيقيّا نعيشه، إنما إسراف مملّ للجسد، وهرب مستمرّ من ذاك الحنين إليها، وهي التي تبدو لنا، فردوسا مفقودا وخالدا كالنّكهة، فكثيرة هي كتب السيرة التي مرّت مرور “اللّئام” على ساحاتنا المغلقة، لتقيم حواجز الشّغب والتّوق والجري الحافي فيها، لتنبش المسكوت، وتلعب ذاك اللّعب الماكر في ترتيب رفوف النّفس، وتحيل أرض واقعنا الصّلبة “كما كنّا نعتقدها” إلى رمال متحرّكة، نغرق فيها باستكانة حتّى آذاننا.
كأن “السيرتان” تشبه تأريخا عامّا للطّفولة الفائحة من جسد الجغرافيا الشرقيّة السّوريّة، تتخلّله خصوصيّة خجولة الشّكل، عميقة التّفاصيل، لطفولة “الكرديّ”، يوقعنا سليم بركات في كتابه “السّيرتان”، في فخّ النوستالجيا القاسية إلى طفولة تشبهنا، تشبه التماسنا للدّهشة بين حواف حياة محاطة بالأسلاك الشّائكة، أسلاك الكبار وألاعيبهم وعقائدهم، وحروبهم السّخيفة.
ترانا نحن الأطفال، نهرب معه إلى براريه البكر، التي يفرغ فيها احتقان البوح المحاط بذاك الخوف المبهم، الذي يتسرّب من صروح الكبار، نهرب معه لننتقم من الوجود عامّة، كحالة محسوسة وغير مدركة في مزيج الطفولة الفوضويّ، من الحياة والكائنات والبيت والأهل والمدرسة، وحتّى الهواء والماء.
يشرّح سليم بركات في “السيرتان”، بعين الطّفل الرّجل، ارتطامات “الكرديّ” بواقعه، الذي أدرك فيه باكرا ثنائيّة الاختلاف والرعب، وقرأ الشرخ الوجوديّ الذي يلوح في أفقه الحتميّ، في لعبة زمن سليط الوقع، فيحاول بكلّ عنفوانه وغضبه، تثبيت اللّحظة، المكان، الطّيش، في خانة الحسّ في ما قبل الإدراك المؤلم. لنرانا نهرب معه، ونسير في لعبته المبنيّة على رؤية طفل يشي بتمرّد عفويّ على منظومة بيئته وتفاصيلها، التي بدأ يتحسّسها بحذر فجّ الشّجاعة.
يغوص بركات، بحوارية زمنيّة بين الحسّ والإدراك، بين ما كان، وما هو كائن، بين الرائي (الحكيم) والمتورط في الحدث، يعيد تلاوة مخطوطات أزمنته، بحسّ رعويّ ناضج، تغلب عليه الشّعريّة القاسية للحياة واللغة، دون التّخلي عن مفردات وتشكيلات وتفاصيل البيئة، والصورة البدويّة البكر.
إذ تأخذنا “السّيرتان”، بتكتيك سحريّ، تتراءى فيه قسوة شاسعة الفضاءات، كهفا جميلا بسيطا، يوصلنا بحبل الحنين إلى سرّته، ليوجّهنا باقتدار خلّاب، يصفعنا بأيدينا، مخاطبا الطّفل المرتجف المستكين في أقصى زوايا لاوعينا وأشدّها تشويشا وظلمة.
لنشعر بسور العقل “البهيم”، الذي أحاطنا به ذاك الطّفل النشط المشاغب، والحرس الذين انتدبناهم من “كاركون” الحياة، ليصوبوا بنادق الذعر في وجه حاسّة الكشف المدهشة، لصالح الاقتناع.
في”السّيرتان”، نشعر مليا بذاك الانزياح الجغرافيّ في خارطة أزمنتنا وعمرنا وذاكرتنا، لننقاد سعداء فوق شوك العودة الوعرة، كانزلاق لا مفرّ منه، عند حافة الوصول الوهميّ، لنتدحرج ككرة ثلج، تصدم الجذوع عند النّزول تباعا، لتتقشّر وتصغر تدريجيا، نحو حبّة اللؤلؤ النائمة في محارة البدء، هناك تماما، نحسّ بأخوّة الشّمس الحقيقية، الشّمس المتاحة، الأرض المتاحة، الدّهشة المتاحة، في طبقات الطّفولة المطعونة بخناجر اللّعب.
لكن سليم بركات، متعمّدا أو مأخوذا أو وفيّا لقهر حقيقيّ بالضّرورة، يصرّح بكرديّة الطّفل محور الكتاب، يتخلخل على مطبّ الانتماء والتّصريح، يسلخ القصّة عن الجغرافيا، لصالح القومية، يكسر آنية اللذّة الّتي كانت متاحة لكافّة أبنائها (قرّائها)، ليشربوا منها حليب طفولتهم الصافي، من عرب وأكراد وآشور وسريان وغيرهم من أبناء المنطقة، أو من أبناء جغرافيات متشابهة من العالم، ليجيّرها كأسا خاصّة بالأكراد، لتصبح السّيرتان، طفولة قومية، سيحبّها بالضرورة أكراد عاشوا طفولتهم في مدن حداثوية، وجغرافيات متضادّة، بعد أن كانت طفولة جغرافيا وبيئة تجتذب أبناءها (بحنين تمتزج فيه السعادة مع الألم)، وأبناء البيئات المغايرة (بفضول تمتزج فيه الرغبة مع التردد).
_________
*العرب