*آمال الديب
خاص- ( ثقافات )
كم هو قوي وجه الشبه بين الأمل والموت؛ فالأمل هو مفتاح الحياة الدنيا، والموت هو مفتاح الحياة الآخرة.
وكم كان أمل دنقل في قصائده الأمل، وفي واقعه الموت.
***
عن الشاعر:
هو أمل محمد فهيم محارب دنقل. ولد فى 23يونيو سنة1940 بقرية القلعة، مركز قفط، محافظة قنا، فى بيئة كثيرًا ما وصفها هو فى حواراته بأنها بيئة محافظة قاسية، ساهمت ظروف أسرته فى قسوتها فيما بعد، فبالإضافة إلى قسوة الطبيعة الجبلية وضيق المساحة الخضراء على ضفاف النيل توجد التقاليد القاسية التى تفرض على الأطفال رجولة مبكرة. توفى والده وهو ما زال ابن عشر سنوات تاركًا عبء الأسرة التى واجهت كثيرًا من المشاكل على عاتق أكبر الأبناء “أمل”، والذى كان يدرك طموحه الفنى الذى تبدى منذ صغره فى قراءاته ومحاولاته لنظم الشعر على طريقة والده التقليدية التى مثلت له النموذج الأعلى للشعر حتى بدايات نشره. أنهى دراسته الثانوية، ثم اضطر أن يعمل بشركة “أتوبيس الصعيد” لفترة من الزمن، ونشر أولى قصائده عام 1958 فى مجلة “صوت الشرق”. سافر إلى القاهرة مع عدد من زملائه الذين كانوا يمتلكون الموهبة وشعروا أنهم لن يستطيعوا تنميتها إلا فى القاهرة. لكنهم لم يستطيعوا تحمل نمط القسوة الذى وجدوه بالقاهرة بشكل مغاير لذلك الذى اعتادوه فى الصعيد، قعادوا مرة أخرى إلى قنا، ولكنه بعد فترة تأكد من ضرورة عودته إلى القاهرة، وهذا ما فعله، ثم انتقل إلى الإسكندرية، ومكث بها فترة، والتحق بكلية الآداب، جامعة الإسكندرية، لكنه لم يكمل دراسته بها، وعاش فترة بالسويس وكان يعمل بشركة مقاولات هناك، ولكنه تركها وعاد إلى القاهرة واستقر بها حتى وفاته فى الحادى والعشرين من مايو 1983.
دواوينه الشعرية:
تحتوى الأعمال الكاملة لأمل دنقل ستة دواوين شعرية هى على الترتيب:
مقتل القمر.
البكاء بين يدى زرقاء اليمامة.
تعليق على ما حدث.
العهد الآتى.
أقوال جديدة عن حرب البسوس.
أوراق الغرفة (8).
إضافة إلى عدد من القصائد المتفرقة التى لم تجمع فى ديوان ربما لأن الشاعر لم يرتض
أن تظهر بداياته الأولى فى ديوان شعرى، وكذلك فعلت زوجته “عبلة الروينى” بعد وفاته، فلم تنشر منها سوى ما ارتضته فنيا فى مناسبات متفرقة، أو فى كتب صدرت بعد وفاة الشاعر، وطعمتها ببعض تلك القصائد.
الديوان الأول “مقتل القمر”:
وهذا الديوان رغم كونه التجربة الأولى التى واجه بها أمل دنقل الجمهور إلا أنها كانت تقترب كثيرًا من النضج الفنى، وإن حملت بين طياتها بدايات تفجر الموهبة الشعرية عند هذا الرجل فى عهدها المبكر بكل ما تعنيه البداية من قصور أو حداثة عهد بالأدوات الفنية أو غير ذلك. ويتميز هذا الديوان بأنه ربما يكون الوحيد بين أعمال أمل دنقل الذى يتماس مع أمل دنقل الإنسان (كذات مبدعة غير منفصلة عن ذاتها وذاتيتها)، أو بمعنى أكثر وضوحًا نستطيع أن نقول إن التجربة السائدة فى أكثر قصائد هذا الديوان هى تجربة ذاتية، وربما يمكننا تعميم هذا الحكم بالذاتية فى الديوان الأول باستثناء قصيدة واحدة فقط هى قصيدة عنوان الديوان “مقتل القمر”، ولا تفوتنا دلالة العنوان على الديوان الأول للشاعر ومفردة القتل التى تعتبر بشكل ما من مرادفات الموت، وهذا خيط لا بد من ملاحظته منذ اللحظة الأولى فى شعر أمل دنقل من ألفه إلى يائه. وستتأكد الدلالات والمرادفات لهذا المعنى (الموت) بصور مختلفة ومتنوعة.
وهناك نقطة أخرى ينفرد بها هذا الديوان بين شعر أمل دنقل، وهى ظهور الأنثى فى شعره من حيث كونها أنثى – محبوبة أو ما شابه_ فصورتها بعد هذا الديوان تخفت كثيرًا لدرجة تقارب الاختفاء إلا فى مواضع قليلة، وتأتى فيها بدلالات مغايرة لمعنى الأنثى/المحبوبة على وجه الخصوص.
ورغم هذا فهناك ملاحظة لا يمكن إغفالها منذ اللحظة الأولى لقراءة هذا الديوان هى تلك اللغة القوية القاسية حينا، الحادة فى كثير من الأحيان حتى فى مقام التغنى بعيون المحبوبة، أو وصف جمالها، أو استرداد الماضى من خلال حدث يقع بعد افتراقه عن محبوبته بخمس سنوات، ثم يفاجأ بطفلتها أمامه فيبدع قصيدة من أجمل ما كتب، وهى قصيدة طفلتها، ويختار لها بحرًا يناسب هذا المقام كثيرًا ويقيدها بقافية تنتهى بأعمق أصوات اللغة (الهمزة) ويلحقها بهاء الإشباع فى النهاية، فكأنه يقوم بحبس أكبر كمية هواء بحنجرته ثم يفجرها مفاجأة فى تلك الهمزة التى يتبعها بالهاء لتولدان معًا انفجارًا قويا محسوسًا وربما مشاهدًا.
الديوان الثانى “البكاء بين يدى زرقاء اليمامة”:
ويبدو من عنوان الديوان كم انحرفت زاوية الرؤية، وصارت للشاعر رؤية مختلفة أكثر وعيًا، وأكثر نضجًا، وأبعد مدى. فراح أمل دنقل فى هذا الديوان يستلهم شخصيات، بل وأحداث تاريخية بعيدة ومغرقة فى القدم بهدف إسقاط تلك الأحداث التى كانت فى ذلك العهد على ما كان يحدث فى مصر فى تلك الفترة التى كتب فيها قصائد هذا الديوان، فراح يستدعى شخصيات مثل زرقاء اليمامة التى اشتهرت بعيونها الحديدية، ولكنها حين رأت الجيش يحمل أشجارًا فقالت لقومها: إنى أرى أشجارًا تسير ويسير خلفها رجال، فظنوا أنها جنت فكان عقابها أن فقأوا عينيها، ثم بوغتوا بالجيش الذى كان كما قالت، وماذا يفيد الندم بعد أن ينقضى وقته؟! ويسقط ذلك الحدث على أحداث يونيو/ حزيران 1967 وما توقعه، ولكن أحدًا لم يهتم. ويؤرخ لتلك القصيدة بالثالث عشر من الشهر ذاته، أى بعد الهزيمة بأيام قلائل..!
ثم يستدعى فى هذا الديوان أيضًا شخصيتين أخريين لكل منهما دلالاتها وتفجراتها وهما أبو موسى الأشعرى فى قصيدة “حديث خاص مع أبى موسى الأشعرى” والشخصية الأخرى هى المتنبى فى قصيدة “من مذكرات المتنبى”، ولكل قصيدة فى هذا الديوان طابعها الخاص جدا ومذاقها المميز، ويعتبر هذا الديوان خطوة واسعة على طريق التطور فى شعر أمل دنقل، فهناك محاولات تجديدية من حيث الشكل كما فى قصيدة “أيلول”، أو قصيدة “كلمات سبارتكوس الأخيرة”، وهناك تجديد فى المضمون أيضًا يبرز فى أغلب قصائد الديوان.
الديوان الثالث “تعليق على ما حدث”:
وقعت الهزيمة وحدث ما حدث، فكان هذا تعليق هذا الشاعر غير العادى عليه..! فبدأ قصائد ديوانه بقصيدة “فى انتظار السيف” وهى صرخة فى وجه الهزيمة، ورفض تام لأحداثها، ولحدوثها، ثم تتتابع الصرخات بين “الحداد” الذى يليق بـ”قطر الندى” و”صفحات من كتاب الصيف والشتاء”، وغير ذلك، فمثلاً فى قصيدة “الهجرة إلى الداخل” يقول:
أترك كل شىء فى مكانه
الكتاب، والقنبلة الموقوتة
وقدح القهوة ساخنًا…
وتبدأ مفردات جديدة تغزو قاموس الشاعر كالقنبلة، والسيوف وأدوات الحرب جميعًا..!
الديوان الرابع “العهد الآتى”:
ويتميز هذا الديوان بتلك الجرأة -المتزايدة عن حدها فى بعض الأحيان- وتبدو جليـة
منذ أول قصيدة فى هذا الديوان وعنوانها “صلاة”، وينهج فيها نهجًا مشابهًا فى المفردات والتراكيب للكتاب المقدس، والقرآن الكريم، وهذه جرأة قد يقبلها البعض، وقد يرفضها بعض آخر.!
ويقسم الديوان إلى أسفار، والأسفار إلى إصحاحات على نهج الكتاب المقدس، ولا يكتفى بهذا، وإنما يسمى بعض القصائد بأسماء الأسفار “سفر التكوين”، و”سفر الخروج”، ويشتمل سفر التكوين على خمسة إصحاحات، و”سفر الخروج” أو أغنية الكعكة الحجرية على ستة إصحاحات..! وبعد ذلك يأتى سفر “ألف.. دال” ويحوى عشرة إصحاحات، وينتهى من الأسفار ليصل إلى “المزامير”، ولهذا كله أغراضه الفنية التى نجحت عبقرية أمل دنقل فى الوصول إليها والنجاح فيها إلى حد بعيد.
الديوان الخامس “أقوال جديدة عن حرب البسوس”:
ولا يقل هذا الديوان تميزًا عن سابقيه، بل ربما يزيد، فقد استطاع أمل توظيف الرمز فى هذا الديوان بعبقرية فنية شديدة الوضوح، حيث استدعى حرب البسوس، وحاول أن يقوم بعملية إسقاط على الأحداث السياسية المعاصرة له فى السبعينيات، وفى هذا الديوان تقف قصيدة “لا تصالح” شامخة متجددة من عصر إلى عصر، وهى من أفضل أعمال الشاعر، وأطولها نفسًا، وعلى هذا الطول لا ينفرط عقد أفكارها، ولا تسمح لقارئها بالشرود أثناء قراءتها، يحتوى هذا الديوان على قصيدتين فقط هما: “مقتل كليب”، و”أقوال اليمامة”.
الديوان السادس “أوراق الغرفة (8):
والكلام عن هذا الديوان يختلف، فهذه هى القصائد التى كتبها الشاعر فى غرفته بمعهد الأورام، ولم تنشر إلا بعد موته، ولم يختر لها هو عنوانًا، وهذا الديوان هو رائحة الموت مغلفة بالأمل والتشبث بالحياة حتى اللحظة الأخيرة..! وتعود القصائد هنا إلى النفس القصير والتكثيف، وكأنه راح يشعر الآن بقيمة الوقت، ويعتبر هذه القصائد صرخات قصيرة متقطعة، فما عاد قلبه يحتمل أن تطول أكثر مما فعلت، ولهذا يطلق كلا منها هكذا كما ظهر فى ثوبه الأخير..ويصل شعر أمل دنقل فى تلك المرحلة الأخيرة من حياته إلى قمة سخريته من الواقع، ولكنها سخرية ممرورة، ممزوجة بالألم والصبار!
وتحتوى أعماله الكاملة التى صدرت بعد وفاته أيضًا بعد “أوراق الغرفة 8” مجموعة قصائد أضافتها زوجته من قصائده التى لم تنشر بمفردها ولم يضمنها أيا من دواوينه، وعددها سبع قصائد متفرقة الموضوعات.
بين يدي شعره:
وسوف أحاول أن أسلط أضواءً سريعة على بعض قصائد من دواوينه الشعرية، وسأكتفى بنموذج واحد فى كل ديوان، قصيدة أو بعض قصيدة؛ لأن هناك قصائد طويلة ربما لا يسعفنى الوقت بتحليلها كاملة.
من ديوان “مقتل القمر” اخترت قصيدة “طفلتها”. وتلك القصيدة حالة منفردة لا يؤازرها فى الديوان غيرها، ورغم كونه الديوان الأول إلا أننا نلمح فيه صوتًا شعريا مميزًا إلى حد بعيد. وقد قدم لتلك القصيدة بمقدمة نثرية (ليست من عاداته الشعرية) قال فيها:
“.. مرت خمس سنوات على الوداع، وفجأة.. رأى طفلتها!”، وهو هنا يطلق الكلام بضمير الغائب، أى أن علينا أن نحكم على صدق القصيدة الفنى، لا صدقها الواقعى، وإن كان الشعر الغنائى كله لابد أن تظهر فيه ملامح من ذات الشاعر وشخصيته. واختار أمل دنقل لقصيدته حرف الهمزة كحرف روى بما لها من عمق الصوت (ونحن نعلم أن الهمزة هى أعمق صوت فى العربية) ثم تبعها بهاء السكت، وهذا يقوم بتخزين أكبر دفعة هواء ممكنة داخل الرئتين، ثم إطلاقها فجأة مع خروج الهمزة المجهورة ثم بترها أيضًا فجأة وبسرعة حين النطق بالهاء الساكنة. فيتحقق بذلك اللعب على أوتار انتباه السامع، وتقييده بما يقال. يبدأ القصيدة بالنهى “لا تفرى” مما يعطى انطباعًا أن هناك حوارًا بين أكثر من شخص، وهو هنا حوار الذات القائلة مع أخرى مؤنثة، مهد الشاعر لها بالمقدمة النثرية، وأنها طفلة حبيبته التى فارقته منذ خمس سنوات، أى أن عمر الفتاة لم يجاوز أربع سنوات، كما يوهم أن له على تلك المخاطبة حق الأمر أو النهى فيخاطبها كذلك، فربما لو أتاحت الأقدار الفرصة له لكان هو أباها!
فيقول:
لا تفرى من يدى مختبئه
خبت النار بجوف المدفأة!
ثم يتحسر الشاعر على نفسه ومصيره:
أنا..
(لو تدرين)
من كنت له طفلة
لولا زمان فجأه..
وواضح كم التمزق الذى يعانيه الشاعر حتى جعله يذكر ضمير المتكلم على سطر منفرد، وكأنه أراد أن يقول إنه لا يملك أن يعطى لنفسه الحق فى تخيل أن تلك الطفلة الصغيرة كانت من الممكن أن تكون ابنته هو لولا أن غدر به الزمان.
ونلاحظ أن الكلمات المستخدمة فى ذلك المقطع كلها مفردات بسيطة تشعرنا أنها تنساب طواعية لحال الشاعر الذى يكتبها، ونتوهم أننا نستطيع لو حاولنا أن نكتب مثل تلك المفردات، ولكننا فى الواقع لو جربنا ذلك فلن نستطيعه، وهيهات.. وهذا جمال الشعر!
ثم يعقد الشاعر مقارنة بين عمر الطفلة وعمره بكلمات لا تقل بساطة وانسيابية عما سبقها:
كلما فزت بعام
خسرت مهجتى عاما
.. وأبقت صدأه
وكأن السنوات لا تكتفى بأن تنسرب من بين يديه سنة سنة، وإنما لابد أن تخلف ذلك الصدأ، وتلك المرارة، ويا لها من مرارة!
ثم يباغتنا الشاعر حين يتوغل فى قضية اجتماعية شديدة الأهمية، وهى زواج الفتيات الصغيرات من رجال قد يكبرن أعمار آبائهن:
ذات يوم
كان أن شاهدها
من له أن يشترى نصف امرأه
حينما أومى لها مبتسما
فأشاحت عنه
كالمستهزئة
اشتراها فى الدجى
صاغرة
زفت السبعة عشر للمائه
لم يكن شاعرها فارسها
لم يكن يملك إلا..
التهنئة
لم يكن يملك إلا مبدأه
ليس إلا..
كلمات مطفأه.
ومتى حلت القضايا المصيرية بالمبادئ.. لاسيما فى ذلك العهد؟!
وبرغم كل ذلك لم يفقد الشاعر الأمل فى غد أفضل:
فابسمى يا طفلتى
منذ مضت..
وابتسامات الضحى منطفئة
إنما العمر هباء من سوى طفلة مثلك
تجلو صدأه!
وهذه حقيقة كونية لا يمكن لفطرة إنسانية سوية أن ترفضها، أو تكذبها، فالأطفال هم نعمة الوجود.
ومن ديوان “البكاء بين يدى زرقاء اليمامة” اخترت قصيدة “يوميات كهل صغير السن”.
ربما لا تكون تلك القصيدة هى أشهر قصائد الديوان، ولكننى آثرتها لأكثر من سبب، وربما تتضح تلك الأسباب فى مجال الحديث. يبدأ الشاعر قصيدته بجملة خبرية تقريرية لا تقبل الشك أو التشكيك فى حدوثها:
أعرف أن العالم فى قلبى .. مات!
وكأنه قرار ويرفض أن يراجعه فيه أحد. والإقرار بصيغة المضارع وكأنه شىء يستحيل تغييره، وصفة الموت التى وصف بها العالم بصيغة الماضى، وتغيير المضى أشد استحالة من تغيير الإقرار..!
ثم يجرد الشاعر من قلبه شخصًا آخر يتحدث عنه، وعن تلك الأفعال التى يقوم بها معه، وهذا الآخر خافت الصوت لا يرفض، ولا يمتنع، ولا يعترض:
أنبش عن قلبى، أخرج هذا الجسد الشمعى
وأسجيه فوق سرير الآلام.
أفتح فمه، أسقيه نبيذ الرغبة
فلعل شعاعًا ينبض فى الأطراف الباردة الصلبة
لكن.. تتفتت بشرته فى كفى
لا يتبقى منه.. سوى جمجمة.. وعظام!
ثم فجأة – كعادته – يتحول من الحديث عن ذلك الكائن بين ضلعيه إلى تلك التى تنزلق “من شعاع لشعاع”، “حالمة.. بالصيف فى غرفات شهر العسل القصير فى الفنادق” ليس هذا فقط، بل إنها لا تكتفى بالانزلاق بين شعاع وشعاع، وإنما:
فى المساء، فى ضجيج الرقص والتعانق
تنزلقين من ذراع لذراع!
كل هذا وهى ما زالت فى شهر العسل، فماذا ستفعل بعده؟ وتحت رقم (3) تتحول تلك التى تهوى الانزلاق إلى قطة عيناها “تنكمشان”! ثم يتحول إلى مشهد من مشاهد الحياة اليومية:
لكنى فى دقة بائعة الألبان
تتوقف فى فكى.. فرشاة الأسنان!
ثم تقصر المسافة ويقصر النفس فى رقم (4) فيكتفى بملاقاة ظله فى الطريق وقدماهما تتصافح:
فى الشارع..
أتلاقى – فى ضوء الصبح- بظلى الفارغ
نتصافح.. بالأقدام!
وفى رقم (5) نلاحظ تكرار الحديث عن الحبيبة لكنها هنا مختلفة، وكأن تلك فعلا صفحات من يومياته، ويأتى كل يوم بما فيه، ومن فيه، فلا يمنع هذا أن تكون له أكثر من حبيبة على امتداد الزمن، فهى تلك المرة:
حبيبتى فى الغرفة المجاوره
أسمع وقع خطوها.. فى روحة وجيئه
أسمع قهقهاتها الخافتة البريئة
أسمع تمتماتها المحاذره
حتى حفيف ثوبها، وهى تدور فى مكانها.. تهم بالمغادره
وكأن الإحساس بحاجز المكان يتلاشى تمامًا فى هذا المشهد، فالجدران تستحيل شفافة حتى عن حفيف الثوب!
وفى رقم (7) يترك الحبيبة قليلا لتستريح متوجهًا إلى صديقه فى منتصف الليل، ملتقيا بالقطة مرة أخرى، ويظل يطرق باب صديقه فلا ينفتح، وكأن صديقه بالداخل ولكنه يرفض أن يستقبله فيظل يطرق بابه حتى يسيل الدم من قبضته:
وأنا أطرق.. أطرق
حتى تصبح قبضتى المحمومة خفاشا يتعلق فى بندول (من شدة الطرق، وكأنها صارت حركة تلقائية)، ثم يترك سطرًا فارغًا إلا من مجموعة نقاط سوداء، وكأنها ترجمة للطرق!
يتدفق من قبضتى المجروحة خيط الدم
يترقرق.. عذبًا.. منسابًا.. يتساند فى المنحنيات
تغتسل الرئتان المتعبتان من اللون الدافئ
ينفثئ السم..
يتلاشى الباب المغلق.. والأعين.. والأصوات
.. وأموت على الدرجات.
مرة أخرى يتلاشى حاجز المكان فى القصيدة ذاتها لدرجة أن يتحول ما وراء الجدار ملحوظًا ومشاهدًا.
وتحت رقم (7) تظهر الحبيبة مرة أخرى فى صورة جديدة، وكأنه لقاء تعارف بينهما ينتهى:
فى آخر الأسبوع
كان يعُدُّ – ضاحكًا- أسنانها فى كتفيه
فقرصت أذنيه..
وهى تدس نفسها بين ذراعيه.. وتشكو الجوع!
ترى أى نوع من الجوع تشكوه؟ لم يجب الشاعر وترك للمتلقى الحق فى أن يتخيل ما يعن له.
من أكثر المشاهد تكثيفًا وتركيزًا المشهد رقم (8)
حين تكونين معى أنت
أصبح وحدى..
فى بيتى!
… … … …
وكأنها هى ذلك الأمان الذى يمثله البيت بالنسبة للإنسان، وخاصة حين يكون هذا البيت دافئًا هادئًا دون خلافات، ولكن هل “هى” التى فى هذا المشهد هى نفسها من كانت فى المشهد السابق؟
وبعد الحب تأتى دائمًا الأعباء، فبعد أن كان حبا حرا متحررا من القيود:
جاءت إلى تشكو الغثيان والدوار
“.. أنفقت راتبى على أقراص منع الحمل!”
ترفع نحوى وجهها المبتل..
تسألنى عن حل!
… … … …
لكنه يخفق تلك المرة فى الوصف، فلم يكن وصف الوجه بالبلل كافيًا لتصوير حجم الكارثة التى جاءته من أجلها!
ثم يحكى عن الطبيب الذى هنأه فى البداية:
رجوته أن ينهى الأمر.. فثار (واستدار يتلو قوانين
العقوبات علىَّ كى أكف عن القول!)
ثم يعنون على جانب الصفحة
“هامش”
أفهمته أن القوانين تسن دائمًا. لكى تخرق
أن الضمير الوطنى فيه يملى أن يقل النسل
أن الأثاث صار غاليًا لأن الجدب أهلك الأشجار
لكنه.. كان يخاف الله.. والشرطة.. والتجار!
وكأن الشاعر هنا أراد أن يختصر عددًا من القضايا التى ينبغى عدم السكوت عنها، وكم هى كثيرة..!
ثم يروح بعد تلك الخسة والنذالة يستسلم للأقدار ويتزوجها، ويصف مشاعرها:
ظلت تدير فى الوجوه وجهها المنتصر المشرق
وينتهى مشهد الزفاف لتحل محله سريعًا العادية فى المشهد التالى مباشرة:
مذ علقنا فوق الحائط أوسمة اللهفه
وهى تطيل الوقفة فى الشرفه!
واليوم..
قالت إن حبالى الصوتية تقلقها عند النوم!
وانفردت بالغرفة!!
تسجيل لمشهد من مشاهد الحياة اليومية المتكررة فى أكثر الأسر، وكأنه حول الأمر على ضخامته إلى مشهد مسرحى كاريكاتيرى ساخر..!
وبعد ذلك يسترسل فى طقوس تلك العادية وكيف يتحول الزوج إلى الصحف اليومية فى جلسة الإفطار التى تجمعه بزوجته هروبًا من أحاديثها الثرثارة فى موضوعاتها التافهة:
.. تقص عن جارتها التى ارتدت..
وعن جارها الذى اشترى..
وعن شجارها مع الخادم والبواب والقصاب
.. ثم تشد من يدىَّ صفحة الكرة!
وفى المقطع الختامى ينهى القول بما بدأه به، ولكنه تلك المرة يحذف فعل الإقرار “أعرف” مستبدلا إياه بنقطتين متجاورتين، وكأنه يريد أن ينفى هذا الإقرار لأنه لم يعد مجرد إقرار، بل تحول إلى يقين:
.. العالم فى قلبى مات.
مستكملا المقطع بذاته مضيفًا إليه فى النهاية سطرًا واحدًا فبعد أن يقول:
لا يتبقى منه سوى جمجمة وعظام!
يقول:
… … … … … وأنام!
مذيلا القصيدة بالعام التى كتبت فيه (1967) وكأن كل شىء حول هذا التاريخ كان دائريا يتردد بين الموت واللاموت، بين الشك فى الوجود، أو التحقق من عدم الوجود. كل الأمور سواء حين يشعر الإنسان بالهزيمة، لا فقط الهزيمة، بل تلك الممزوجة بالخيانة!
وهذا النص المقسم إلى مقاطع يوحى بكم الدراما التى تضفر منها النص، وكأن الدراما لم تعد وقفًا على الفنون القصصية الخالصة، بل إنها أيضًا تسربت للشعر.
ومن ديوان “تعليق على ما حدث” اخترت قصيدة “فقرات من كتاب الموت”، وتتضح الإيحاءات والدلالات الأولية للقصيدة من عنوانها، فقد كان الديوان السابق معاصرًا للأحداث، فكان كله نزفًا، وهذا الديوان بعد أن صار الناس فى الشوارع يدركون حجم المأساة التى تعرضوا لها، فيشعر أمل أن ما سيأتى سيكون من تعليقاته، وتعليقات الناس على أحداث الهزيمة، وهذا لا يتسم بطول النفس الذى اعتاده الشاعر منذ الديوان الثانى، لأنه فقرات قصيرة مكثفة إلى حد بعيد. يقول:
كل صباح
أفتح الصنبور فى إرهاق
مغتسلا فى مائه الرقراق
فيسقط الماء على يدى.. دما!
… … …
وعندما..
أجلس للطعام.. مرغما
أبصر فى دوائر الأطباق
جماجما..
جماجما..
مغفورة الأفواه والأحداق!
وكأن الموت يطغى على كل الموجودات بكل مفرداته، حتى فى خيط الماء السائل من الصنبور، وفى الأطباق التى أعدت لتناول الطعام فيها، ولا يفوته أن يتحفظ على كل مظاهر الحياة الطبيعية التى لم تعد كذلك حتى فى الشعور بأن تناول الطعام صار شيئًا يجبر عليه، ككل الأشياء..!
وكان هذا طعم الحياة حتى حين يخرج ويلتقى بالشرطى فى الشارع وبعده بخطوات يلتقى بامرأة ليل يحاول حتى أن يتحدث معها فتصدمه صورة أحد شهداء المعركة خلفها:معلقًا على الحائط، ناصع الجبهة
تغوص عيناه.. كنصلين رصاصيين
أصرخ من رهافة الحدين
.. أمضى بلا وجهة!!
ومن كان يملك وجهته فى ذلك التوقيت؟ ومن كان يستطيع تحمل مرارة الأحداث، ويصر فى تلك القصيدة على استخدام الأفعال المضارعة لتأكيد استمرارية تلك الطقوس الغريبة المؤلمة، حتى يتحول الربيع فى نهاية القصيدة إلى خريف، وتتحول كل الكائنات إلى متناقضات:
طلبت من تحبه نفسى.. قبيل النوم
فلم أجد إلا عذاب الصوم
طلبت من تحبه نفسى
فى الظل والشمس
فلم أجد نفسى!!
… … … …
وها أنا خلف النوافذ الزجاجية
أرقب عند المغرب الشاحب
طائرى الغائب!
تاركًا النهاية مفتوحة كجراح كل مصرى فى ذلك التاريخ (1969)، وربما ليتأهب لقول جديد.
ومن ديوان “العهد الآتى” أختار قصيدة “سفر الخروج.. أغنية الكعكة الحجرية” وقبل الدخول إلى عالم القصيدة هناك ملحوظة مهمة فى هذا الديوان؛ فقد كتب أمل دنقل قصائد هذا الديوان فى النصف الأول من السبعينيات، بين (75،70) حين كانت الحياة فى المجتمع المصرى كله مليئة بالمتناقضات، حتى تحول من يدافعون عن مصر هم من يقومون بتضييعها، والعبث بأمجادها.. وظهر جليا فى هذا الديوان منهج أمل الساخر من خلال كل ما يحتويه الديوان منذ صفحة الديوان فـ”العهد الآتى” ليس عنوانًا جزافيا، بل هو عنوان مدروس ومحسوب له تمامًا.. ولم يتم تقسيمه إلى أسفار وإصحاحات هكذا عبثًا، وإنما ليقول قولة محددة، فقد امتلأ المجتمع بالمدعين الذين يزعمون أنهم يدافعون عن تراب الوطن لكنهم فى الحقيقة يغترف كل منهم من خيرات الوطن تاركًا إياه للنهب والسلب والحرب!
والقصيدة التى اخترتها من هذا الديوان هى حد فاصل بين النقد والسخرية، فإذا كان الديوان منذ بدايته تتضح فيه مقدرة أمل دنقل على معالجة الأمور بلفت النظر إلى سلبيات المجتمع، فليست مهمته أن يطرح الحلول، وإنما يكفيه أن ينبه، وهيهات أن ينتبه أحد!
وقصيدة “سفر الخروج” أو أغنية الكعكة الحجرية كما اشتهرت يتبدى فيها التمرد على ما يحدث، فلم تعد القضية قضية الهزيمة أو الانتصار، وإنما الحالة الاجتماعية للمجتمع المصرى فى ذلك العهد، عهد القراصنة الجدد الذين لقبوا أنفسهم بـ”أبناء الوطن” وهو برىء من تلك الأبوة:
أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة
ليس هذا فقط بل إن كل الأشياء تتحول إلى أضرحة:
المنازل أضرحة
والزنازن أضرحة
والمدى.. أضرحة
ثم يتحول إلى قائد :
رايتى عظمتان.. وجمجمة
ثم يتناقض هو أيضًا مع نفسه:
وشعارى الصباح!
مرسومة هكذا بعدها علامة تعجب، فهو يفهم جيدًا ما معنى أن يكون شعاره العظمتان والجمجمة، ومع هذا فشعاره الصباح، هذا الذى لا يلتقى أبدًا بالقراصنة، أصحاب ذلك الشعار؛ لأنهم كائنات ليلية لا تظهر فى الصباح..!
وفى الإصحاح الثانى يلمس قضية شاعت فى ذلك العصر كثيرًا، وما زال الغموض يلتف حولها، وهى قضية الاعتقال، فحين:
دقت الساعة المتعبة
رفعت أمه الطيبة
عينها..
(دفعته كعوب البنادق فى المركبة!)
وكم تكرر هذا المشهد أمام أعين أمهات مصريات..
ويجرى مشهدين فى مكانين مختلفين: مشهد الأم التى ترتب غرفة الابن حتى يعود فيجدها منظمة، والمشهد الآخر: مشهد الابن حين:
(صفعته يد..
أدخلته يد الله فى التجربة)
ثم مشهد الأم وهى جالسة:
جلست أمه، رتقت جوربه..
فى مقابل:
وخزته عيون المحقق..
حتى تفجر من جلده الدم والأجوبة!
ويترك مساحة بيضاء إلا من مجموعة من النقاط ليشكل فضاءات متعددة للنص، ثم يكرر جملته أو “قفلته” داخل المقطع (الإصحاح) مرتين:
دقت الساعة المتعبة
دقت الساعة المتعبة!
وكأنه يصر على أن الوقت نفسه قد تعب من أفعال هؤلاء!
وفى الإصحاح الثالث راح يخاطبها، وتتضح هى بين سطور المقطع:
عندما تهبطين على ساحة القوم، لا تبدئى بالسلام
فهم الآن يقتسمون صغارك فوق صحاف الطعام
بعد أن أشعلوا النار فى العش..
والقش..
والسنبلة.
نتائج متتابعة تؤدى إلى بعضها، ولكن من هى التى يفعلون معها هذا الفعل؟ هل هى مصر؟ أم أنها الأمة العربية كلها؟؟!
ويعود فى المقطع التالى إلى وصف الساعة لكنها تلك المرة ساعة قاسية، بين صيحات من يردد “بلادى. بلادى البعيدة” والغوانى اللائى يهتفن ولا أحد يدرى متى صار صوت الغوانى مسموعًا!
دقت الساعة القاسية
كان مذياع مقهى يذيع أحاديثه الباليه
عن دعاة الشغب
وهم ليستديرون،
يشتعلون على الكعكة الحجرية حول النصب
شمعدان غضب
يتوهج فى الليل..والصوت يكتسح العتمة الباقية
يتغنى لليلة ميلاد مصر الجديدة!
أى جديدة ترى يقصد أمل؟ هذه أيضًا مفردة متعددة الدلالات..، وما زال التعبير فى مجمل القصيدة بالفعل المضارع مع تأكيده الصارم على أن هذه الوقائع ليست ابنة ليوم أو لمدى من الوقت، بل إنها لقطعة من الدهر طالت..!
وفى الإصحاح الخامس يطلب من تلك المسكينة أن تذكره لأنه مودعها وراحل إلى حيث لم يذكر فى القصيدة، لكن كلماته توحى بأنه لن يعود طالما لوثته العناوين فى الصحف الخائنة، ولونته لأنه “منذ الهزيمة لا لون لى غير لون الضياع”
ويستخدم مفردة الرمل فى المقطع نفسه فى ثلاثة أسطر متتالية ليعبر عن ذلك الذى يمثله الرمل لبلد تزيد نسبة الرمل بها عن تسعين بالمائة من مساحتها:
قبلها كنت أقرأ فى صفحة الرمل
والرمل أصبح كالعملة الصعبة
الرمل أصبح أبسطة.. تحت أقدام جيش الدفاع
فميدان المعركة كان سيناء وسيناء هى صفحة الرمل، ورملها هو الذى صار عملة صعبة حين صار لهم لا لنا..
وما زاد على أن ختم مقطعه بـ”الوداع الوداع”
ويعود فى الإصحاح السادس إلى الساعة الخامسة من جديد، مفتاح السر للقصيدة، ويصف ظهور الجنود فى الحرب، ثم اقترابهم من الميدان، وكل أسلحتهم هى غناؤهم وأناشيدهم:
يشبكون أياديهم الغضة البائسة
لتصير سياجًا يصد الرصاص!
الرصاص..
الرصاص..
وآه..
يغنون “نحن فداؤك يا مصر”
“نحن فداؤ…”
وتسقط حنجرة مخرسة
معها يسقط اسمك – يا مصر – فى الأرض
لا يتبقى سوى الجسد المتهشم والصرخات
على الساحة الدامسة!
وهنا قمة منحنى تطور القصيدة أو كما يقال فى الفن القصصى هنا تصاعدت الأحداث إلى أقصى مدى ثم يتبعها الشاعر نفسه بجملة مؤكدة لهذا المعنى:
وتفرق ماؤك – يا نهر – حين بلغت المصب!
ويعود ليكرر دائرية القصيدة كسمة من سماته الفنية:
المنازل أضرحة، والزنازن
أضرحة، والمدى أضرحة
فارفعوا الأسلحة!
ارفعوا
الأسلحة.
وتنتهى القصيدة، لكنها تفجر فى النفس الكثير الذى يصعب فك رموزه، ولكن ما أريد أن أقف عنده فى النص هو ذلك الشكل الذى كتبت به القصيدة وتلك الجمل التى تكررت وخاصة “دقت الساعة الخامسة” فهذا التحديد للوقت يجعل البطولة فى القصيدة للزمن، وهو بالفعل صاحب الفعل الرئيسى لا فى تلك القصيدة فقط، بل ربما لا نكون متجاوزين إن قلنا فى شعر أمل كله. وأما عن سمة الدائرية فى كثير من شعر أمل فلأن تلك الأحداث التى كانت مصر تمر بها (وما زالت) كلها أحداث دائرية متكررة، يسلم أولها إلى آخرها وآخرها لأولها.
من ديوان “البكاء بين يدى زرقاء اليمامة” اخترت قصيدة “اعترافات اليمامة” على ميل منى لقصيدة “لا تصالح”، وإن كان هناك رأى يقول إن هذا الديوان هو قصيدتين فقط: الوصايا العشر، وأقوال ومراثى اليمامة. ولكن الأعمال الكاملة ظهرت وهذا الديوان أربع قصائد.
وفى قصيدة “اعترافات اليمامة”:
أبى.. لا مزيد!
هل هذه مصادرة على كل ما قيل وما لم يقل بعد؟ هكذا فعلت اليمامة، قالت إنها لن تتفاوض، ولن تقبل إلا بأبيها:
أريد أبى، عند بوابة القصر
فوق حصان الحقيقة،
منتصبا.. من جديد
…
وكيف يعود من مات أو قتل؟ لا يهم. المهم عندها أن يعود أبوها. ونجح الشاعر إلى حد كبير فى تصوير تلك رموز التراثية، وإسقاطها على الواقع المعاصر حينها، والأحداث السياسية فى ذلك الحين من معاهدة كامب ديفيد إلى رفض فلسطين للدخول فى تلك المعركة، وكأن هذه هى الأقوال الجديدة، وكأنها حرب البسوس الجديدة، ويتكرر الرفض من اليمامة لكنها لا تدرى أنها بذلك (وفق وجهة نظر السادات) تجنى على نفسها، والدليل واقع الآن، رغم رفض أمل نفسه للأمير سالم الزير أن يصالح، ولكنه لم يستجب، ترى هل أثبت التاريخ صدق وجهة نظر كليب (أمل دنقل)؟ أم صدق حدس الأمير سالم الزير (السادات) فى قضية الصلح؟!
عبر الشاعر عن رأيه ورأى طائفة كبيرة فى المجتمع المصرى آنذاك كانت ترفض الصلح، ومنهم اليمامة التى كانت ” زهرة تتسربل فى ثياب الحداد”!
وها هى اليمامة تنشد العدل:
ولا أطلب المستحيل، ولكنه العدل
هل يرث الأرض إلا بنوها؟
وهل تتناسى البساتين من سكنوها؟
وهل تتنكر أغصانها للجذور..
(لأن الجذور تهاجر فى الاتجاه المعاكس؟!)
إنه ذلك الشاعر الثائر يرفض الصلح، ويرفض الانحناء، ولا يقبل حتى بالثأر، وإنما يريد أن يبعث القتيل حيا، ويتراجع الزمن عن دورة دارها، وهذا عين المستحيل..!
وكم يجرد الحزن الأنثى من صفاتها الجوهرية فتتحول إلى إرادة صلبة، وشخصية متصلبة حين تصر على الانتقام:
أقول لكم: لا نهاية للدم..
هل فى المدينة يضرب بالبوق، ثم يظل الجنود
على سرر النوم؟
ثم تواصل:
فكيف أقدم رأس أبى ثمنًا؟
من يطالبنى أن أقدم رأس أبى ثمنًا لتمر القوافل آمنة
وتبيع بسوق دمشق حريرًا من الهند،
أسلحة من بخارى
وتبتاع من بيت جالا العبيد؟
وهذه تكملة الرسالة، فمن يرد على اليمامة أو يرفض أو يكذب ما تقول..؟
ومن ديوان “أوراق الغرفة (8)” اخترت قصيدة “الموت” أو لعبة النهاية، ولا أدرى حين يكون الإنسان العادى متوقعًا موته فى أى لحظة نظرًا لظروف مرض قاسٍ كهذا الذى أصيب به أمل دنقل فى أخريات حياته، فما بالنا بالإنسان الشاعر؟ وماذا ننتظر منه سوى أبدع قصائده، ولاسيما إذا كانت إرادته فى حديدية إرادة هذا الرجل؟ وهذا ما حدث، فقد كانت له مجموعة من القصائد التى جمعتها زوجته بعد وفاته بين دفتى ديوان عنونته برقم غرفته فى معهد الأورام “أوراق الغرفة (8)، ومن بين تلك القصائد قصيدة عنونها هو مرتين مرة بـ”الموت”، وأخرى بـ”لعبة النهاية” لكنها فى الأعمال الكاملة تحت عنوان “الموت” ولم يذكر العنوان الآخر، وإن كان يحمل من الإيحاءات أكثر كثيرًا من مفردة الموت هكذا كمادة خام لم يتم تشكيلها.
يقول فيها:
فى الميادين يجلس
يطلق كالطفل نبلته بالحصى..
فيصيب بها من يصيب من السابلة!
إنه الموت من يشبه الطفل براءة حتى يطلق نبلته أو أسهم اختياره لمن يختار!
وحتى اللحظة الأخيرة فإن أمل دنقل يستخدم الفعل المضارع حتى فى وصف الموت، وهو محق فى تلك المرة لأن مشهد الموت مشهد متكرر فى الحياة اليومية وإن اختلفت صوره، وتغيرت أسبابه. ومن بالموت خبير إلا من يقترب منه خطوة بخطوة، ولحظة وراء لحظة..؟!
والقصيدة من القصائد المكثفة المركزة الطول، نستطيع أن نقول إنها أربعة مشاهد: أولها تصويره بالطفل، وثانيها اتجاهه نحو البحر لأنه لا يحب البساتين، وثالثها:
يتحول أفعى ونايا
فيرى فى المرايا:
جسدين وقلبين متحدين
تغيم الزوايا
وتحكى العيون حكايا
فينسل بينهما..
مثل خيط من العرق المتفصد
يلعق دفء مسامهما
يغرس الناب فى موضع القلب
تسقط رأس الفتى فى الغطاء
وتبقى الفتاة
محدقة
ذاهلة
ويا لصعوبة هذا التصوير حين يغرس الموت نابه فى موضع القلب فيسقط الرأس!
والصورة الأخيرة:
أمس فاجأته واقفًا بجوار سريرى
ممسكا بيد كوب ماء
ويد بحبوب الدواء
فتناولتها..!
كان مبتسما
وأنا كنت مستسلما
لمصيرى!!
وكأن ابن دنقل هنا يصور لحظته الأخيرة حقا والتى لا أظن سوى أنها كانت كذلك! فهل كان مستسلمًا حقا لمصيره؟ فربما يتنافى ذلك الاستسلام مع ما عودنا عليه أمل طوال رحلته الشعرية من رفض وتمرد وعدم استسلام، وإن كان يغفر له أن استسلامه هنا ليس لواقع يفرض عليه، أو لطاغية يفرض على الدنيا طغيانه، وإنما هو استسلام لقدر لا مفر منه، ولا يملك له ردا فمن الشجاعة أن يستسلم له تسليم رضا، لا تسليم خضوع..!!
إضافة إلى الأعمال الكاملة هناك مجموعة من القصائد لم يرتض الشاعر أن ينشرها فى ديوان، وإن كانت زوجته قد جمعتها إلا أننى أرفض هذا الحق، فطالما فضل هو ألا تظهر تلك القصائد لقصور ما شعر بها تجاهها فكان من حقه على من يحيطون به أن يحترموا فيه تلك الرغبة ولو كانت وجهة نظره فى هذا خاطئة.
تشكيلات الرفض والموت فى شعر أمل دنقل:
هذا هو أمل دنقل.. الثورة.. الرفض.. التمرد.. الحفر على أيقونة الموت عندما تتحول إلى مؤثرات حركية: سمعية وبصرية وحسية فى آن!
ربما لا أجازف حين أقول إن شعر أمل دنقل لا تخلو أى قصائده من تلك الأيقونات الأربعة: الرفض والثورة والتمرد والموت، على اختلاف تشكيلات كلٍّ منها، وسأحاول الوقوف عند نماذج من كافة دواوينه لتتبع تلك الظاهرة ودراسة أثرها على شعره، ومدى توظيفها فى قصائده، ويكفى أن نعرف أن مفردة الموت وحدها تكررت فى شعرها بلفظها واشتقاقاتها أكثر من مائتى مرة على امتداد شعره، وهذا كفيل بأن يوضح مدى تمركز فكرة الموت فى ذاكرة الشاعر سواء معنويا أو ماديا، للذات أو للوطن، أو حتى لمفردات الكون.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فحين يقول:
لا تصالح
.. ولو منحوك الذهب
فهو يرفض الصلح ولو كان مقابله ذهبًا، ثم يتحول الرفض لديه إلى ثورة:
واغرس السيف فى جبهة الصحراء..
إلى أن يجيب العدم.
وهل سيجيب العدم؟ لا يهم، وإنما المهم هو الفعل دون انتظار رد للفعل، ثم يقطع خط الرجعة حين يصل الأمر إلى التحريض:
لا تصالح
ولو حرمتك الرقاد
صرخات الندامة
وتذكر..
إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين
تخاصمهم الابتسامة
أن بنت أخيك “اليمامة”
زهرة تتسربل فى سنوات الصبا
بثياب الحداد..
ويبلغ التحريض قمته حين يقول:
كيف تنظر فى وجه من صافحوك
فلا تبصر الدم
فى كل كف؟
إن سهما أتانى من الخلف..
سوف يجيئك من ألف خلف.
ثم يكرر التحذير من جديد:
لا تصالح
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام.
فأى عار بعد أن يسمح المرء لقاتليه برفقته من جديد، والقتل هنا معنويا.
وفى قصيدة “بكائية ليلية” مظهر آخر من مظاهر الموت:
للوهلة الأولى
قرأت فى عينيه يومه الذى يموت فيه
رأيته فى صحراء “النقب” مقتولا..
منكفئا.. يغرز فيها شفتيه
وهى لا ترد قبلة.. لفيه!
إلى هذا الحد بلغت شفافية الشاعر مع كل ما يخص طقوس الموت، وفى نهاية القصيدة يأتى مشهد ختامى يتمم رواية الحدث:
وحين يأتى الصبح فى المذياع بالبشائر
أزيح عن نافذتى الستائر
فلا أراك..!
أسقط فى عارى بلا حراك
أسأل إن كانت هنا الرصاصة الأولى؟
أم أنها هناك؟!
وفى قصيدة “كلمات سبارتكوس الأخيرة” صورتان إحداهما للرفض “مزج أول”:
المجد للشيطان معبود الرياح
من قال “لا” فى وجه من قالوا “نعم”
من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال “لا”.. فلم يمت
وظل روحا عبقرية الألم!
وكأنه من جديد يحرض على الرفض ويعلم الناس كيف يقولون “لا” تلك اللفظة التى لا يجرؤون على النطق بها.
والصورة الأخرى للموت تحت عنوان “مزج ثان”
معلق أنا على مشانق الصباح
وجبهتى بالموت محنية!
لأننى لم أحنها حية!
فكيف يتحول الصباح إلى طاغية يملك المشانق وينصبها له ولمن يقفون إلى جانبه؟
وحتى فى قصيدة “البكاء بين يدى زرقاء اليمامة” فيبدؤها بحضوره إليها:
مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف فى معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء.
ثم يتبع ذلك بصورة جد مقززة:
لا تغمضى عينيك، فالجرذان..
تلعق من دمى حساءها.. ولا أردها!
ثم حين يستجديها أن تتحدث ربما يتوقف نزيفه:
تكلمى أيتها النبية المقدسة
تكلمى.. تكلمى..
فها أنا على التراب سائل دمى
وهو ظمئ.. يطلب المزيدا
وفى “يوميات كهل صغير السن” لم يكتف بموت الموجودات والأشياء، وإنما وصل الموت ليصيب العالم:
أعرف أن العالم فى قلبى مات!
وفى قصيدة “الموت فى لوحات” يبدو من عنوانها أن الموت هو بطلها:
شقيقتى “رجاء” ماتت وهى دون الثالثة
ماتت وما يزال فى دولاب أمى السرى
صندلها الفضى!
…
لكنها نادت أباها فى الصباح..
فظل صامتا!
هزته.. كان ميتا!!
…
حبيبتى فى لحظة الظلام، لحظة التوهج العذبة
تصبح بين ساعدى جثة رطبة!
وكأنه الموت يرسم عليها ملامحه دون أن تموت
وفى قصيدة”العشاء الأخير” يفتتحها بـ”بكائية”
أعطنى القدرة حتى أبتسم..
عندما ينغرس الخنجر فى صدر المرح
ويدب الموت كالقنفذ فى ظل الجدار
حاملا مبخرة الرعب لأحداق الصغار
أعطنى القدرة حتى لا أموت
ثم يأتى مشهد آخر عن الموت فى أواسط القصيدة:
التحيات “مساء الموت” يا قلبى
فلا تلق التحية
من ترى مات؟
أنا..
أنت!
أجل.
أنت لا تملك يوما أن تموت.
وفى النهاية يتساءل:
ما الذى آكله الآن إذن..
كى لا أموت؟
وكأن الموت صار هو المسيطر الوحيد عليه، وهنا فى قصيدة “من مذكرات المتنبى” يمتزج الموت بالرفض بالسخرية:
سألت عنها القادمين فى القوافل
فأخبرونى أنها ظلت بسيفها تقاتل
فى الليل تجار الرقيق عن خبائها
حين أغاروا، ثم غادروا شقيقها ذبيحا
والأب عاجزا كسيحا
واختطفوها، بينما الجيران يرنون من المنازل
…
ساءلنى كافور عن حزنى
فقلت إنها تعيش الآن فى بيزنطة
شريدة.. كالقطة
تصيح “كافوراه.. كافوراه..”
فصاح فى غلامه أن يشترى جارية رومية
تجلد كى تصيح “واروماه.. واروماه..”
.. لكى تكون العين بالعين
والسن بالسن!
وكأن كل ما يمكنه فعله هو ذلك بدلا من أن يهب بجيش لنجدتها!
وقصيدة “ميتة عصرية” هى نفسها بصياغة اسم الهيئة “ميتة” موصوفة بالعصرية أو الجدة:
مد ساقيه
وكان الرعب فى عينيه..
صار الصوت والموت
عدوا واحدا منقسما!
وهو فى هذا النص يتحدث عن النيل وما حدث له.
وفى قصيدة “حكاية المدينة الفضية” يمتزج الرفض بالعجز، وما أصعب أن يلتقى الرفض بالعجز فى قلب إنسان:
آه لو أملك سيفا للصراع
آه لو أملك خمسين ذراع
لتسلمت بإيمانى الهرقلى مفاتيح المدينة
آه.. لكنى بلا حتى..
مئونة!
وقصيدة أخرى بعنوان “الموت فى.. الفراش” وكأنها سلسلة من قصائد الموت فى كل مكان ولكل شىء:
أيها السادة لم يبق اختيار
سقط المهر من الإعياء
وانحلت سيور العربة
ضاقت الدائرة السوداء حول الرقبة
صدرنا يلمسه السيف
وفى الظهر الجدار!
ثم يستدعى صورة أخرى من صور التراث وهذه المرة على لسان خالد بن الوليد:
“أموت فى الفراش.. مثلما تموت العير”
أموت، والنفير..
يدق فى دمشق..
أموت فى الشارع، فى العطور والأزياء
أموت، والأعداء..
تدوس وجه الحق.
“وما بجسمى موضع إلا وفيه طعنة برمح”
.. إلا وفيه جرح
إذن
“فلا نامت أعين الجبناء”
وأظن لو حذف “إذن” تلك لكان الربط أقوى والانسيابية أوقع.
وفى “مراثى اليمامة” تتشكل القصيدة بلون الدم، وطعم الموت فى كل سطر من سطورها:
خصومة قلبى مع الله..
إنى أنزه سهم منيته أن يجىء من الخلف
إن الذى يطلق السهم ليس هو القوس..
بل قلب صاحبه
والذى يجعل النفس تستقبل الموت راضية.. نبل واهبه،
فأنا أرفض الموت غدرًا..
ولا تخفى رائحة الموت فى أوراق الغرفة (8) لأن الموت إحدى مفردات التشكيل الفنى فى هذا الديوان من ألفه إلى يائه؛ لأن الديوان كله تقريبًا مؤلف على سرير الموت! من السرير الذى التصقت به أضلاعه، إلى الموت الذى يطلق كالطفل نبلته بالحصى، إلى الطيور المشردة فى السماء وليس لها أن تحط على الأرض، إلى الخيول التى كتبت بدمائها الفتوحات، إلى طوفان نوح الذى جاء، فكلها صور حية مجسدة لمعنى الموت أو بعض من مفرداته ممزوجة بسخرية مرة، ورفض عاجز لا يملك رد الواقع، أو حتى تغيير صورته!
خصائص أسلوبية فى شعر أمل دنقل
الفعل المضارع واستخداماته وإيحاءاته فى الديوان:
استخدم الشاعر الأفعال المضارع حتى فى السرد، وبرغم مناسبة الفعل الماضى أكثر للسرد إلا أن الشاعر له هدف من وراء ذلك، فحين يقول:
تدق فوق الآلة الكاتبة القديمة
وعندما ترفع رأسها الجميل فى افتراق الصفحتين
تراه فى مكانه المختار.. فى نهاية الغرفه
يرشف من فنجانه رشفه
يريح عينيه على المنحدر الثلجى فى انزلاق الناهدين.
فالتعبير بالمضارع يعنى أن السرد هنا ليس مختصا بزمن وأفراد لهم سماتهم الخاصة، وإنما هذه نماذج للحياة اليومية، ومثال ذلك:
نافورة حمراء
طفل يبيع الفل بين العربات
مقتولة تنتظر السيارة البيضاء
كلب يحك أنفه على عمود النور
وفى قصيدة أخرى يقول:
وعجوز هى القدس (يشتعل الرأس شيبا)
تشم القميص. فتبيض، أعينها بالبكاء
ولا تخلع الثوب حتى يجىء لها نبأ عن فتاها البعيد
فتشكيلات الفعل المضارع كثيرة وثرية فى الديوان، وتستحق أن تنفرد بدراسة خاصة.
فالشاعر يريد أن يثبت أن ما يحكيه يدخل فى إطار الواقع المتجدد، المستمر، المتغير، والحادث يومًا بعد يوم.
الجمل الخبرية فى الديوان:
وهذا الديوان ثرى أيضًا بالجمل الخبرية التقريرية التى تقر وقائع حادثة، كما سبق فى قصيدة “يوميات كهل صغير السن”:
أعرف أن العالم فى قلبى مات، ومثلها:
بداية قصيدة “الهجرة إلى الداخل”:
أترك كل شىء فى مكانه
الكتاب، والقنبلة الموقوتة
وقدح القهوة ساخنا،
وصيدلية المنزل،
واسطوانة الغناء
والباب مفغور الفم
ويواصل عد الأشياء التى يتركها فى مكانها ويعبر “الشوارع الضوضاء” مخلفا وراءه أيضًا عدد آخر لا يقل عن هذا الذى يتركه فى المنزل، وكأنه شخص يهوى مغادرة الأشياء على حالها سواء فى البيت أو السوق أو الطريق.
وفى قصيدة أخرى يقول:
عائدون، وأصغر إخوتهم ذو العيون الحزينة
يتقلب فى الجب
أجمل إخوتهم لا يعود!
وكأنه يرفض أن يراجعه أحد فيما يقول، فجمله لا تحتمل سوى الصدق، ولا مجال لشك أو تكذيب، وهنا قد بدأ الجملة باسم الفاعل “عائدون” ولم يقل “عادوا” أو “يعودون” لأنه أراد أن يدل على استمرارية العودة وثباتها، وأنها استغرقت وقتًا طويلا.
وفى قصيدة ثالثة:
مصفوفة حقائبى على رفوف الذاكرة.
والسفر الطويل..
يبدأ دون أن تسير القاطرة!
فهو يقرر أيضًا أن السفر قد بدأ، وأن حقائبه مصفوفة على رفوف الذاكرة، وبدأ قوله بفعل الصف فى صيغة اسم المفعول الذى يعنى أن الفعل قد تم وثبت على تلك الحال منذ مدة زمنية معينة سواء طالت أو قصرت، المهم أن الاهتمام بالمسند إلى الحقائب، أو الفعل الحادث فيها، أكثر منها هى ذاتها، وأكثر من الفاعل أيضًا. ويقرر الشاعر أن السفر طويل، بما توحى به الياء الممدودة الدالة حقا على الطول، ولكن المدهش فى الأمر أن فعل السفر يتحقق دون أن تسير القافلة، وكأنه سفر معنوى يقصد به السفر داخل الذاكرة نفسها التى صفت على رفوفها حقائبه!
بين الأمل والألم.. هذا هو أمل:
ديوان أمل دنقل هو ملحمة الموت على إيقاع حوافر الحياة إن صح هذا التعبير فى لغة الدرس الأدبى، بمعنى أن كل قصيدة كوحدة بناء للديوان لم تخل من رائحة الموت أو مركباته، وإن خفتت أحيانًا إلا أن هذا لا يعنى أنه غير متحقق.
وربما بقدر وضوح الألم والموت فى الديوان قد يتوهم البعض أن الأمل ليس له الوضوح نفسه، ولكن هناك دليلا شديد الأهمية والوضوح على تحقق وجود الأمل فى الديوان، وهو قصائد الديوان نفسها، فطالما وجد الشاعر فى نفسه القدرة على التواصل مع الحياة فذلك أكبر دليل على تمسكه بالأمل فى الحياة وحب التواصل معها والاستمرارية فيها.
فكل قصائد الديوان هى مظاهر للأمل فى شعره، ولو لم تظهر فى ألفاظ الديوان ومفرداته.
الإيقاع الداخلى فى قصائده:
لو اعتبرنا أن الحديث عن الإيقاع الخارجى مكررًا وأن دواوين الشعراء المحدثين لا تتعدى حدود الأبحر المفردة وخاصة المتدارك والمتقارب والرجز والرمل والهزج فلا داعى لتكرار هذا فى معرض الحديث عن أحد هؤلاء الشعراء، وإنما تبقى نقطتان لا تقل أهمية إحداهما عن البحور المستخدمة أولاهما نظام القوافى، وثانيتهما الإيقاع الداخلى بين السطور الشعرية.
فأما عن القوافى فقد سار أغلب شعر أمل دنقل فى إطار القافية المقيدة فى المقطع الواحد، وأحيانا قافية واحدة تستخدم طوال القصيدة، وظهر هذا أكثر ما ظهر فى الديوان الأول “مقتل القمر” فمثلاً فى قصيدة طفلتها سبق الحديث عن القافية التى قيدت القصيدة ودور ذلك الإيقاع المجهور فى إضفاء نوع من المعاناة والمرارة بين أحداث القصيدة يؤيدها الإيقاع:
لم يكن يملك إلا مبدأه
وفتاة ذات ثغر يشتهى قبلة الشمس
ليروى ظمأه
خفق الحب بها فاستسلمت
وسرى الحب به، فاستمرأه
بهما قد صعدت مركبة
للضحى
فى قصة مبتدئه
وهكذا منذ بداية القصيدة إلى نهايتها هو الإيقاع نفسه لا يتغير.
وهناك قصائد مقطعية، تفصل بينها أرقام أو عناوين جانبية يكتفى فيها بقافية بين بعض سطور كل مقطع:
يا قيصر العظيم قد أخطأت.. إنى أعترف
دعنى على مشنقتى ألثم يدك
ها أنذا أقبل الحبل الذى فى عنقى يلتف
فهو يداك وهو مجدك الذى يجبرنا أن نعبدك
…
يا إخوتى الذين يعبرون فى الميدان فى انحناء
منحدرين فى نهاية المساء
لا تحلموا بعالم سعيد..
فخلف كل قيصر يموت.. قيصر جديد
أى أن القوافى تنوعت بين القصائد، كما أن هناك قصائد تتباعد بينها القوافى جدا، أو تقترب جدا مثل قصيدة “الورقة الأخيرة” أو الجنوبى:
رفسة من فرس
تركت فى جبينى شجا، وعلمت القلب أن يحترس
أتذكر..
سال دمى
أتذكر
مات أبى نازفا
أتذكر..
هذا الطريق إلى قبره..
أتذكر
أختى الصغيرة ذات الربيعين.
لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها
المنطمس
ويوازن تباعد القوافى أو عدم معياريتها فى مثل تلك القصيدة الإيقاعات الأخرى التى وظفها الشاعر حتى تشعرنا بتواصل النغم فى القصيدة، فمثلا فى تلك القصيدة تكرار جملة أتذكر أعطت نوعا من الجرس الموسيقى أضيف إلى القافية.
النقطة الأخرى التى لا تقل أهمية عن البحور والقوافى هى ذلك الإيقاع الداخلى فى القصائد أحيانًا بين سطرين وأحيانًا بين مجموعة من الأسطر:
عثروا بى مع الصبح، أهذى بغيبوبة الموت
محتقن الوجه، خاوى الوفاض
يتفتت حلقى لقطرة حب..
فالفاصلات القصيرة تعطى نغمًا إيقاعيا سريعا يشعر بجرس موسيقى واضح، ومما يؤدى إلى وجود إيقاع داخلى بين السطور فى كثير من الأحيان هو ذلك النوع من المفارقات التى يبنى عليها الشاعر كثيرًا من قصائده:
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى؟
هى أشياء لا تشترى..
…
وتحاملت حتى احتملت على ساعدى
فرأيت ابن عمى الزنيم
واقفا يتشفى بوجه لئيم
لم يكن فى يدى حربة،
أو سلاح قديم
لم يكن غير غيظى الذى يتشكى الظمأ.
وبعد.. فقد كنت أود أن أتحدث عن موضوعين من أكثر الموضوعات ثراء وتشويقًا وهما تشكيل الصورة فى شعر أمل دنقل، والاستلهام لبعض الشخصيات والأحداث التراثية فى شعره، ولكن كل موضوع من هذين يستحق الانفراد ببحث يخصه، وشجعنى على عدم الحديث عن أيهما كثرة خوض السابقين فى هذين الموضوعين تحديدًا فى شعر أمل دنقل لدرجة أننى أتوهم أن أى كلام فى أحد هذين الموضوعين سيكون تكرارًا، ومن الصعب أن يكون فيه شىء جديد.
كلمة أخيرة:
هذا هو أمل دنقل وهذا هو شعره الذى لا يخلو من ثورة ورفض، وثورة على الفساد الاجتماعى الذى كانت مصر عرضة له بين تغيير فصول الحكم السياسى، فبين المعتقلات والهزيمة والإصلاح السياسى وأشياء أخرى بلغ المجتمع المصرى فى أثنائها قمة تدهور الوعى القومى عاش هذا الكائن وتلك الروح “عبقرية الألم”، وعبر عن الواقع خير تعبير، وإن تجاوز أحيانًا فلأن الواقع كان قاسيًا مؤلمًا ولا أحد يعترض أو يرفض، فكان لا بد من أن ينصب من نفسه داعية للثورة على الفساد والطغيان.
________
*شاعرة وأديبة من مصر
*شاعرة وأديبة من مصر