عزيز تبسي *
ليسوا من سبط الأنبياء الذين ساروا على المياه، في الوقت الذي تعثّر أتباعهم بالسير على اليابسة. وليسوا من أرومة من كانوا يلمسوها بعصاهم فيتجمّد ماؤها ليعبروا بأمان ويبتلّ مطاردوهم في لجتها، ولم يقضوا في جوف حيتانها أياماً، قبل أن تترفق بعذاباتهم وتخرجهم محملين بأبجديات الصبر والمقدرة على مواجهة محن الوقوع في التهلكة.
هم من الذين لا يعرفون المياه إلا شحيحة، تقطر من صنابير نحاسية، يتبدّد ماؤها قبل الوصول إلى بيوتهم، وقد تسرّبت في دربها الطويل من شقوق الأنابيب المعدنية التي تآكلها الصدأ والثقوب التي لا تلتئم.. ومن توفرت له النعم منهم، قاده أهله إلى أحواض مائية، يستنشق ماءها ويزفره في سعال طويل.
قدّسوا اليابسة لثباتها تحت أقدامهم الزلقة، ولرحمتها بعظام أجدادهم، ولإحساسهم الدائم بعزم اللصوص سلبهم إياها. تراهم كأوتاد مدبّبة مدقوقين في ترابها السبخ، في صخرها الصوان، تلاصقوا بها حتى حملت وجوههم لون ترابها، وهي لما تزلّ تكرم أجسادهم الشابة الماضية إليها قبل الأوان، فتخصبهم في جوفها، لتستنبتهم شيح وزوفاء وإكليل جبل وطيّون وزعتر.. وشقائق نعمان.
لكنهم في هذه السنوات معنيون بعبور البحر من ضفة إلى ضفة. يقفون على الشاطئ فلا يرون الضفة الأخرى. “واسع هذا البحر، متباعدة ضفتاه”، “وعميق، أليس كذلك؟”
ها هو البحر من أمامهم والصحراء التي لا تنتهي من ورائهم. لكن مثل هذا الكلام لم يعد كافياً، تتوجب معرفة البلدان والكيفيات التي يتم العبور إليها، وشروط أصحاب القوارب وأجورهم واحتيالاتهم التي لا تنتهي، ومعرفة البلدان التي فقدت السيطرة على شواطئها، بفعل تدمير دولها وتبعثر ريح سلطتها.
في أول الترحل من مدينته إلى دمشق، نجا بأعاجيب من حواجز الثوار الذي خال نفسه واحداً منهم. وتيقن في عَمّان أن سقف مكانه، رغم الشهادات التي سهر الليالي ليحصلها، وحسبها ستعوّضه عن الضعف السلالي في عموده الفقري، لن يكون إلا “صبي المقهى” الذي عمل فيه على تقديم أكواب الشاي وفناجين القهوة، وإن ترقّى فسيعمل محاسباً فيه.
أوصلته المناقشات مع مَن باتوا يُعرَفون بـ “الجالية السورية” أو “النازحين السوريين” ربما تمييزاً عن “النازحين العراقيين” أو “اللاجئين الفلسطينيين”، وبعد التحريات الطويلة مع مَن التقى بهم منهم، أن ليبيا هي المكان المناسب للعبور الانتقالي. ليبيا التي وقعت بين جنون سلطتها وعنجهيتها، ودوسها على كل المطالب التي تقدم بها أبناؤها، وبين الحلف الأطلسي الذي لا يحمل من البرامج التحررية الافتراضية إلا الخراب، خراب الدول وتذرير المجتمعات، ومتابعة الإشراف على دمارها الذاتي، بعد العمل على إغلاق المخارج الممكنة. انتقل في البداية من عمان إلى الجزائر، بعدما تيقن من توقف الرحلات الجوية إلى ليبيا، وتعقد شروط الدخول إلى مصر. هبطت الطائرة في مطار “هواري بومدين” اسم الرئيس الراحل الذي يذكِّر بالثورة الجزائرية وبالمد التحرري للشعوب العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وقد يذكِّر بمآلهما كذلك.
انتقل بالطائرة مع مجموعة من السوريين، بعد إقامة يومين في العاصمة، إلى منطقة “وادي سوف” في الجنوب، ومنها تابع برحلة في البر استغرقت ست عشرة ساعة إلى منطقة “الدبداب”. هناك التقى بعائلات من سوريا فيها العديد من الأطفال والنساء، بينهن مرضعات وحوامل. “ترى كيف احتملن الوصول إلى هنا، وأنا الشاب المفرد أنهكت، ولا أحمل سوى حقيبة رياضية ولا أتحمل مسؤولية أحد”… ومن هناك انتقلوا إلى منطقة “عين ميناس” وهم داخل سيارات “جيب” أوصلتهم إلى الطرف الليبي من “غدامس”، حيث كان في انتظارهم أشخاص بسيارات عسكرية مستولى عليها، ولا تزال أبوابها تحتفظ بشعار وزارة الدفاع الليبية – هيئة الأركان. تأكد الحراس الليبيون الذين يرجّح أن يكونوا من “عشائر الزنتان”، من أعدادهم، قبل أن يدخلوهم إلى غرفة بيت ريفي.. وجلسوا بعد ذلك أمام نوافذه، يدخنون الحشيش طيلة الليل.
انتقلوا في الصباح من “غدامس” في الصحراء الليبية إلى “زوارة” على شاطئ البحر المتوسط، بشاحنة لنقل اللحوم المذبوحة، وكان عددهم ستين، منهم عشرون امرأة وطفل. تنشقوا خلال السفر ذاك الهواء من فتحة وحيدة في أعلى السقف.
تساءلوا حينما سمعوا اسم القوارب، “قوارب النجاة” هذه التي تتسرّب المياه من قاعها ويكاد يقلبها الموج الخفيف، إن كانت هذه كذلك، فإذاً ترى كيف تكون قوارب الموت. جمعتهم المصادفات في بيت أغلقت رتاجات أبوابه، كأنه سجن، تجمّعت في جوفه الجماعات المسلحة التي امتهنت التهريب البري، ممن يوصلهم إليها سماسرة، لتصطادهم بكمائن من وعود معسولة، رغم أنهم لا يحتاجون إلى من يصطادهم، فقد دفعتهم الأقدار إلى البحث عن هذه الجماعات التي اختبرت التهريب وعرفت أحابيله وكمائنه، ومكامن ضعف الكائنات البشرية الهاربة من أنظمتها وفقرها وذلها.
يحنّ المرء، وهو في عرض البحر، إلى أرض صلبة، تحتمل بصبر السير فوقها بأحذية خشنة، لا قارب يترنح، ويخرج الراكبون فيه كل ما في جوفهم.
– أينتظرك أحد في تلك البلاد، كأن يقف قبالة الشاطئ، ويلوّح لك بالمنديل، ويضمك إلى صدره لحظة تنزل على الرصيف.
– لا أحد ينتظرني. مَن انتظرني لسنوات واقفاً على الشرفة تركته هناك. والتفتَ بعناء، محرراً ذراعيه من ضغط الذين يجلسون قربه، وأشار بكفه إلى الخلف، فلم يرَ إلا البحر كموكب أزرق لانهائي.
انتظر الترحيل إلى مخيم جالساً على حجر، واضعاً حقيبته القماشية بين ساقيه.. ولحظة سمع رجال أفارقة يدّعون أمام اللجنة أنهم سوريون ليحظوا بالقبول وربما بالمعاملة الحسنة، بينما يفتقد أهلها كل يوم هذا الانتماء، أحس بعصائر حارة تتسرّب من مدامعه وتبلل وجهه، انحنى على حقيبته مخفياً وجهه، منتظراً سماع اسمه، لا بتلك اللكنة الإيطالية المضيافة، بل بصوت أمه الواقفة على الشرفة.
______
*السفير العربي