نجوى الزهار*
في حياة كل منا لحظات منتقاة . لحظات بلا لون هاربة من اللازمان اللامكان.
هي لحظات .. تلك اللحظات إذا ما صادفناها أو بالأحرى عشناها لمسناها .. أي كان .. تتغلغل فينا . ولكني لم أكن أعلم أن تلك اللحظات الهاربة من رحم الزمان والمكان .. من الألوان .. من الأوصاف سوف يكون لي حظ جميل بأن أتذوقها .. نعم , طلعنا على الحرية .. شربتها تذوقتها فكان لا بد لي من كتابتها .
شعرت بحالي كمثل من يمتلك أو تمتلكه زهرة صوفية فيبخل بها . تراوده نفسه لحظات أن يركنها في قدس أقداسه.. تحاوره ويحاورها .. تناشده ويناشدها.. إلى أن يغيب وتغيب الأكوان.
ولكن كان لابد لي من هذا .. تعالوا معي .. تعالوا وكونوا رحيمين بي خطوة وراء خطوة.
لربما أعيشها مجددا ولربما يكون كرمها أكثر مما أستحق .. فتأتي حروفي أيضا بها مذاق الحرية.
طلعنا الى الحرية .. ذهبت للمكان بخطواتي أقف بانتظار الدخول الى المسرح .. هكذا أطلق عليه.
طلعنا الى الحرية
امتلأ المكان بأكثر مما يحتمل .. ولكن ذاك الصوت الجميل أعرفه تماما “يلا يا شباب أعطوا أماكنكم للسيدات , خلينا نبدأ العرض”.
بدأت خلايا الحنان تتجلى في يدي , تركتُ يدي بيد جدتي في دمشق .. تركتها .. ها هي تمسك بيدي .. نصعد الى الباص ..أقول لها : ما من مكان لنا يا جدتي .. تضغط على يدي لكي أفهم.
وما أن نصعد الباص حتى نسمع نفس الصوت “يلا يا شباب خلي الستات تقعد”.
انظر بعيون جدتي .. تنظر بعيوني .. تبتسم .. تقول لي عيونها : “لا تقلقي نحن في الشام .. نحن في الشام”.
وعاودني الذي عاودني .. كرة تتدحرج في حلقي .. أيتها الكرة اهدئي .. لا مجال لك الآن .. تلك الكرة لازمتني .. لازمتني.
واحب ونحب أن نراوغ .. أراوغ نفسي .. أقول : لدي التهاب بالحلق .. أبدأ بالغرغرة بالماء والملح .
إنه الشوق .. الشوق .. الشوق يا شام
ولكن هيهات أيها الشوق أن تنجلي .. الى أن تقترب مني أختي :
ما بك
لا شيء
وكان أن ابتدأ الذي يُطلق عليه مجازا عرض مسرحي .. وكان يا ما كان .. وسوف يكون ذاك الحديث الصامت .. تلك الصور الجميلة تحكي الحكاية بالصمت بالموسيقى بالحركة.
كانت الحكاية وما زالت.
واستطعنا أن نرى ونسمع ونشعر .. أ لم أقل لكم أننا نتذوق طعم الحرية , كل طفل .. كل حركة .. كل مشهد يحكي الحكاية.
ولكننا كنا نرى ما قبل الحكاية وما بعد الحكاية .. خلف كل طفل كنا نتساءل : أين عائلتك؟ ماذا جرى لهم؟ من أنت الآن؟ أتراك خلف كل هذا قد استطعت أن تُمسك بالجرح وتمر عليه بيدك الجميلة لكي يشفى؟ لكي لا يتقيح .. لا نريد للجرح الشامي أن يتقيح.
دماء .. أرواح .. بكاء .. هذه المشاهد عشناها .. رأيناها .
حتى لو لم تكن على خشبة المسرح .. ولكن كان لا بد للنور .. للون الأبيض أن يُزيح كل الألوان جانبا , فيكون لنا لون الصفاء والحب هو لون الحرية.
كأني بهم هؤلاء جميعا الذين نسجوا خيوط “طلعنا على الحرية” قد أمسكوا بمنخل كوني وغربلوا .. وغربلوا ليكون لنا ذاك المشهد النابض بالكبرياء.
كيف باستطاعة هذا الفن أن يُمسك بالحب .. بالأمل .. بالتسامح.
حتى في اللحظات الحرجة .. تلك اللحظات الحرجة التي مازلنا نمر بها جميعا .. في تلك اللحظات الحرجة نريد أن نصرخ وأن نتهم وأن .. وأن.
ولكن طلعنا على الحرية تشدنا .. تمسك بنا وتقول : ما من مكان لدينا إلا للتسامح والحب.
سوف نبني ما قد دُمَّر وسوف تستعيد الشام شامتها.
ويأتي السؤال .. ما هو المسرح؟ هل يسعى المسرح لأن يعكس العالم الواقعي؟
ولكن طلعنا على الحرية بالرغم من اسمها “مسرحية” لم تكن كذلك .. هي أمسكت بعوالمنا جميعا .. استطاعت أن تُرغمنا على أن نرى ما لا يُرى .. فهذا راجح نراه قد تخلّى عن كرسيه المتحرك ليكون أمامنا جميعا ذو قامة روحية سوف ترافقه في حياته .. ذاك العَبق الروحي تجول فينا وبنا .. قُدرةٌ انفعالية تم تطويرها عبر هذا المشوار مع طلعنا على الحرية.
ما عدنا ندري من منا الممثل ومن المخرج ومن أين أتت الموسيقى.
تلك الروابط الانفعالية الخفية تبرز وتشكل العبارات غير المنطوقة.
ويدور المكان .. ويدور .. ويدور .. الى أن تلفنا العصا السحرية التي أمسَكَتْها الطفلة الجميلة .. تحركها .. تحركها .. فتحضر أرواح الذين غابوا بأجسادهم .. هذا أبونا باولو فرحا سعيدا مهنئا المخرج جلال .. وهذا مُلهَم الذي استشهد في اللاذقية يبتسم لمنار وهو يردد : ألم أقل لك .. ألم أقل لك أننا لا نموت..
يشق المكان والزمان طاغور ويدعوننا الى قصيدته :
حيث العقل لا يخاف والرأس مرفوع عال
وحيث المعرفة حرة
وحيث العالم لم يُمزق جدرانه التعصب
وحيث تخرج الكلمات من أعماق الحقيقة
حيث الكفاح المستمر يمد ذراعيه نحو الكمال
وحيث لا يفقد جدول العقل مجراه في صحراء التقاليد الميتة
وحيث يقود العقل نحو ساحات أفسح من الفكر والعمل
تحت سماء الحرية .. يا إلهي أيقظ وطني
ثم يقترب العارف بالله عبد الغني النابلسي ويشدو :
قم تأمل في هذه الأنوار واخْل منك المحل للأسرار
نحن في جنة المعارف نزهو والعدا في جهنم الأفكار
ظلمات ونحن في نور حق هو عنهم بكونهم متواري
وماذا بعد؟ ألم أقل لكم إنها ليست بالمسرحية بل إنها زنبقة شامية.
* كاتبة من الأردن