*غادة السمان
لأنني احب الصوت الجميل العاري من الغوايات الأخرى تابعت برنامج «ذا فويس» بنسخته الفرنسية فقد جذبتني إليه موضوعيته، وقدمته القناة الفرنسية الأولى FR1.
تقف المطربة/المطرب ويغني دون أن يراه أي من المحكمين وهم من المغنين المشهورين في فرنسا على الأقل: جنيفر ـ زازي ـ ميكا ـ فلوران باني، حيث يجلسون في مقاعد عالية المساند ويديرون ظهورهم لمن يغني. ويختارون الصوت الجميل حقاً.
و(المصفاة) هذه تجعل المدرب المحتمل، أي المشهور الذي سيتبنى صاحب الصوت، يحكم فقط على جمال الصوت وأدائه بعيداً عن أي اعتبار آخر كجمال الشكل والتعري والرقص الخليع وغير ذلك.
ومن بين المرشحات جاءت شابة جميلة غنت بصوت بديع وأداء متقن ساحر هي اللبنانية هبة طوجي وقال مقدم البرنامج انها مشهورة جداً في لبنان وسرني ان يمثل لبنان صوت يشبهه، بالغ الجمال والحرفية الراقية..
وجدت صوتها الأجمل والأفضل من صوت «باتيستا» (الكورسيكية) التي تبنتها جنيفر، وآن سيلا التي وصلت إلى مرحلة التصفية النهائية بترشيح من الشهير «باني».
هبة طوجي ويانسين جبلي
لقد ضبطت نفسي متلبسة «بالانحياز المشهود» إذ تحمست للمطربة هبة طوجي التي «أبدعت لتتسلم أمانة مسرح الرحابنة» ولأن أسامة الرحباني «حاك وجودها من مواد انكرت كل ابتذال وانحدار وضجر» كما طالعت في «مرايا» الإعلامية المعروفة الأدبية مريم شقيرأبو جودة، تحت عنوان: هبة طوجي والانطلاقة نحو العالمية. وتضيف مريم، ان أسامة الرحباني «راهن على صورة مجيدة لإكمال مسيرة الرحابنة الكبار ومشاركة هبة في برنامج «الصوت» ستجعلها في مرآة الخلود كفنانة أتت من كوكب خيالي وعهد الرحابنة الصارم بالقوانين الفنية القاسية « كما كتبت مريم. ولكنني أتساءل: هل أعجبت بها وبالمغني الشاب ياسين جبلي لأن هبة لبنانية شكلاً وأداء وسلوكاً وانا أحب لبنان وفنه و»ياسين جبلي» من المغرب العربي وصوته مثلها رائع ويمزج أغنيته الفرنسية بروح الأداء العربي كصرخة «يا ليلي ياعيني» ويؤديها برهافة فنية، كما لو كان من الجسور بين إبداع الشرق والغرب؟ وهل أسفت لعدم فوز هبة وكان أسفي لأسباب غير موضوعية وذاتية؟
وهل أصابت بعــــض المجـــــلات الفرنســـية التي اتهــــمت ميكا بالانحياز إلى هبة لجذورها اللبنانية، واتهمت جنيفر بالانحياز إلى «باتيستا» لأنها مثلها من جزيرة كورسيكا؟
هل من نقد محايد حقا؟
وبعدما ربح اللقب الأول الفرنسي الشاب «ليليان» مرشح المغنية «زازي» صرنا نرى الرابح ليليان باستمرار على شاشات التلفزيونات الفرنسية في الحواريات المختلفة وفي الصحف الفرنسية كافة، أي حظي بالشهرة الكبيرة شبه العالمية التي كانت هبة طوجي
تستحقها في نظري.
وصار حضور ليليان في الإعلام يذكرني بقضية تلح على وجداني من زمان وهي: هل لدينا كبشر قدرة على الحياد والتقويم الإبداعي بمعزل عن مزاجنا الشخصي وعناصر ذلك المزاج العقلانية واللاواعية والوطنية وغير ذلك؟
هل أحببت مثلاً كتاب الشاعر عبده وازن «غرفة أبي» لأنه ليس منشغلاً «بقتل الأب» كما شاع في الأدب بل بإحيائه وأنا أحببت أبي، أم راقني الكتاب لأنه جميل إبداعياً بمعزل عن مشاعري الشخصية؟
وهل أحببت فنياً كتاب عبد الرحمن مجيد الربيعي (الشعارات تتبارى) لأنه ناجح أدبيا أم لأنه يعبر عن الكثير من آرائي، ناهيك عن صداقتنا الشخصية من زمان؟
وهل أحببت كتاب رغيد النحاس (الشامي) لجمالياته الفنية ام لأنه شامي (عتيق) مثلي يتحدث عن قضايا تهزني؟
دوما أتساءل: هل ثمة ناقد «محايد» حقا و»موضوعي» أم أننا حين نكتب عن الآخر، نقوم بالتصويت لدخيلتنا، وما بأنفسنا؟
الرائعة فدوى طوقان تجيب
جاءت المبدعة الكبيرة الشاعرة فدوى طوقان تذكرني بأنني كنت مراهقة صغيرة قامت بغارة ليلية على مكتبة والدها لقراءة ما يحلو لها سراً وليس كتاب (الكامل) للمبرد وأخواته، وكتب طه حسين صديق الوالد، المفروضة عليها وما شابهها من كتب تراثية.
وهكذا طالعت ديوان فدوى طوقان «وحدي مع الأيام» الذي أهدته إلى أبي، وسحرني تدفق مشاعرها الصادقة دون أن تخون فنها الشعري.. ومن يومها وقعت في غرام أبجديتها وما زلت!
أعدت قراءتها بعدما تخرجت من الجامعة وازددت إعجابا بها، ودراسة الأدب العالمي زادتني تقديراً لإبداعها وأنا في سن النضج. وحين التقيت بدبلوماسي أردني في بيروت وعرفت أنها عمته حملته كتابي الأول إليها مع إهداء لها، وكم فوجئت حين استجابت وأرسلت لي معه قصيدة كهدية لي. وتضاعفت فرحتي حين نشرت فدوى طوقان القصيدة في ديوان مطبوع لها وثبتت الإهداء لي. وذلك كله جاء بعد إعجابي بها ولم يكن سبباً له.
جاءت فدوى طوقان لتذكرني بأنني أعجبت بها في زمن البراءة حين طالعتها للمرة الأولى ولم تتبدل مشاعري. أي أن المعيار الأول لانحيازي لشعرها كان النقد المحايد الموضوعي المجرد، وظل إعجابي بها مستمراً بل ومتضاعفاً مع نضج السنين وضمن هذا الإطار.
قالت لي فدوى حين زارني شبحها ليلة البارحة: نعم. الموضوعية يمكن أن تكون صناعة بشرية مع عشاق الإبداع قبل طغيان أمزجتهم الذاتية.
وأختم بأبيات رائعة لفدوى طوقان
هناك على شاطئ كم حواك/ وكم ضم من ذكريات هواك/ تململ قلبي بين الرمال/ يعانق ذراتها في ابتهال/ ويلثم فيها رسوم خطاك..
هذا إبداع، وثمة (موضوعية) وحياد أدبي في الحماس لجمالياته.
*القدس العربي