غالبا ما يقصد الصحفيون، السياسيين أو الأدباء أو اللاجئين عند الحديث عن النكبة الفلسطينية، لكن القليل منهم من يقصد الجغرافيين، رغم أن النكبة أول ما عنت خسارة الجغرافيا وطرد سكانها.
في بيته المطل على سهل مرج بن عامر، شمال الضفة الغربية، ومن خلفه الجزء الشمالي من فلسطين المحتلة عام 1948، استقبلنا الباحث كمال عبد الفتاح، أستاذ الجغرافيا في جامعة بيرزيت، برام الله، والذي يلقب بـ”شيخ الجغرافيين الفلسطينيين”.
شيخ الجغرافيين الفلسطينيين، بدا مهموما وهو يتحدث، عن توثيق علاقة الفلاح الفلسطيني بأرضه والذي قال إنه “تعرض لادعاءات كثيرة ظالمة اتهمته بالبيع أو الهرب أو الجهل وعدم الوعي، وهي ادعاءات يتسلح بها البعض لتبرير ما جرى قبل النكبة وبعدها”.
غير أنه يؤكد وبحزم أن ما جرى نقيض ذلك تماما بقوله “لم يخسر الفلسطيني أية بقعة جغرافية إلا بالقتال والدماء، والأرض عند الفلاحين مثل العرض تماماً، ولم يكن هناك أدنى احتمال في أن يترك الفلاحون أراضيهم أو يبيعوها حتى لأقرب المقربين إليهم”.
ويضيف “القضية كانت واضحة من الطرفين، والفلسطينييون وكذلك الحركة الصهيونية كانوا على وعي ومعرفة بما يريده كل طرف، وأمام ذلك الوعي فقد قام الفلسطيني بواجبه ولم يسمح باحتلال أرض يمتلكها من دون قتال”.
ويتابع: “غريزة الفلسطيني حكمت سلوكه في دفاعه عن أرضه، وحتى عام 1916 لم يتملك اليهود أكثر من 1% من مساحة فلسطين، جاء ذلك عن طريق بعض القنصليات الأجنبية من فرنسية وألمانية وبريطانية، حيث تركز وجود اليهود وأملاكهم في كل من القدس، وصفد وطبريا (شمال فلسطين المحتلة)”.
ويستطرد بحسرة: “الفلسطيني امتلك غريزة البقاء على أرضه، في حين جاء العدو متمكنا من التقدم العلمي والمعرفة ومساعدة الدول الاستعمارية، وهو ما قاد إلى خسارتنا للجغرافيا في بداية الحرب عام 1948”.
مراسل “الأناضول” تطرق مع الباحث عبد الفتاح عن تأسيس “اللجنة الوطنية للأسماء الجغرافية في فلسطين” عام 2010، وأنه تم ربطها برئاسة الوزراء الفلسطينية تعبيراً على أهميتها، ليوضح لنا أنها لجنة بالغة الأهمية بقوله: “هي حلم واجب التحقق وإن تأخر كثيرا”.
ويضيف أن “المفارقة هي أن إسرائيل أسست ما يعرف بالوكالة اليهودية (الكرين كايمت) عام 1920، ما سمي وقتها بـلجنة الأسماء العبرية عام 1922، أي قبل أن تتأسس دولة الاحتلال الإسرائيلي بفترة طويلة جدا، والتي كان على عاتقها الاحتلال والسيطرة على الأسماء الفلسطينية”.
ويتابع: “تأكيداً على أهميتها بالنسبة لهم فقد أُلحقت بمكتب رئاسة الوزراء الإسرائيلية بعد الاحتلال مباشرة”.
ومن مهام تلك اللجنة أن سارعت إلى تغيير أسماء المئات من المواقع الدينية والأثرية والشوارع والأحياء والبنايات التاريخية، إضافة إلى أسماء الأراضي والتلال والجبال، وبخاصة في مدينة القدس، وأعطتها أسماء عبرية وتوراتية، أو أسماء لزعماء إسرائيليين.
وفي هذا الصدد يقول شيخ الجغرافيين: “وثقنا تقريبا 30 ألف اسم لموقع أو بلدة أو خربة فلسطينية، في حين أن فلسطين فيها أكثر من 70 ألف موقع، وهذا يعني أن هناك أكثر من 40 ألف موقع جغرافي في ذمة التاريخ، وهو ما يجعل من جمعها وتوثيقها بالمهمة الرئيسة للجهود الجغرافية”.
ويضيف الباحث، الذي يصفه الكثيرون بأنه من أفضل من عرف فلسطين: “كل محاولات التوثيق في كتابة أسماء مدن وقرى وأراضي الفلسطينيين كانت بجهود شخصية ومحاولات بحثية فردية، وحتى لو قامت عليها مؤسسات فإنها لم تكتمل أو تتحول لعمل جماعي مبدع.. لقد دققت ما يقارب من 22 ألف اسم لمواقع جغرافية، وهي مناطق أعرفها وتجولت فيها شخصيا”.
وعن الرحلات الاستكشافية، التي نظمها في فترة الثمانينيات، خلال عمله في جامعة بير زيت وترؤسه قسم الجغرافيا فيها، يقول: “من النهر (نهر الأردن) إلى البحر (الأبيض المتوسط) قمت بأكثر من 70 رحلة علمية في المناطق الفلسطينية جميعها، كنا ننطلق من بيرزيت وصولا إلى الأغوار (شمال الضفة الغربية) والحولة (شمال فلسطين المحتلة) ثم نتجه شمالا حتى صفد، فعكا وحيفا، وطولكرم (شمال الضفة)، وغزة، والنقب والعقبة الأردنية (جنوبا)، في ترجمة للمعرفة الشمولية وتدريس عملي لها، لكن بعد أن كبرت توقفت عن ذلك”.
ويتابع: “اليهود ينظمون رحلات جغرافية لطلبة الصف الثاني الإبتدائي، والتاسع الإعدادي، وهو أمر إجباري للطلبة، كما أن لديهم نظاما كاملا للرحلات المدرسية الجغرافية، حيث يضعون في كل منطقة مركزا ميدانيا (فوق كشفي- نصف عسكري) يتجاوز عددها الـ 50 مركزا، تتوزع من منطقة المطلة (شمالا) إلى مدينة العقبة الأردنية، وتخصص لاستقبال طلبة المدارس لاكتشاف الجغرافيا الفلسطينية التي يبنسبونها لدولتهم”.
وعن الصعوبات التي تواجه تثبيت الإرادة الشعبية وحفظ الحقوق المسلوبة منذ النكبة، فإن عبد الفتاح يردها إلى غياب العمل الجماعي المنظم، ويقول: “لم تتوال مؤسسة مركزية واحدة ومستقلة وتمتلك الخبراء والكفاءات، وحتى اللحظة يمكن القول إن حجم ما أُنجز لا يزيد على 30% مما يجب أن ننجزه لتوثيق الحقوق وحفظها”.
وبحسب شيخ الجغرافيين، فإن أغلب ما أُنتج من كتب ومؤلفات كان على عاتق الناس، انطلاقا من رغبتهم في حفظ لذاكرة، وأن أعداد الكتب التي توثق للنكبة بلغت ما بين 150 و180 كتابا عن قرى فلسطينية هُجّر منها أهلها.
وفي ختام حديثه مع الأناضول، تذكر عبد الفتاح، جملة كتبها رفيقه المؤرخ صالح عبد الجواد يقول فيها: “وإن كنا لا نستطيع أن نسترجع فلسطين.. فلتبق فلسطين حية في قلوبنا”.
يذكر أن الباحث كمال عبد الفتاح شغل عدة مناصب في جامعة بير زيت، منها: عميد كلية الآداب، ورئيس دائرة دراسات الشرق الأوسط، ورئيس دائرة الجغرافيا.
وعمل أستاذا زائرا في جامعات هارفرد وبرنستون وفيلانوفا في الولايات المتحدة، وجامعات بايرويت وتوبنغن وإيرلانغن في ألمانيا، وهو عضو في جمعية الدراسات الفلسطينية.
__________
*الأناضول