بول غوغان والهروب إلى العالم البدائي




*أسعد عرابي
يبدو أن مسيرة بول غوغان الحياتية والفنية مثيرة لدرجة أصبحت معها لا تخلو من التكرار. هو ما دفع «مؤسسة بايلر» العريقة في بال (سويسرا) ولمناسبة معرضه الاستعادي الجديد في صالاتها المركزية إلى تقريب مجهرها التحليلي من تفاصيل تُدرس نقدياً للمرة الأولى، مع محاور لم تطرق سابقاً. تتعقب مثلاً من خلال «كرونولوجية» العرض وتواتر موضوعات اللوحات عن انعكاسها لمحطات أسفاره، وتقطع جذوره، وبحثه الحثيث عن موسيقى لونية تحمل حنينه وحزنه الغامض لوطن مفقود ما بين تشظي تجارب الطفولة، ثم الشباب، ثم عزلة الكهولة والنفي الذاتي في أبعد جزر المحيط الهادئ، وأبعد الحضارات السحرية، تماماً كأنهم يعيدون تركيب شظايا «بازل» من جديد. وبتمفصل أصيل يستمر عرضه حتى نهاية حزيران (يونيو).


لنبدأ مع ترتيب العرض منذ البداية، تطابقت نقاط انعطاف علاماته الإنسانية مع ترتيب لوحاته على جدران العرض، علينا أن نبحث عن مغزى كل محطّة منها، لنصل إلى الجديد في سياقه المعروف:
ولد فناننا في باريس عام 1848 واقتصرت طفولته في معايشة هذه المدينة الساحرة على عام يتيم فقط. استقر مع عائلته بعد ذلك في ليما في البيرو. وهكذا كان أول تقطع جذور طفولته وبواكير تفتحه على العالم. فارتبط خياله الأول بغيطان غابات الأمازون وشلالاتها المدارية. ولم تطل عودته إلى مدينة الولادة فقد ترسّخ إدمانه على شدة السفر والترحال بانخراطه كبحار في أحد المراكب يجوب العالم وأصقاعه البحرية حتى وصل إلى الدائرة القطبية، وذلك خلال أكثر من خمس سنوات (من 1865 وحتى 1870)، يتزوج إثرها طالباً الاستقرار من الدنماركية سوفي، ينجب منها خمسة أولاد، ويكتشف متأخراً موهبته في الرسم والتصوير حتى يهجر عائلته التي تستقر مع الأولاد بعيداً منه في الدنمارك، ويضرب في أرض الله الواسعة متعقباً حرائق شموسه اللونية خلف الأفق البعيد، وخلف المحيطات حيث «اللامكان» الذي يعبر عن قدر غربته في اللوحة عن الوطن الأم.


ابتدأ هذا الارتحال الذي سيطبع تجربته الفنية والإنسانية من منطقة «بروتان» شمال فرنسا حيث العالم الطبيعي والبشري والروحي لا يزال في حالته البكر منذ العصور الوسطى، ثم يستقر محترفه في واحدة من مدن المقاطعة «بونت آفين»، والتي ستصبح مشهورة بسبب استعارة اسمها لحركة فنية بارزة يقودها إلى جانب بول سوريزيية وإميل برنار وعدد آخر من الفنانين غير المعروفين. اعتبر هذا التيار ضمن حركات «ما بعد الانطباعية» إلى جانب «الوحشية» والرؤيوية الرديفة.
هنا، لا بد من استدراك أن غوغان اكتشف اللوحة متأخراً من طريق معايشته وتزامنه مع «الانطباعيين» وكان من الممكن أن يكون أحد روادهم، بل وشارك فعلاً في معرضهم الرابع عام 1879 بدعوة من إدغار ديغا وبيسارو ولكنه سرعان ما انقلب على نظريتهم في التزامن والتوليف اللوني في الهواء الطلق لأنه كان يراها أقرب إلى العلم والفيزياء البصرية منها إلى حدسية وسحرية وروحانيّة اللوحة.

 يكرر في أكثر من مناسبة نقده لهم بقوله:
«إنهم (أي الانطباعيين) يحومون حول العين دون ترصد المركز الخفي للفكر».
إن تحوله الأسلوبي من المنظر الانطباعي إلى «رمزية» التكوينات في بروتان كما يشهد المعرض تكشف ما يعنيه «بالمركز الخفي للفكر». ينتقل من حساسية الألوان إلى بعدها الروحي والموسيقي الطوباوي الشفائي. هو ما يفسّر استثمار رؤيوية بونار للجانب الحلمي أو الذاكرة في المناخات الفردوسية القزحية الجوانية.
لكن تمايز شخصيّة غوغان الفكرية والأسلوبية تتجاوز حدود المكان والزمان إلى الصبوة التوليفية بين الحضارات المتباعدة التي رحل إلى حضنها، ولم يكتف بتخيلها الغرائبي (الإكزوتيك).
وهكذا كان، سافر إلى ما هو أبعد من فرنسا المونوبول، بالغاً جزر المحيط الخاضعة لها مستهلاً برحلته الأولى البحرية مع زميله لافال وذلك عام 1887 وتحديداً إلى جزر المارتنيك، ثم يستقر في جزيرة «تاهيتي خلال عشر سنوات من 1891 وحتى 1900.
لعل أجمل لوحات المعرض منجزة في تلك المرحلة.

تكوينات رهيفة العلاقات اللونية، فراديس حرة من فتيات الزهور والشباب المخضبين بالبحر والشمس المدارية والمرجان والثمار البعيدة المنال، يمتطون صهوات جيادهم ويداهمون أمواج البحر الدافئة وزبده اللازوردي، وكأنهم يتقمصّون صبوة الحرية المطلقة. ورمزها هنا عشيقته التاهيتية «وبيت الملذات» والمعابد المحلية الملغزة بالإشارات السحرية والكهنوتية. يصل هنا إلى توليف بصري متعدد الثقافة.
يرسم خطى ارتحاله الدائم عن الوطن الأم. يمتص رحيق هذه الثقافات التعددية بشخصيته القويّة العربيدة والممانعة، التحريضيّة والعاصية، تكشف صدامه الدائم مع رموز الاستعمار العسكري الفرنسي في تاهيتي، ثم تعاسة شح المال والمرض من السفلس إلى الغرغرينا في قدمه، ما قاده إلى محاولة الانتحار عام 1897، وهكذا أجبره محبوه على العودة إلى فرنسا عام 1895 للمداواة بعد أن أنجب طفلاً من صديقته المحلية بورا سماه إميل وسرعان ما عاد إلى جزر المحيط وبالتحديد إلى جزيرة هيغاوا في «الماركيز» قبل أن يتوفى ويدفن فيها عام 1903. يقام له اليوم هناك متحف صغير بجانب محترفه المعنون: «ببيت الملذات».
أما اللوحات العملاقة المعروضة والمنجزة خلال هذه السنوات الثلاث الأخيرة فتكشف نضجاً استثنائياً في التكوينات المسطحة بلا منظور، وطريقة رصف الألوان المتجاورة وتشبعها الصباغي بالبرودة أو الحرارة حتى الثمالة، تجتمع فيها تأثيرات الإستامب الياباني مع الثقافات الكاثوليكية مع المصرية، مع الثقافة المحلية وصولاً حتى وجوه حضارات الآنكا والأزتيك. يرسم وجهه بطريقتهم. يتوقف عند لوحة عملاقة بالغة الملحمية الوجودية في أهميتها يستعير عنوان باسكال: «من أين أتينا من نحن؟ إلى أين نذهب؟». الشاعر الفرنسي سيغالين الذي كان يقيم بجانبه في جزر الماركيز، عثر بعد وفاته على بعض المنحوتات الخشبية له القريبة من هيئة كهان المعابد المحلية، وقصيدة مالارميه المعلقة، هي التي تدعو إلى الهروب إلى اللامكان، والمعروفة تحت عنوان «بعد ظهر يوم كوني» (والتي لحنها كما نعرف دبوسي). إنه مشهد من التواصل الإبداعي الرهيف في نهاية القرن التاسع عشر.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *