قصتان.. “رشح الحنين” و”صليل الأساور”


*منى الشيمي

( ثقافات )

رشح الحنين
هكذا عرفوا الخبر..
واندهش كل واحد منهم على طريقته، مصمص شفتيه في أسى، وسكب ماء لومه على ملابس صديقه، أو جاره، ذلك أن غيابها لم يلفت نظره، وألقى بتبعة عدم انتباهه على الانشغال، والجري وراء لقمة العيش، أو المرض ومشكلات الصغار، لم يتوقف أحد عند المزيرة بجوار بابها ليكتشف أن الزير جف، وأن الصبية أضاعوا الغطاء، وألقوا السطل بالقرب فانثنت حوافه، وأن ورق شجرة الكافور العجوز سقط في جوف الزير واستقر، ولا انتفاء وجودها –كعادتها- في مجمع النسوة بالقرب من ضفة النهر أول أمس، منذ ظهور البدر في مركبه الفضي، يعبر صفحة السماء ملوحا لهن، وملهما بأغنيات العشق، وترنيمة شوق، ولا انتهاء أمسية الحناء الخاصة بآخر عروس في القرية دون ظهورها، على الرغم من دورها المخولة به في كل عرس، تدعوها أم العروس للدخول، تغطي الفتاة بـ “الـدلكة” الساخنة لينتفخ الجسم ويشمر عن احمراره، أو تعجن الحناء وتسويها في صينية مستديرة، تشعل الشموع وتطلق الزغرودة مجلجلة، ليس في القرية كلها امرأة غيرها قادرة على تثبيت صينية الحناء فوق رأسها والرقص بها، وتركها هكذا ثابتة والتصفيق بيديها، لتنطلق الأغنيات المحفوظة عن الجدات في الذاكرة.
لم يعرف أحد أبدا، كيف تنشق الأرض وتظهر، تقول حينا إنها عبرت فوق عدة أسطح لتصل، وكيف كادت أن تسقط عدة مرات، إذا داست دون قصد قشـًا أشيب كلل سقف هذا السطح أو ذاك، أو كيف قفزت من الحائط المتهدم بنهاية الحوش، لتختصر المسافة، تاركة جزءًا ممزقـًا من ذيل ثوبها المهلهل من كثرة الاستعمال بين شقوق الجدار، يرفرف مع نسمة هواء، أو يحترق تحت لهيب شعاع، كانت نحيفة وطويلة كنخلة سامقة، تطرح بلحها كل موسم، ولا تحزن من حجارة الصبية المتربصة بعِذْوقها، تسحب انتباههن بنشاطها وحيويتها، دبساء لا شيه فيها، تشمر عن يدين معروقتين لفحتهما شمس حامية، جسدها كرغيف خبر تنضح منه رائحة النضج، تسري في الأرجاء كواحدة من سيدات الدار، ترفع الحصر عن الأرض وتمشطها بـ “سباطة “نخل جافة، وترش المياه وتستعد لعين الحسود بإطلاق البخور والتعاويذ في الجهات، أو تشمر عن ساعديها، لتعجن الدقيق وتدس العجوة في كل قطعة، تاركة الشمس تباركها فيزداد حجمها، أو كيف لا تغضب إذا نسيت النسوة المتجمعات للمساعدة في عرس ما دعوتها للغداء، وتحلقن دونها حول الأطعمة الشهية، بينما هي في مكان قصي، تجمع الحطب وترصه في بطن الفرن، وتبحث في عتمة الغرف عن عود ثقاب. 
لم يلحظ أي من الرجال الثلاثة غيابها، ذلك الرجل الذي نهب الأرض في زمنها الأول، وترك آثار قدميه وراءها، يريد قطف قبلة من مياسم أصابعها أو تويج عنقها، ولا الذي كسر لها الجَرّة، وهو يقبض على طرف ثوبها محاولا احتجازها بين عشب صدره والجدار، ولا من قفز ليلا فوق سور بيتها المهدم ليتلصص على انحناءة خصرها، ويلوذ بميس قدها وهي مضطجعة على جنبها في غفوة قصيرة، فسقط في وعاء المياه الساخن فوق الـ “كانون• ” وكتم ألمه الصارخ خشية افتضاح أمره، هش الجميع على غيابها بمذبة التجاهل، وانخرطت النسوة في الغناء عند النهر، وأدبرت الأمسية دون ظهورها، وكم أمسية أدبرت بدونها!!
ذكرن كل ما عرفنه عنها في جلستهن، وحيدة منذ رحيله، حمل صرة ملابسه ولوح لها بشاله الصوفي العث، وعدها بالعودة بعد أن يرتب حالة، وقفت تنظر للمركب وهو يبتعد، ينحدر مع النهر ويختفي القلع في المدى، و دمعاتها قطرات تتسابق للسقوط، ويداها مجدافا مركب مثقوب، وطرحتها شراع انتفخ حزنا، ثم اعتدن على رؤيتها وحيدة، صبرنها ودعونها لمجالسهن، انغرس بعض الرجال أمام بيتها حينا، لكنها لم تستظل بأحد منهم، ولم تبل ريق شوق أحدهم، فانثال صمغ صمتهم مطبقا، ورحلوا.. تاركين الدبساء رائحة لم يتعطروا بها.
تجلس في الصباح أسفل شجرة الكافور العجوز، مستأنسة بالعابرات، تمد حديثها سماطا، تختفي في المغارب، ينزلق رتاج الباب في الِمغْلاق، وتستقر قبة السكون فوق بيتها الوحيد قرب الخلاء، ولا يعلو سـوى صوت حفيف الأغصان في الأعالي.
في ذاكرة كل منهم مشجب، علقت عليه بعضا منها، لا يتعب لسانها من زغرودة تطلق بدايتها عند باب العرس وتنتهي منها في عمق الدار، ولا تبخل بصراخها في ميتم، فتفرد منديل النحيب أمامها، تسدل طرف طرحتها، وتدندن بكلماتها المنظومة، التي لا تعبر سوى عن حزنها الدفين وحده، فتنصت النسوة، ويشتد الوجيب.
هكذا عرفنها، لا يستدعيها أحد، بل تظهر فجأة، ولا يبقيها أحد، تختفي وقتما تشاء، لكن لوجودها هدير ساقية صاخب في أمسيات الري المقمرة.
كيف لم يشك أحد في مصدر الرائحة التي انبعثت قرب بيتها؟؟ ربما خمن أحدهم أنها لجيفة حملها النهر واستقرت بالقرب، أو ملقاة في الحلفاء عند مبتدأ الزراعات، ولم يهتم بالتأكد من صحة تخمينه، وعبر آخرون دون أن تستوقفهم الرائحة أبدا، ولم يعرف أحد من الذي اكتشف موتها أولا، بل كلما توافد واحد وجد أحدا قد سبقه، امتلأ فناء بيتها على آخره، وتقدم أحدهم بعد أن كمم أنفه ليخرجها من الغرفة الوحيدة المتقوقعة بالفناء المكشوف، واستعانوا بجلباب الغائب لتغطيتها، لام كل منهم الآخر، وعزا كل منهم إهماله إلى انشغاله، وضيق وقته، وتساءل البعض ربما لأول مرة عن أقرباء لها في البلدة أو في البلاد المجاورة، أو عن أبناء شقوا الجهات بحثا عن رزق، وتذكروا الغائب منذ سنين، وغضب بعضهم من نفسه، لأنه لم يفكر يوما أن يحضر لها شيئا تحتاجه، أو يسألها، من باب حفظ الود، أو إبداء الشهامة، عن شيء ينقصها، ترحموا عليها ثم حملوها ودفنوها عند تل الميتين، وبالقرب من شجرة النبق الوارف ظلها، وما لبث ندف الزهر الأصفر أن غطى القبر والشاهد وآثار الأقدام.. واجتمعت النسوة في وقت لاحق، واكتشفن أنهن لم يزرنها أبدا في بيتها، بل قالت امرأة إن الدبساء عانت ألما في آخر ظهور لها، لكن المرأة لم تربط بين غيابها وآلامها الأخيرة، فالدبساء لم يكن يغيبها مرض، ولم تتوقف عن قطع الطريق تحت هجير الصيف، تحمل حذاءها تحت إبطها، وتخضب قدميها بغبار الطريق، ويجرجر الحطب الرفيع بطرف بردتها، كما لم يوقفها زمهرير الشتاء، بينما كلاب السكك تقبع قرب العتبات، متلفِّعة بخيمة أنفاسها الدافئة من ريح تشطر الهواء، لم تتأخر عنهن في مطلب، ولم تصمت حيال مشورة، أصلحن الأرضية وبسطن الحصر، وملأن المزيرة، حُكيت القصص عنها، وذُرفت الدمعات، ثم رحلت كل واحدة منهن، بعد أن أبدين أسـفا قائلات:
-“لو عاد الزمن للوراء.. لاستفسرن عن غيابها الأخير، ولزرنها في بيتها “
تم إغلاق الباب، ما زالت أوراق شجرة الكافور تتساقط مع كل هبة ريح، تتراكم في المكان وأمام الباب، وفي فناء الدار، محـدثة صوتا كرشح الحنين.
___________
صليل الأساور
لم تكن ثمة حركة غير عادية في المكان، تحلق بعض الرجال حول رجلين يلعبان، يرسمان المربعات الصغيرة على الأرض ويرصان فيها الحصى الملون، عند انتهاء الدور بفوز أحدهما، تعلو همهمة خفيفة من باقي الرجال، ويعيد الآخر تخطيط المربعات على التراب الناعم بإصبعه.
جلسوا على الأرض، اتكأ أحدهم على مرفقه ونام آخر على جنبه، بينما قرفص الباقون فغبرهم تراب الأرض الناعم الرطب، تراب لم ير الشمس منذ وقت طويل، تعلقت ذراته بسدَّى جلودهم ولحاه، كأنهم تماثيل صلصال جاف، تماثيل تتحرك برتابة، لا شيء يدفع النشاط في عروقهم، تركوا لحاهم تنسدل طويلة ومشعثة، شيء ما مخيف ينثال من مناظرهم ويجعل المرء يهرب من رؤيتهم، فلو ترك نفسه لأشباحهم تتحرك أمامه لتبخرت روحه في الهواء.
تململ الرجل الوحيد عند الجدار، منذ وقت طويل لم يشترك مع الباقين في حديث، يستند بظهره للجدار ويغفو، فإذا ما سمع وقع قدم، شخص بصره وتطلع للكوة، استطالت لحيته وابيضت في كل موضع، فإذا ابتعدت الأقدام يعود ليصنع من ساقيه هرمين صغيرين، يسند بينهما رأسه، ويذهب خياله بعيدا بعيدا، حزنوا لأجله، حاول أحدهم أن يخرجه مما هو فيه، لكن محاولاته باءت بالفشل، كيف يخرج مما هو فيه وزوجته هناك، صغيرة وجميلة، يتمناها نصف رجال القرية في صمت، ويحوم حولها النصف الآخر، والصغير يتيم، لا يجد من يتكفل به.
سمعوا أصوات أقدام تدق الأرض في الأعالي، فتذكر كل منهم المكان بأعلى، قال أحدهم إنه أول من دخل هذا المكان، لم يسبقه أحد، وظل سنة كاملة قبل أن يأتي الوافد الثاني، قال إنه عانى كثيرا قبل أن تعتاد أنفه رائحة المكان، وتحدث عن الأشباح التي ظهرت له، فكان يموت في الليلة عشرات المرات قبل أن يستيقظ في الصباح من جديد، وتحدث آخر متسائلا عن شكل المكان في الخارج، لقد جاء وشجرة الجازورينا صغيرة، لا تلقي بظلالها على مكانهم بينما يؤكد الوافد الأخير أن ظل الشجرة تخطى المكان لما بعده، وأن القبور ملأت التل وانحدرت بانحداره، ولامست الطريق المعبد من الناحية الأخرى.
اقتربت الأقدام حتى صارت فوقهم تماما، ثم انحرفت يمينا لتواجه الكوة المسدودة بصفين من مداميك الطوب الأحمر، انتفض الجميع، وامتدت بعض الأيدي فمحت المربعات من الأرض وبعثرت الحصى هنا وهناك، هرع كل منهم إلى الموضع المخصص له فدخل في ثوبه الكتاني المعفر بالتراب، وتلفع بسكونه.
انفتحت الكوة فرشقت الشمس سهمها بالداخل، انزلق رجل للداخل ليلقف الوافد الجديد، حمله من تحت إبطيه بينما الرجل الآخر يحمل القدمين، سجياه وصعدا، والعيون من بين شرائط الكتان ترقبهما في صمت، وتتسمع أصوات الرجال في الخارج، ميز بعضهم أصواتًا يعرفها، صديق ليالي السمر، أو جار حميم التصق جدارا بيتهما، فكاد أن يقفز من رقدته، ويظهر لهم رأسه من الكوة، ويبتسم في شوق، لكنه يعرف أنه لو فعل لفر الجميع قبل إغلاق الكوة.
تمدد الوافد الجديد في الجوار، تفوح منه رائحة العطر، كفنه أبيض منشى، كاد يتململ بداخله، لكن رجلا فتح الكوة من جديد، وأسقط رأسه ونظر مرة أخرى، فالتزم الجميع بالسكون والصمت، حتى إذا رحل، نفض الجميع الأردية، وتحلقوا حول الوافد الجديد، ولكزه أحدهم بعصاه فتحرك الجسد تحت الرداء الأبيض، ثم تفككت الشرائط، وتحركت اليدان.
تهللت أسارير الجميع، كان شابًا معروفا لبعضهم، شاركهم المزاح مرات، مد كل منهم يده وسلم عليه، تولى أحدهم تعريف الكبار، الذين رحلوا قبل إدراكه بكثير فلم يعرفهم ولم يعرفوه، وكانت فرصة جيدة استثمرها الجميع، سألوه عن حال البلدة، سأله كل منهم عن حال الأهل، سمى له عدة أسماء وتمنى لو يعرف عنهم خبرا، وسأله آخرون عن شكل المكان في الخارج، هل اختلف عما كان من قبل، أما الرجل الصامت دوما فسأله عن حال زوجته وابنه، أما زالت جميلة؟ تمنى لو سأله.. أما زالت تذكره؟؟ هل يجد ابنه الصغير ما يسد جوعه؟؟..لكنه لم يتحدث، واتخذ مجلسه بجوار الحائط، وتشرنق بوحدته.
وقت قصير، نفضوا فيه الرتابة، ثم عادوا للصمت الذي يسمح بسماع دبيب القلق في الصدور، وزحف الأفكار في صعودها وهبوطها، عاد الرجال لرسم المربعات على الأرض، والبحث عن حصى مناسب، وافتعال الاندماج في المراقبة، أو البحث عن ذكرى يقصها علّ تفاصيلها تثني حواف الوقت المدببة.
عادت الأقدام لتدق الأرض من جديد، وتضايق بعضهم لأن المكان ازدحم، وعليهم أن يكفوا عن إحضار آخرين، وفي لمح البصر، اختفي كل واحد منهم في كفنه، تاركا مسافة غير مرئية أمام عينيه، يراقب منها المشهد، وكما المرة السابقة، أسقط أحدهم نفسه وانتظر حتى تناول الوافد الجديد، أرقده على جنبه الأيمن وخرج سريعا بعد أن أغلق الكوة وهموا في الخارج ببناء الجدار..
وكعادتهم – في الداخل – بعد كل مرة تطلعت العيون، وانتظروا برهة ليقشر الوافد عن نفسه غطاءه، لكن صوتا صك آذانهم وجعلهم في حالة يجف لها العود الأخضر، لقد صلصلت أساور تحت الكفن، وبدأ الجسد يتحرك في ليونة، مد الجميع يده في آن واحد، حتى الرجل المنعزل هناك، جاء على صوت الأساور، مدفوعا بتأثير النشوة، وشرعوا في تعرية الوجه، وما أن تم هذا حتى صرخ الرجل الوحيد، وهمهم الباقون، كانت زوجته بكامل بهائها، كادت أن تبتسم له لولا تعبير وجهه المتجهم، لم تطل نظرته لها، أسرع إلى الكوة المغلقة، صرخ بأعلى صوته:” هناك خطأ.. امرأة وضعت هنا عن طريق الخطأ، يجب أن تبعث لمرقد النساء، عودوا يا رجال.. قهقه رفاقه، وضع أحدهم يده على صدره من كثرة الضحك وأشار عليه بيده الأخرى كما لو كان مجنونا، وتمنى آخر لو يسأله ممن تخاف عليها؟؟ ولعق رجل شفتيه بلسانه وحملق فيها، أزاحهم من حولها و عاد إلى موضع رقدتها ومازال صراخه يرن عاليا، أنام ذراعها بجوار جسدها وأحكم لف الكفن حولها، أغمض لها عينيها وغطى وجهها، ثم عاد ليقف بالقرب من الكوة، يصرخ.. لا ترحلوا.. ثمة خطأ.. امرأة بين الرجال…. امرأة.. بين.. الرجاااااااااااااااال.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *