بعد منتصف العمر بقليل



*بسمة النسور

حين اصطدمت عيناي بالأقراص المسكنة التي وصفها لي الطبيب، مرمية على حالها، بجانب كوب الماء الذي لم يعد بارداً، استغربت جداً أن صداعي النصفي اللعين لم يتحسن، على الرغم من أنه كان قد مضت ثلاث ساعات ونصف على توهمي أنني تناولت القرصين.
وإذا كان الرفاق جماعة الريكي واليوغا، يصرون على أن الألم مسألة ذهنية، يمكن تخطيها والتغلب عليها بشيء من التركيز والتمارين العقلية التي من شأنها طرد الطاقة السلبية من داخلنا، لماذا لم يخلصني الوهم من هذه الضربات المتتالية الحادة على نصف رأسي؟ لعل تلك المرأة حسنة النيات التي أصادفها في قاعة التدريب في المركز الرياضي هي السبب، لأنها مصرة على مصادقتي، كوني كاتبتها المفضلة كما تقول. المشكلة ليست هنا بطبيعة الحال، بل كونها تقاربني في العمر، ومع ذلك امتلكت جرأة الافتراء، لتؤكد أنها كانت تقرأ لي منذ كانت طفلة. بلعت ريقي وقتها، وألقيت بالأثقال الحديدية من يدي، كي لا أفج رأسها السميك، أخذت نفساً عميقاً.

 ابتسمت كاتمة غيظي وغادرتها إلى زاوية أخرى من المركز الفسيح، على أمل أن لا تعود إلى محاولة التقرب إلي من جديد، لأن الخيار المتاح الوحيد المتبقي أمامي وقتها أن ألقي بنفسي من الطابق الرابع.

لحسن حظي، فهمت الزميلة، أخيراً، أنني لا أرغب في الدردشة معها في أي من شؤون الساعة، لأني، وكما نقول في الدارجة الأردنية، تعبيراً عن حالة الضجر الشديد من كل شيء (قلبي من الحامض لاوي)، على الرغم من أن المسكينة حاولت، بشتى الوسائل، حتى أنها مرة قالت لي بتحبب: ماشالله عليك لسه شباب! لم تعرف السيدة أن هذه الجملة اللطيفة بالذات تستفزني، وتتسبب في استشاطة غضبي، لأنها لا تقال في العادة لشخص في مقتبل العمر، كون ذلك تحصيل حاصل، بل توجه، في العادة، إلى كبار السن ممن بلغوا من العمر عتياً، القصد منها مسايرة ومجاملة وتطييب خاطر ليس أكثر، أما أن تقال، في وجهي وعلى بلاطة، وأنا التي تجاوزت منتصف العمر بقليل، فهذه، والله، خطيئة كبرى، تستوجب اتخاذ إجراءات تعزيرية رادعة.

بالمناسبة، ليست الخمسينات نزهة، يا جماعة، بل هي مرحلة عمرية شائكة مضطربة متقلبة عويصة وحافة حتمية باتجاه الهاوية، عنوانها القلق والخوف من مغبة التقدم في العمر، ودنو الأجل، وهي، بدون شك، تستدعي مشاعر سخط وحنق، مع ضرورة الإشارة إلى أن هذه المشاعر والانفعالات ليست مقتصرة على النساء الخمسينات، بل يمكن ملاحظة ذلك بسهولة لدى الرجال من فئة الخمسين، كذلك الذين يبذلون الجهد نفسه، للتشبث بالصبا الضائع، من خلال حرصهم على ارتداء ألوان زاهية، من شأنها خداع المتلقي! وكذلك قلقهم المتواري في الحوارات التي تدور فيما بينهم عن وجع المفاصل وألم الظهر وزيادة الوزن واضطراب النوم وارتفاع الضغط وغيرها من المواضيع غير الشيقة على الإطلاق. يمتعضون، حين تخاطبهم الصبايا الجميلات بكلمة (عمو)، ويتفادون في حضورهن الحديث عن أحفادهم، تفادياً لشبهة الكهولة.

على أية حال، سامح الله سيدة المركز الرياضي على نبشها المواجع كلها. في ظني، لا يوجد في هذا السياق وصفة مقاومة سحرية جاهزة بمقاس واحد يناسب الجميع. الحكمة لا تجدي، أحياناً، وكذلك ادعاء الزهد والقناعة، لأن النفس البشرية قائمة، بشكل غريزي على التشبث بالشباب الدائم، منذ جلجامش والساحرة الشريرة، المذعورة من هجمة السنين التي تستجوب المرآة في الحكايات القديمة عن مدى جمالها وشبابها، إلى أحدث ما وصل إليه الطب الحديث من وسائل تبطيء بلوغ الشيخوخة. وبالنتيجة، يبدو أنه على كل منا أن يخوض معركته منفرداً، إلا من القدرة على الصبر والتأمل والانخراط في تفاصيل الحياة، إضافة إلى التحلي بحس الدعابة ومهارة السخرية سلاحاً فتاكاً، نشهره في وجه أحزاننا مرغمين. 

________
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *