التناصّ في ثلاثية أحلام مستغانمي



*أكرم خلف عراق

الطبيب الجراح، والناقد، كلاهما يشتركان في المهمة نفسها، وهي المهارة في التشريح. الأول يستعين بالمشرط لشق الجلد، رداء الجسد وكسوته الأزلية من المحيا حتى الممات، والثاني يستعين بالبصيرة لشق جلد الورق، المكدس بين دفتي رواية، بمجرد خروجها من رحم المطابع وتداولها بين أيدي القراء ورفوف المكتبات.
الطبيب له أدواته الخاصة به في التشخيص، من تحاليل مخبرية وسماعة وميزان حرارة، أما الناقد فالبصيرة هي أداته الوحيدة في تشخيص جسد النص.
بصيرة الناقد هي مجهره. ولعل هذه الحقيقة، هي ما يميز مهارة ناقد دون آخر لحظة أن يتخذ قراره بمعاينة وتحليل ودراسة رواية بعينها.

كثيرة هي الدراسات النقدية والتأويلات الأدبية، التي تناولت ثلاثية أحلام مستغانمي (ذاكرة جسد، وفوضى الحواس، وعابر سرير)، إن كان في المعاهد الأكاديمية، أو في المؤتمرات والندوات الأدبية، أو حتى على ألسنة القراء في الشارع. والتي تتباين ما بين إعجاب ومديح وإطراء من جهة، وذم وكراهية وحسد من جهة أخرى.

في كتاب «الجسد في مرايا الذاكرة» الصادر عن منشورات ضفاف، والذي يعاين الفن الروائي في ثلاثية أحلام مستغانمي، للناقدة والأكاديمية منى الشرافي تيم، الأمر مختلف تماماً. الحيادية المطلقة والنزاهة الراسخة، والبراهين الدامغة، والأدلة المقنعة، كانت السمة الأكثر سطوعاً في البحث النقدي الذي رصد هذه الثلاثية المشهورة من أخمص قدمي التناص حتى أعلى هامة العبقرية.

التناص هو عملية تجميل يجريها كاتب ما على فكرة أصيلة لكاتب آخر، مستعيناً بمساحيق لغوية زائفة، ومكياج وهمي من الاستعارات، ظناً منه أن النص الجديد يحمل فكرة أكثر نضارة ومعنى أعمق جمالاً من النص، أو الفكرة التي تم السطو عليها.

التناص اختلاسٌ وسرقة، وإعادة تكرار وتقليد. إنه ترميم لذهن كسول لا يقوى على خلق وإبداع أفكار ونصوص قيمّة آسرة وساحرة تخطف خيول العقل وعصافير الإلهام.

واهمٌ الكاتب المغمور الذي يعتقد أن التناص هو حشوة كذب ترمم بها أسنان بالية، لأن الأدب الحقيقي يملك أسنان بيضاء لا تكسر، ولأن الكذب عمره قصير.

لعل تسوس الأفكار غير الإبداعية الخاملة هو ما وقع به الكثير من الأدباء، فالتناص ضمناً هو إيحاء وتلميح ومجاز ورمز، تجرى على نص تم استدعاؤه إلى غرفة مكياج لغوي. 

تبرز الناقدة تيم هذا الأمر في ثلاثية مستغانمي، إذ تستشهد بالتطابق والتداخل والتمازج بين رواية «حفلة القنبلة» للروائي الإنجليزي غراهام غرين، ورواية «ذاكرة جسد»، من حيث أن بطلتَي الروايتين فتاتان في العشرين من العمر، وبطلَي الروايتين رجلان في الخمسين من العمر. 

بطل «ذاكرة جسد» فقدَ يده في حرب التحرير الجزائرية، وقد بقيت ذكرى الحادثة المأساوية هي الأكثر ألماً في حياته. وبطل «حفلة القنبلة» فقدَ يده أثناء الغارة الجوية على أحد مراكز الإطفاء في لندن العام 1940، عندما توهجت لندن بالحريق، وكانت حادثة بتر يده هي الأكثر وضوحاً في ذاكرته. ترك بطل «ذاكرة جسد» قسنطينة واستقر في باريس. ترك بطل «حفلة القنبلة» لندن واستقر في سويسرا. 

تقع البطلتان الشابتان في حب البطلين الخمسينيين. لم تتأثر البطلتان بالإعاقة التي يعاني منها البطلان، أو بفارق العمر، فبطلة «ذاكرة جسد» كانت تبحث عن صورة الأب الذي فقدته بسبب الموت، بينما كانت بطلة «حفلة القنبلة» تبحث عن صورة الأب الحنون الذي فقدته، لا بسبب الموت، وإنما بسبب جشعه وطمعه واستهتاره بالإنسانية. 

كرر بطل «ذاكرة جسد» أن البطلة كان من الممكن أن تكون ابنته، وشعر بأبوّة نحوها، على الرغم من عشقه لها. واعترف بطل «حفلة القنبلة» بأنه حين عثر على البطلة، كان يبحث عن ابنه.

خلعت الناقدة منى تيم، عن نصوص مستغانمي ورقةَ التوت التي تستّر بها التناص الفاضح في رواياتها الثلاث، إذ تثبت بالحجة والدليل، التشابه والمقاربة والتعالق مع رواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائي حيدر حيدر، من خلال النقاط التالية: بطلتا الروايتين ابنتا شهيدين من شهداء الجزائر. بطلا الرواية أحبّا ابنتَي الشهيدين. بطلا الروايتين ثوريان، احترف كل منهما مهنةً جديدة بعد الثورة؛ أحدهما في تدريس لغة عربية، والثاني اختار مهنة الرسم. بطلا الروايتين يعزفان نغماً واحداً لمدينتين جزائريتين. بطل «وليمة لأعشاب البحر»: عنّابة. وبطل «ذاكرة جسد»: قسنطينة. بطلة «وليمة لأعشاب البحر» تتزوج أحد التجار الذين انتفعوا باستقلال الجزائر وحقّق ثروة طائلة. وبطلة «ذاكرة جسد» تتزوج رجل الصفقات السرية. تَردّد اسم مالك حداد في الروايتين مرات عدة.

من زاوية أخرى، تعتقد الناقدة أن هناك تزاوجاً نصياً ما بين رواية «عابر سرير» ورواية «توأما نجمة» لكاتب ياسين، إذ تسلط الضوء على إمكانية وجود تعالق بين سيرتَي الرسام الجزائري إمحمد أسياخم، وخالد بن طوبال، الشخصية المحورية في رواية «ذاكرة جسد» ومنها: أن أسياخم كانت قد دفعته المغامرة إلى سرقة قنبلة من أحد معسكرات الاحتلال الفرنسي، لتنفجر به، فيخضع -بلا طائل- إلى ثلاث عمليات جراحية في يده اليسرى، والتي بُترت، وكان هذا سبباً لمزاولته الرسمَ التشكيلي في ما بعد، لتُعرض لوحاته في صالة أندريه موريس بفرنسا. بن طوبال بُترت ذراعه في معارك النضال الجزائري ضد الفرنسيين، بعدها احترف الرسم بناءً على نصيحة الطبيب اليوغسلافي الذي أجرى له العملية، وهذا ما فعله، ليصبح بعد حين أشهر رسامي الجزائر في باريس. وكِلا الرجلين (أسياخم وبن طوبال) مات مرضاً بالسرطان.

كثيرة هي التساؤلات والاستنتاجات التي تختمر في ذهن القارئ فور الانتهاء من قراءة كتاب «الجسد في مرايا الذاكرة»، والتي ربما تطرح إشكالية النقد من وجهة نظر الناقد، وإشكالية صياغة النص من وجهة نظر الكاتب. غير أن النتاج الإبداعي هو حصيلة أفكار تتسرب إلى إسفنجة ذهن الكاتب شاء أم أبى، ومن حق الناقد أن يعصر إسفنجة النص المبللة بالحبر كيفما شاء، إذ إن الكتابة الروائية هي عملية صهر لكيمياء أفكار مكثفة ممتلئة داخل إناء العقل اللاواعي. وما روايات اليوم سوى تناسل لروايات الأمس، حتى لو كانت تختلف في العنوان أو المحتوى الرئيسي، لأن أفكار كاتب اليوم هي جينات إبداعية تم توارثها من كاتب الأمس.

الأفكار لا تفنى ولا تموت، ولكنها تنتقل بالاطلاع أو التأثر أو التقليد أو حتى بالاستنساخ الناجم عن الصراع بين الخير والشر، فما الروايات سوى مرآة ذاكرة لأوجاع وأحزان ومآسي البشرية وإن اختلفت لغاتهم ومجتمعاتهم وزمانهم ومكانهم.

وحدها الأقلام هي التي تدوّن انفعالات الذهن المعقّدة والخفية للكاتب مما رأى وسمع وعاش، من دون علم منه، وعليه فإن ثلاثة أرباع قميص المجد الذي يكسو غلاف أعظم الروايات شهرة في العالم ربما يكون قد تم انتزاعه من قماش موهبة الآخرين. أليس الأسد الكاسر في الأدغال هو في الأصل مجموعة خراف وادعة تم ابتلاعها في الماضي.
_______

ملحق الرأي الثقافي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *