*آدم فتحي
وكان للصفحات الخاصّة بالسيّدة هانسكا (Mme Hanska) زوجة بلزاك، وتحديداً، للصفحات الخاصّة بقصّة موته كما أجراها ميربو على لسان الرسّام جان غيغو (Jean Gigoux)، وقعُ الفضيحة كما هو مُنتَظر، فلجأت ابنةُ السيّدة هانسكا إلى المحاكم وتمّ سحبُ تلك الصفحات، ولم تصدر مستقلّةً إلاّ سنة 1918. ثمّ صدرت من جديد ضمن الكتاب في صيغته الكاملة سنة 1937. قرأتُ هذا النصّ في أواخر تسعينات القرن العشرين في إحدى المجلاّت الفرنسيّة (L&rsquoévènement. N747/1999)، فأثّر فيّ تأثيرًا كبيرًا، على الرغم من اطّلاعي على ما حفّ بسيرة كاتبه من دعاوى الميزوجينيّة والتزيُّد وخلْطِ التخييل بالشهادة.
شكّك الكثيرون في بعض التفاصيل وقدح الكثيرون في شخصيّة الرسّام الذي أجرى ميربو القصّة على لسانه، وعزا آخرون قسوةَ النصّ إلى جرح نرجسيّ غائر أراد ميربو التنفيس عنه. إلاّ أنّي لم أهتمّ بنصيب النصّ من الحقيقة والتخييل بقدر ما اهتممتُ بأمور أخرى وردت في النصّ بشكلٍ عَرَضيّ لكنّها منحته كثافته التراجيديّة. من ذلك هو انُ شأن الكاتِب على أهل زمانه مهما بلغ من شأن. ومن ذلك إيمانُ الكاتب بعمَله حتى آخر رمقٍ في حياته.
شدّني النصّ بتلك اللقطات الجانبيّة أكثر ممّا شدّني بموضوعه الأصليّ على الرغم من طاقته التراجيديّة الكوميديّة الهائلة. لقطة الكاتب الشعبيّ وهو يحتضر وحيدًا! لقطة الوزير وهو يمشي في جنازة كاتبٍ كبير لا يعرف من هو! لقطة بلزاك وهو يرغب في استدعاء إحدى الشخصيّات التي ابتدعها في «الكوميديا الإنسانيّة»، الطبيب بيانشون، ليتولّى الإشراف على علاجه وإنقاذه من الموت! بدت لي رغبةُ بلزاك تلك، سواء كانت حقيقيّة أم مُتخيَّلة، كنايةً عن الرغبة الكامنة في قرارة كلّ كاتب: أن تحيط به كائناته وشُخوصُه وهو يعبر الروبيكون، في رحلته الأخيرة. وكأنّ ما يلقاهُ من اعتراف في حياته واهتمامٍ عند مرضه أو بعد وفاته ليس سوى حركاتٍ استعراضيّة تخفي في أغلب الأحيان ضيقًا به ورغبةً في التخلُّص منه، ولا بأس في أن يتمّ ذلك مع جني بعض الأرباح من وراء الظهور إلى جانبه في هذه الصورة أو تلك، والأفضل أن يكون ذلك بالسير في جنازته للتأكُّد نهائيًّا من أنّه رحل وكفّ شغبه. هكذا يتوهّم بعضُنا أنّه يملأ الدنيا ويشغل الناس، بينما هو في الحقيقة يعيش وحيدًا ويكتُبُ وحيدًا ويموتُ وحيدًا، لا رفيق له إلاّ «مخلوقاتُه» الحبريّة.
أذكر أنّي قرّرتُ ترجمة هذا النصّ منذ قرأتُه لكنّي ظللتُ أرجئ ذلك إلى اليوم، وها أنا أفعل، ربّما بسبب اقتراب ذكرى مولد بلزاك أو بسبب رحيل الكثير من أصدقائي الكُتّاب في ظلّ عمًى وصمَمٍ إعلاميّين عجيبين، أو لأنّي وجدتُ في هذا النصّ ما يدعم قول بودلير في يوميّاته: «إنّ الأُمَم لا تُنجب العُظماء إلاّ مُرغَمة»، وربّما لأنّي وجدتُ فيه شبَهًا كبيرًا بوضع الكاتب العربيّ بشكلٍ عامّ، وهو مُستهدف من كلّ جانب وبكلّ الطرق، خاصّة في هذه الأيّام الصعبة، في البلاد التي يُرفَع فيها المُقَدّسُ مثل المُسدّس في وجه الكُتّاب والمُبدعين وأهل الفكر والأدب والفنّ والثقافة عمومًا.
تابع/ بلزاك/ الجزء الثاني// قصة موت بلزاك هذه قصّة موت بلزاك في ذلك اليوم المرعب الموافق للثامن عشر من أغسطس سنة 1850 كما سمعتُها من جان غيغو وكما دوّنتُها في اليوم نفسِه، بعد أن عدتُ إلى بيتي، من دون تنميق أو مُغالاة ومن دون زيادةٍ أو نُقصان.
روى لِي هذه القصّة ونحن في مشغَلِه بين كُلِّ تلك التُّحف الجميلة والروائع الفنيّة التي حرص على جمْعِها. قالَ لي: كان فيكتور هوغو قد خصّ يموتَ بلزاك بصفحات جميلةٍ آسرة من كتابِهِ «مُشاهَدات» لا أعرف نظيرًا لِوَقْعِها التراجيديّ، إلاّ أنّ تلك الصفحات افتقرت إلى بعض الدقّة لأنّها لم تُصَوِّر بالوُضوح الكافي حقيقةَ الإهمال الذي صاحَبَ موتَ ذلك الكاتب الكبير. ولعلّ هوغو الذي أحبّ كثيرًا بلزاك وكان شديد الإعجاب به، قد أحجَمَ عن الإفصاح أمام هوْلِ الحقيقة. والحقيقة العارية أنّ بلزاك ماتَ مُهمَلاً من الجميع ومن كلّ شيء، ميتةَ الكِلاب.
ما أن نطق جان غيغو بالكلمة الأخيرة حتى انتبه إليه كلبٌ من النوع الإسبانيّ كبيرٌ أشقر كان متكوّرًا على نفسِه فيوق البِساط وبصْبَصَ رافعًا خطمَه نحو سيّده، فقال هذا الأخير منحنيًا لمداعب الجلدة الحيوانيّة الناعمة: كلاّ، كلاّ، اطمئنَّ يا صغيري، أنتَ لن تموت مثل بلزاك، ستجد من يُغمض لك عينيكَ أنت.. ثمّ استأنف حديثه: يزعم هوغو أنّه زار بلزاك ليلَتَها فاستقبلته السيّدة سورفيل، وأنّه تحادث لبضع دقائق مع السيّد سورفيل، وأنّه شاهد السيّدة بلزاك الأمّ عند سرير ابنِها المحتضر.. لكنّي أُؤكّد أنّ أحدًا من هؤلاء الثلاثة لم يقترب من فندق شارع فورتونيه في تلك الليلة. العجوز التي حسبها هوغو أُمَّ بلزاك لم تكن سوى مُمرِّضة، والله أعلَم بما كانت تمرِّضُه. كان هناك أيضًا فَرّاشٌ مُسِنٌّ كسولٌ وماكرٌ هو نفسُهُ الذي قال لهوغو «السيّدُ هالِكٌ لا محالةَ والسيّدةُ عادت إلى بيتِها». لم يكن أحدٌ منهما يقترب من غرفة المُحتضِر إلاّ لِماماً، بل لم يكن أحدٌ في الغرفة في اللحظة الحاسمة حين لَفَظَ بلزاك أنفاسَه الأخيرة، لا من العائلة، ولا من الأصدقاء. كان غوزلان بعيداً عن باريس ولم يُفكِّر أحدٌ في إخبار غوتييه أو لوران جان كما لم يتمّ إعلامُ أيّ ناشر وأيّ صحيفة.
أمّا الأطبّاء الذين كانوا يُشرِفون على عِلاجِه.. هُنا رفَعَ غيغو يديه ثمّ تركهما تتهالكان على فخِذَيْهِ مُردِّدًا: يُشرفون على علاجه.. يُشرفون على علاجه.. دعنا من هذا.. المهمّ أنّ أولئك الجرّاحين الثلاثة الذين كانوا يُشرفون على علاجه انصرفوا ناصحين بعدم إزعاجِه بعد ذلك مهما حدث. لم يعد ثمّتَ ما يُمكِنُ عَمَلُه. كان بلزاك يرحل. كان يموت من الأسفل. أمّا نصفُه الأعلى فما انفكّ حيًّا. تغلغلت الحياة في هذا الرجل الشيطان حتى بات من الصعب عليها أن تُغادر جسَده حتى وهو يتفسّخ. كانت الدار عبِقةً برائحة الجيفة.
تغيّرت سحنة بلزاك بشكلٍ طفيف وانغرست أصابعهُ في اللحاف. لم تندّ عنه غير عبارةٍ وحيدة: «آه!» ثمّ سأل بعد فترة صمتٍ طويلة: «ومتى أموت؟» أجابه الطبيب وقد اغرورقت عيناه بالدموع: «قد لا يطلع عليك صباح الغد». ثمّ لزم الاثنان الصمت. كان يُخيّل إلى الناظر أنّ بلزاك يُفكّر بعمق على الرغم من الألم الذي كان يعتصره. فجأةً حدج ناكار بنظرةٍ طويلة مصحوبة بابتسامةٍ غلبَ عليها الاستسلام وإن لم تَخلُ من شيءٍ شبيهٍ بالعتاب وقال بين شهيقٍ وزفير: «آه! أجل! أعرف. كان لابدّ لي من بيانشون. كان لابدّ لي من بيانشون. بيانشون كان في وسعه أن يُنقِذَني دون شكّ». لم يضعف كبرياء المُبدع أمام الموت. ها هو يؤكّد مرّةً أخرى قوّة إيمانِه بعمَلِه عن طريق هذه الكلمات الأخيرة التي تلفّظ بها باقتناع رائع: «كان لابدّ لي من بيانشون». انطلاقًا من تلك اللحظة خفّت النوبة وارتخى المريضُ شيئًا فشيئًا وخُيِّلَ إلى الناظر أنّه صار يتنفّس بألمٍ أقلّ. كان ناكار على بيِّنةٍ من كلّ الخلافات العائليّة التي قاساها بلزاك، ولعلّه رأى المريض أكثر هدوءً فساوره الأمل في لحظة حنانٍ وسماح فسأله: «هل توصي بشيء؟ هل ثمّت شيء تفضي به إليّ؟ هل ترغب في شيء؟» عند كلّ سؤال كان بلزاك يحرّك رأسه يمنةً ويسرة مُجيبًا: «كلاّ. لا حاجة لي بشيء. لا أرغب في شيء».
في تلك اللحظة صمتَ واسترجع أنفاسه مارًّا بيده أكثر من مرّة على جبينه، ثمّ قال بصوتٍ أكثر خفوتًا وأقلّ جسارة: في ذلك الصباح جئتُ مبكّرًا إلى عند زوجة بلزاك. وجدتُها في لباسٍ يُشبه قميص النوم الواسع الأحمر، عارية الذراعين، وقد سرّحت شعرَها بإحكام. لم تكن نامت طيلة الليل. اعترفت لي بأنّها لم تجرؤ على دخول غرفة المريض، وأنّ ناكار عنده الآن، وأنّها لا تعرف ما الذي عليها أن تصنع، وأنّها تعسة جدًّا. قالت لي في نبرةٍ شبيهةٍ بالأـنين «إنّه قاسٍ جدًّا معي. أخاف أن أراه». كانت تبدو شديدة التهيُّج وفي الوقت نفسِه شديدةَ الإحباط. نصحتُها بالظهور ولو لعدّة دقائق عند سرير زوجها. ردّت: «لكنّه لم يعد يعيرني أيّ اهتمام.
هكذا مرّ النهار كئيبًا ثقيلاً أبديًّا. لم تسمح لي بالخروج. لم تسمح لي بالفراغ إلى قضاء شؤوني ولا بالذهاب إلى مشغَلي حيث كان لديّ موعدٌ مهمّ. كلّما ألمحتُ إلى رغبتي في ذلك تشبّثت بي صارخة: «كلاّ! كلاّ! لا تتركني وحيدةً هنا. مشغلك؟ ابقَ معي أرجوك!» كانت تسدُّ أذنيها كلّما جاءت الممرّضة تطلب غرضًا من الأغراض ينقُصُها أو تُعلِمنا بمراحل الاحتضار. كانت تسُدُّ أذنيها رافضةً سماع أيّ شيء. بل إنّها طلبت من العجوز أن لا تعود إلاّ إذا «تمّ كلّ شيء».
لم أتصوّر قطُّ أنّ في وسع امرأةٍ تُوصَفُ بالكائن المتفوّق والحيويّ واللامع، مثل مَدام بلزاك، أن تتحوّل إلى طفلٍ متخلّف وحيوان ذاهل بهذا الشكل. لقد رأيتُ النساء دائمًا أقوى من الأحداث، قادرات على إعطاء الرجال المثَلَ في الشجاعة والصبر والتحكُّم في النفس. أمّا هي فقد غدت لا شيء، لا شيء البتّة. لم تعد كائنًا عاقلاً ولا شخصًا مجنونًا ولا حتى حيوانًا. يا لهُ من أمر يُرثَى لَه! لقد غدت لا شيء. غلَبَها التعبُ وخدّرتها حرارةُ الغرفة المُغلَقة فأذعنت أخيرًا إلى التمدُّد على الشيزلونغ حيث أغفت إغفاءةً مُضطربة حتى هبوط الليل. أمّا أنا فقد فتحتُ كتاب «طبيب الريف» إذا لم تخنّي الذاكرة. كانت النسخة بالية مُمَزَّقة قذِرة لكثرة ما قُرِئت وأعيدت قراءتُها. ولكن هل يجبُ أن أقول ذلك؟ كنتُ متبلّدًا بشكلٍ تامّ، عاجزًا عن قراءة أيّ شيء أو التفكير في أيّ شيء. لم أكنّ أحسّ بشيءٍ عدا الانزعاج من كوني هناك. كنتُ منزعجًا خاصّةً وبشكلٍ وحشيّ بسبب عدم قُدرتي على التدخين.
وفي تلك الغرفة في قلبِ باريس حيثُ كان يموتُ أحدُ أكبر عباقرة القرن مُهمَلاً أكثر من حيوانٍ مريضٍ في قاع حُفرة، كنتُ أُنصِتُ، دون أن أتأثّر ببشاعة المأساة، كنتُ أُنصتُ إلى ذلك الصمت الشاسع الكئيب، الذي لم يكن يتخلّلُهُ من بعيد سوى صوتٍ بشريّ وحيد، صوت نعلَيِّ المُمرّضة في رواحها وغدوّها من خلف الباب، في الرواق…
توقّف غيغو عن الكلام. بدَا لي مُتعبًا خائفًا من قول المزيد. هذا العجوز الذي عرفتُهُ دائمَ التشكُّك في حياته الخاصّة دائمَ التخوُّف من الأحكام المُسبَقة إلاّ في ما يتعلّق بفنّه، والذي كاد يتّخذ من السينيزم نوعًا من الزينة الثقافيّة أو القانون الأخلاقيّ للوجود، ظلَّ أمامي يتفصّد خجلاً وحيرةً شبيهًا بالطفل الذي ضُبِطَ متلبِّسًا بخطيئة. ثمّ سرعان ما أشاح بوجهه عنّي هاربًا من عينيّ، حتى خيِّل إليّ أنّه لن يجد الجرأة على المزيد من البوح والكلام. كنتُ أرى بوضوح أنّه يبذُل جهدًا مُضنِيًا لاستئناف ما انقطع من حديثه، لذلك اعترفتُ له في سريرتي بالجميل حين قرّر أخيرًا أن يواصل: في العاشرة والنصف مساءً، بالتحديد، انهالت على الباب طرقتان عنيفتان: «سيّدتي! سيّدتي!» تبيّنتُ صوتَ المُمرّضة الحادّ الزعّاق الذي لم يلبث أن ردّد: «سيّدتي! سيّدتي!» قبل أن يُضيف: «تعالي سيّدتي! تعالي! سيّدي في الرمق الأخير!» ثمّ انهالت على الباب طرقتان أخريان أكثر عنفًا حتى خُيِّل إليّ أنّ الباب ينخلع وأنّ المُمرِّضة تقتحم الغُرفة. كنّا قد انتصبنا على السرير وقد اشرأبَّ عُنقانا وفغر فمانا وظللنا جامِدَيْنِ نتبادل النظرات دون أن ينبس أحدُنا بكلمة. أخرجتْ إحدى ساقيها بسرعة من تحت اللحاف كأنّها تهمّ بالنهوض. قلتُ شادًّا على قبضتيها: «انتظري!» ولِمَ الانتظار؟ انتظار ماذا؟ همستُ بذلك بصوتٍ يكاد لا يبين، عَفْوَ الخاطر، دونَ أن يكون كلامي مرتبطًا بفكرة مُعيّنة، دون أن يكون لديّ قصدٌ مُحدَّد من ورائه، تمامًا كما كان في وسعي أن أقول: «هيّا! أسرِعي!» بالنبرة نفسِها. إلاّ أنّ الصوتَ كان قد توقّف عن الصراخ من وراء الباب، وخلفه صدى النعلين يبتعدان في الرواق مُفرقعين على البلاط. ثمّ سمعتُ صرير بابٍ يُفتَح من بعيد، ثمّ صرير بابٍ يُغلَق، ثمّ ران الصمت.
كان شَعْرُها المُرسَلُ يكسو وجهها كأنّه برقع حِداد، متهدّلاً مثل موجات سوداء على كتفيها اللذين سقطَ عنهما القميص. همستْ أخيرًا: «هذا غَباء! هذا غباء! كان عليَّ أن أجيبها. ماذا عساها تُفكّر فيّ الآن؟ حقًّا! كان تصرُّفًا أحمق». إلاّ أنّها لم تتحرّك ولم تَطْوِ ساقَها المتدلّية من على السرير، بل ظلّت تُردّد بصوتٍ يكاد لا يبين: «هذا غَباء! لماذا منعتني؟ لماذا أمسكتني؟» بينما أنا أكرّر بعناد: «بل انتظري! لا شكّ أنّها ستعود». – «كلاّ! كلاّ! إنّها تعلَم أنّك هنا. كان عليّ أن أجيبها. والآن؟» -«لا شكّ أنّها سترجع. انتظري!» وهو ما حدث حقًّا. لم تَمْضِ عَشْرُ دَقائق خُيِّل إلينا أنّها ساعات، بل قُرون، حتى عادت المُمرّضة وطرقت الباب طرقَتين كما فعلت في المرّة الأولى: «سيّدتي! سيّدتي!» ثمّ أضافت: «سيّدي راح. سيّدي مات..». هنا توقّف الرسّام العجوز عن الكلام للحظات ثمّ قال هازًّا رأسه: دَعْنِي أعترف لك بأمر يفوق التصوُّر. أمر لا يمكن تفسيره. وليس ذلك التماسًا للأعذار أو دفاعًا عن نفسي، بل… على أيّ حال… هذا ما حصل. أؤكّد لك أنّ عبارةَ «سيّدي مات» لم تُثر في نفسي لأوّل وهلة أيّ إحساسٍ مُحَدَّد، ولا أيّ شيء ذي بال. والأدهى من ذلك أنّي لم أربطها أصلاً ببلزاك. كَلاّ! كنتُ خارجًا عن طوري. خارجَ ذاتي. خارج كلّ وعيٍ وكُلِّ حقيقة. كنتُ غريقًا في لجّةٍ من العمى الأخلاقيّ، إلى درجة أنّ هذا الخبر الذي بلغ مسمعي من خلف ذاك الباب والذي ستدوي له أرجاء العالَم بأسرِهِ من الغد، لم يُوقظ في نَفسي من الأثَر غير ما يُوقظُهُ عِلْمِي بأنّ أحدًا مَا، نكرةً من النكرات، قد قضى نحبَه.
كانت تنتقل من أريكة إلى أُخرى ملتقطةً قطعةً من ملابسي أو ملابسها المنثورة في أرجاء الغرفة مُلقيةً بها إلى الأرض مرّة أُخرى مُدحرجةً أحدَ الكراسي مُصطدِمةً بإحدى الطاولات التي لم تُرفَع عنها فضلات العشاء بعد. وكانت المرايا تُضاعف صُورتها المروعة التي ما انفكّت تزداد عُريًا مع مرور الثواني. انهالت الطرقات على الباب من جديد أشدّ عنفًا وأكثر حدّة وصرخ الصوتُ أعلى زعيقًا: «سيّدتي! سيّدتي! أنتِ يا سيّدتي!» رأيتُها تَهُمُّ بالخروج في تلك الهيئة تكاد تكون عاريةً تمامًا فهتفتُ بها: «إلى أين؟ ارتدي بعضَ الملابس على الأقلّ. ثمّ اهدئي قليلاً». غ
طبعت المرارةُ تقطيبةً تكاد تبدو شرّيرة على زاوية فمها، وهكذا صار لفمها ذي الشكل الشهوانيّ الفاتن تعبيرٌ فظٌّ سافل يكاد يُثير القرف. سألتُها إن كانت قد أخبرت أفراد الأُسرة بالأمر. ردّت: «غدًا. غدًا. كيف تريدني أن أفعل في مثل هذه الساعة؟» كان صوتُها قد تغيّر وفَقَدَ تلك اللكنة المُنَغَّمة التي طالما أعجبتني فيها. صار صوتًا عدوانيًّا. خُيِّلَ إليّ أنّها كادت تتقيّأ وهي تنظر إليّ وإلى السرير وإلى فوضى الغرفة. حسبتُها ستنفجر باكيةً او غاضبة. ساعدتُها على التمدُّد على السرير: «غدًا سيكون يومًا مُتعِبًا بالنسبة إليك. زوّار كثيرون. واجباتٌ كثيرة. استريحي. حاولي أن تنامي». ردّت: «أجل. أجل. أنا خائرة القوى». كنّا قد أشرفنا على الساعة الرابعة صباحًا. لن يلبث النهار أن يطلّ بطلائعه الأولى. قلتُ لها بلطفٍ وحنان: «لا تؤاخذيني إذا تركتُك الآن. كوني متفهّمة. لابدّ من ذلك. لن يكون من اللائق أن يجدني أحدٌ عندك في مثل هذه الساعة». توقّعتُ منها شجارًا أو دموعًا لكنّها لم تحتجّ ولم تحاول استبقائي بل وافقت في نبرة جافّة: «أجل! أجل! أنت على حقّ. هذا أفضل. اِذهب الآن». ولمّا رأتني أتلكّأ في المغادرة باحثًا في الغرفة عمّا لا أدري من الأغراض، أضافت بصوتٍ أكثر حِدّة وببرودٍ فاجأني: «هيّا اِذهب. ماذا تنتظر؟» رفضت قُبلتي: «حسنًا! حسنًا! اتركني الآن، من فضلك». هل كان ذلك بسبب الإرهاق؟ هل كان ذلك بسبب التقزُّز؟ أم كان لأمرٍ آخر؟ المهمّ أنّي غادرتُ الغرفة. لم يكن في الرواق أحد. لم يكن في الدار صوت. كان ثمّتَ قنديلٌ يلفظ أنفاسَه الأخيرة فوق طاولة صغيرة، وكان نورُه المرتعش يحرّك ظلالاً كبيرة على الجدران. أمام غرفة بلزاك كدتُ أصطدم بكرسيٍّ كانت الممرّضة قد كدّست عليه لفافات الملابس والألحفة الملوّثة العبقة برائحة عُفونةٍ بشِعة. توقّفتُ وأصختُ السمع. لا شيء. صريرُ قطعة أثاث ذلك كلّ ما في الأمر. أحسستُ بغصّةٍ في حلقي وشبه اختناقٍ في صدري. فكّرتُ للحظةٍ في الدخول. لم أجرؤ. فكّرتُ أيضًا في الإتيان بعلبة الألوان لرسم تخطيط لمشهد الرجل الكبير وهو على فراش موته، إلاّ أنّ هذه الفكرة بدت لي مستحيلة ومجنونة. قلتُ في سرّي: «كلاّ! كلاّ! ليس أنا من يفعل ذلك. ستكون تلك دعابةً قذِرة».
وكأنّ ما حظيت به من الاهتمام والاحترام والتشريف قد أنبت داخِلَها ما كانت تفتقر إليه من أحاسيس الألم والحبّ. لم أكن أصدّق عينيّ على الرغم من أنّي رأيتُ من العجَبِ ألوانًا. آه! يا لتلك الجنازة! ندّت عنه ابتسامة تكاد تكون مرِحة: تصوّر يا عزيزي أنّ الوزير الذي كان يمثّل الحكومة ويسير على رأس الموكب إلى جانب فيكتور هوغو، التفتَ إلى هذا الأخير وقال له: «يبدو أنّ بلزاك هذا كان شخصًا لامعًا بعضَ الشيء، أليس كذلك؟» التفتَ فيكتور هوغو إلى هذا الوزير الذي لم يغفَل عن ذكره في كتاب «العقوبات» وحدجه بنظرةٍ ملؤُها الذهول والاستنكار قائلاً: «هذا الرجل كان عبقريًّا أيّها السيّد. كان أكبر عباقرة هذا العصر». ثمّ أولاه ظهره… روى هوغو هذه الواقعة في بعض نصوصه، ولم يحد في ذلك عن الحقيقة فقد كنتُ إلى جانبه حين حدثت هذه اللقطة الصغيرة الهائلة. إلاّ أنّ ما فاته دون شكٍّ أنّ الوزير سرعان ما التفت إلى جاره الآخر، وأذكر أنّه كان ذا عذارين فاخرين، فهمس في أذنه قائلاً: «يبدو أنّ السيّد هوغو أكثر جنونًا ممّا كنّا نتصوّر..». هنا أطلق غيغو ضحكةً رنّانة من تلك الضحكات التي لم تفقد بريقها لديه حتى وهو في تلك السنّ المتقدّمة. ثمّ أضاف قائلاً: آه! ثمّتَ أمرٌ آخر يا عزيزي لا أدري إن كنتَ على عِلْمٍ به. من الغد حين ذهب صبّابُو القوالب لأخذِ قالبٍ لوجه بلزاك، كان عليهم أن يعودوا أدراجهم خائبين. لقد تفسّخ جسدُه بسرعة. جلدةُ الوجه كانت قد اهترأت بعدُ، وكان الأنف قد سال على اللحاف تمامًا…