*د. شهلا العجيلي
“يجب على المرء أن يقطع كلّ صلاته بالآخرين إذا شرع في مغامرة كبيرة”!
هذا ما يوصي به هنري ميللر في صبواته، ولاشكّ في أنّ الكتّاب والباحثين يمتلكون دائماً مشاريع مغامرات كبرى يتوقون إليها، ويبحثون عن العزلة ليمنحوها أنفسهم، وأنّ حياتهم تتوتّر كلّما عرض ما يعيق شروعهم في المغامرة.
الصحافة كثيراً ما توجّه للكتّاب أسئلة عن العزلة، من قبيل: أين يفضّل الكاتب أن تكون عزلته، وما الكتب التي يمكن أن يصطحبها؟ وأعتقد أنّ الكاتب يرغب في تلك العزلة في بيته، وعلى مكتبه، وليس بالضرورة في الكاريبي أو المالديف، كما أنّه يفضّل أن ينصرف عن كتب الآخرين لكتابة كتابه الخاصّ!
الكتّاب غير المتفرّغين يستنزفهم العمل، قال لي أحدهم: أنتظر أن أتقاعد لأتفرّغ للكتابة، إنّها أكثر ما أحببته في حياتي! يمكنني أن أجزم بأنّه لن يكتب وقتها، لأنّه سيفقد نماذجه المستقاة من الحياة في محيطه، في عيادته تحديداً. الكتّاب الحقيقيّون ينبضون بنبض العالم، لا تكفيهم القراءات التي يقترفونها في أبراجهم العاج. يجلسون إلى المقاهي، يدخلون في حوارات مع الباعة والمتسوّلين والفلاسفة، ويقعون في الحبّ، وربّما هذا شرط الحياة الأوّل بالنسبة إليهم! وهكذا يتتبّعون الناس، ويغرقونهم بعواطف متناقضة، مثلما يدلّل الصيّاد بعض فرائسه، يلاحقها، ويطعمها لتسمن، ويخشى عليها من صيّاد آخر، ثمّ يقتلها.
يتابع ميللر في صبواته قائلاً: “الحبكة والشخصيّة لا يشكّلان حياة، الحياة ليست في الطابق العلويّ، الحياة هنا الآن، في أيّ وقت تقول الكلمة، في أيّ وقت تترك الأمور تسير على هواها. قوّة الحياة أربعمئة وأربعون حصاناً بمحرّك ذي أسطوانتين”. إذن فلنرم مقولة الاكتفاء بالكتابة عن العالم، في صندوق الأكاذيب، ذلك الصندوق الذي اخترعته أناييس نن صديقة ميللر وحبيبته، التي امتلأ رأسها الجميل بالأفكار والرؤيات، إلى درجة أنّ المساحة التي يمنحها العالم للكتابة لم تعد تكفيها، فضاعت حتّى بين أزواجها الحقيقين والمتخيّلين، لذا صارت تحصي كذباتها التي يضيق الفنّ عنها، وتدوّنها على قصاصات تلقيها في ذلك الصندوق الكبير.
لقد حملت أناييس ميللر على اعترافات جريئة، أطلقها في لحظة قوّة لا في لحظة ضعف، إذ اعترف ليس خوفاً من أن يفقدها بل لأنّه رغب بشدّة في التمسّك بها، فأقرّ بأنّه يريد التخلّي عن عزلته ككاتب، من أجلها،إنّها الحياة الحقيقيّة فكيف يتركها ليبحث عن حياة مزيّفة، عن ظلّ الظلّ، برؤية أفلاطون، التي تذهب إلى أنّ العالم ظلّ الحقيقة، والكتابة ظلّ ثان!
رجاها في رسالة شغف، من أجمل الرسائل التي يحتفظ بها تاريخ الأدب، أن تكون معه دائماً، معتذراً عن عزلته: “أليست حياتنا أشدّ أهميّة من العمل!.. حوّلت العمل إلى ولع، وحاولت أن أبرّره بأنواع شتّى من الأضاليل. هذا كلّه انتهى. لقد تحوّل وجهي نحو المستقبل بفرح، سوف يكون العمل طبيعيّاً أكثر، ولن يكون غاية، لقد كدت أتجرّد من إنسانيّتي وأنت أنقذتني… أنا كنت فنّاناً فقط بالكلام، وفي الحياة كنت فاشلاً بمرارة، كلمات.. كلمات، كم تخنق روح المرء! أعطني المرأة وسوف تحتلّ الكلمات موقعها المناسب. لقد كنت عبداً للكلمات، الآن سوف أستخدمها…”.
ليست بقليلة تلك الأشياء المستحقّة في الحياة، والجديرة بكسر عزلتنا، الصداقة مثلاً من الأشياء التي لها حجم حقيقيّ في الحياة، والأصدقاء هم أولئك الذين إذا صمتنا معهم يمكن أن نسمع همس الله، كما يقول إمرسون، وقد ربطت صداقة عظيمة بين ميللر وأناييس، وقد سمعت مرّة حكيماً يقول لشاب طلب النصيحة: إذا قررت الزواج، فلتتزوّج من صديقتك الأقرب! المقدّسات والعائلة، والحبّ مدلولات جوهريّة، ولعلّها الحياة الحقيقيّة، التي نحاول أن نعتزلها طلباً للفرديّة، مثلما يفعل المراهقون الذين لم يحترقوا بنار التجربة.
تدّعي المجتمعات الحداثيّة النضج، إذ مرّت بتجارب تاريخيّة عنيفة، ويقول معظم الناس فيها إنّهم يعرفون الحجم الحقيقيّ للأشياء، ليس نتيجة مغامراتهم الفرديّة فحسب، بل بسبب من تجربتهم التاريخيّة بوصفهم عناصر اجتماعيّة، فلنرم بذلك القول في صندوق الأكاذيب أيضاً، فكيف تقولون إنّكم تحبّون أمّهاتكم، وإنّكم مشغوفون بنسائكم، ثمّ تذهبون إلى الحرب! تؤلّفون قصائد وألحاناً، وتتمنون للأطفال مستقبلاً أفضل، ثمّ ترمون بآبائهم إلى الموت! هل رأيتم صورة ذلك الجنديّ الذي تمسّك طفله بساقه، يرجوه أن يبقى معه، فلا يذهب إلى المعركة، ويموت، فيتركه يتيماً!
عزلة المثقّف مصطنعة أيضاً، ليست من صميم الحياة، فالحياة طيّبة وكريمة، أعطاها من لا يضارع بكرمه، فليس من طائل وراء ألاّ نشارك الناس أفراحهم، وأحزانهم، وآلامهم، وألاّ نذهب إلى تأبين الراحلين سوى أن نملأ صندوق الأكاذيب بمزيد من القصاصات المؤذية.
________
*موقع عمّان.نت