*سعيد السوقايلي
كل أمر غير مقنن وغير معياري هو مشاع بالضرورة، وكل مشاع هو مجال لا متناه ومنفلت، لذلك يسهل الخوض فيه من دون مواربة إلى حد المكيافيللية الرخيصة، هذا هو حال صناعة القبح التي غدت ديدن من يركبون روح الإبداع في أي ميدان من ميادين الإنتاج الثقافي.
ويصعب حصر مجال تفشي القبح في جهة ما، إذ نجده يسري في الفن والأدب والفكر… أكثر منها في الحقول المعرفية النابعة عن العلوم الحقة والعقلانية. تُرى هل هي أزمة أخلاق، وقيم، وذوق؟ أم أن الأمر محض جمالية جديدة تفرزها سياقات وأنساق جديدة؟ وإذا كانت كذلك، فهي تحتاج إلى تمحيص وبحث لتقييم جدتها وفرادتها؛ حتى ونحن نقارب حساسية هذه القبحيات الزاحفة، لابد أولا أن نشير أيضا إلى أن مَعْيَرَة الجمال مسألة نسبية، تختلف من جغرافية إلى أخرى، فمثلما لا يمكن إدراك الجمال إلا إذا طفا في جنباته القبح، فكذلك لا تُحدد مظاهر القبح إلا إذا انطفأ الجمال في أعيننا، فكلاهما نسبي، وكل واحد منهما مقياس للآخر؛ فإلام نحتكم إذن، وبماذا نلوذ لإصدار حكم قيمة على عمل إبداعي معين؟ هل إلى أهوائنا وأذواقنا العفوية وغير الخبيرة؟ أم إلى فلسفة الأنوار التي أغلقت ملف الجمال باكرا بعدما قعدت ضوابطه ضمن العلوم المعيارية (علم المنطق، وعلم الأخلاق الذي يبحث في الحق والخير والجمال…)، ومن ثم حصرته كعامل مشترك بين الفلسفة والفن، ليصبح هذا الطرح أكثر دوغمائية كلما برز في الأفق مظهر جديد يوصف بكونه بدعةً جماليةً، وبالتالي قبحا فجا، والواقع إن الفلاسفة ومنظري الجمال خاصة قلما يأخذون بعين الاعتبار التحولات الإبستيمية التي تحدث في الأنساق والسياقات المولدة للحساسيات الجديدة المنتجة لشكل فني وإبداعي جديد يعبر عن روح عصره، فأصبحنا كما لو أننا أمام متعاليات مطلقة، وإن وجدت دراسة لظاهرة جديدة فأصحابها يباركونها بكل عمى تنظيري وحماسة غير مسؤولة.
هي إشكاليات جمة ينصب فيها كل وافد جديد نفسه محكما ومجيزا لجمالية جديدة مهما اعتورها من نشاز وشناعة بينة، إذ سرعان ما تغدو معيارا آنيا لكل جمالية جديدة، فتتناسل على إثرها الأشكال تلو الأشكال، من دون سند يسوغ لها قيمتها الجمالية، فمتى انعدمت الروافد الروحية في بعدها الديني السليم المستجيب للنداء الفطري الصافي للإنسان، ومعها المصاحبة العقلانية الواعية بالشرط الإنساني في أبهى تفكيره السليم، إلا وظهرت الأفكار الغريبة الأكثر إيغالا وتطرفا في صناعة القبح الذي يخدش الذوق العام والوعي الفطري للإنسان، والحالة هذه لا بد قبل كل شيء، أن توضع ضوابط جديدة، أخلاقية وجمالية تستجيب للنداء الروحي للإنسان الذي هدته انزلاقات العقلانية المفرطة، والحرية الذاتية الممعنة أحيانا في أشد لبوساتها الشاذة بدعوى الحداثة والتجريب المتكئ على فراغات منفلتة ومنسية، ولنا في التجارب المرة التي عاشتها أوروبا عبر عصورها، خير شاهد على مظاهر التمرد على العقل المفرط أحيانا، وعلى الحرية السائبة ضدا من بعض الضوابط المعقولة التي تحترم الطبيعة الإنسانية كما جبلها الله أحيانا أخرى.
إن ما يطلق عليه بعض أشباه المنظرين بالجماليات القبحية أو القبحيات لتبرير منجزات فنية إبداعية جديدة، لهو تسفيه لما أنجزه الذوق العام في أبعاده الإنسانية المشتركة، وتقويض لما راكمه عبر عصور خلت أفراد وجماعات ومؤسسات مسؤولة في بعدها الديني أو الفكري أو الأدبي…
وتلك أهداف سياسية وعقدية متطرفة معروفة المصادر، تريد النيل من الثقافات النظيفة أو المحافظة والحاملة لقيم إنسانية نبيلة لا يتجادل فيها نقيضان، أهداف تنوء تحت طائلة الحرية والتمرد على مجمل الأفكار والقيم، ماضوية أو محدثة، لزعزعة الكيان الإنساني والزج به في مطبات ومهاوٍ شائكة العواقب؛ بمثل هذه الأسباب نجد عالمنا العربي ينجرف كلية نحو كارثة قيمية كبرى، باسم حداثة غريبة عن هويته الثقافية، وباسم الانفتاح الأعمى، من دون قيد أو شرط على آخر يغرق هو الآخر في أخطائه، فغدا التجريب والتقليد سمتين مجانيتين لصناع جدد باسم التحديث، من دون وعي نسقي بخصوصيات الأنا والهوية وشرائطهما الثقافية المحلية، فسقطوا في فجاجة القبح واهمين أنهم يفصلون أيقونات جمالية عربية نموذجية، والواقع أنهم يعيشون غربة إبداعية وفكرية وفنية، ضمن غربة مكانية وزمانية، لأنهم يعيشون في زمن يفترضونه افتراضا خاطئا أنه زمنهم، ويطأون أرضهم بأقدام مهزوزة، بينما عقولهم تسيح حالمة في مكان آخر بعيد، لذلك نجدهم يصنعون بأفكارهم وخواطرهم عمالقة بأقدام من طين، ويطلبون منا أن نتملى هذا الجمال، ونلاحق نجوما في الليل العربي هي أشبه بفقاعات الصابون الناعمة، إننا عبثا نبحث عن الجمال في القمامة، عفوا في الإعلام الأخطبوط، وفي الجرائد والمجلات والسينما والتلفزيون والأدب والفن والدين…
إنها رأسمالية ثقافية جديدة تخطب ود الجيوب دون العقل والوجدان العربيين الكسيحين، لقد كثر أدعياء وسدنة وإرهابيو الثقافة… فملأوا أعيننا بمشاهد القبح والوقاحة والرعب والرداءة الرخيصة… وطننوا آذاننا بكلماتهم البذيئة والفقيرة لروح الإبداع الحقيقي، وشعاراتهم وصورهم وألحانهم الهابطة… لا ننكر البتة وجود شرفاء أخلصوا للأدب وللفن وللفكر وبصموا ساحتنا الثقافية غير أنهم قذفتهم القرارات السياسية الماكرة الفاشلة بتهمة حلاجية.
إن صناعة الجمال الحقيقي تحتاج إلى خبرة طويلة وعميقة، ووعي تفكيكي لفهم ذواتنا أولا بالنظر في خصوصيتها الثقافية، واستقراء حاجياتها الروحية، ثم استثمار رصيدنا الجمالي الرمزي والمادي الموروث منه والراهن، وفق مشروع نهضوي جمالي تصاحبه الأبحاث والدراسات الجادة النابعة من عمق ثقافتنا ومن عمق الثقافات الإنسانية الأخرى التي تحترم الشرط الإنساني. فثقافتنا العربية لم تكن أبدا منغلقة على ذاتها، بل كانت على الدوام أهم روافد نهضة الغرب نفسه.
كاتب مغربي/ القدس العربي