د.يوسف بكّار
(1)
يقول الأديب البحرينيّ إبراهيم العُريّض (1908–29/5/2002)، في «بين الخيّام ومترجميه» (مدخل ترجمته «رباعيّات الخيّام») (1)، يقول: «فقد عرّبها(2) (الرُّباعيّات)، فيما أعلم: السّباعي (محمد – مصر) (3)، والزّهاوي (جميل صدقي – العراق)، والصّراف (أحمد حامد – العراق)، والرّامي (أحمد رامي – مصر)، ثم الصّافي (أحمد الصّافي النجفي – العراق)».
ويقول في حاشية الصفحة نفسها: «وقد انضمّ إلى هذه الزُّمرة من شعرائنا –وبعدهم بفترات مختلفة– علي محمود طَه، والدكتور أبو شادي (أحمد زكي – مصر)، والمازني (إبراهيم عبد القادر – مصر)، والحيدري (طالب – العراق)، وعبد الحقّ (عبد الحقّ فاضل – العراق)، وسواهم.. لعل آخرهم الملائكة (المقصود الدكتور المهندس جميل الملائكة خال الشاعرة نازك الملائكة)».
(2)
إن عدد من ترجموا رباعيّات لعمر الخيّام من العرب كبير قد يصل إلى الثمانين، سواء أولئك الذين درست ترجماتهم في كتابي «الترجمات العربيّة لرباعيّات الخيّام: قراءة نقديّة»(4)، أم من فاتني منهم، أم من ترجموا بعدهم. وسوف يأخذون جميعاً أمكنتهم في الطبعة الثانية، التي أخّرتها عمداً، إن شاء الله.
فأمّا الذي يجب أن ينبَّه عليه جيّداً هو أنّ الشّاعر المهندس علي محمود طه (1902-1949) ليس في المترجمين، ولا يُعرف عنه أنّه ترجم رباعيّات لعمر الخيّام. قد يعود اختلاط الأمر على العُريّض، رحمه الله، إلى قصيدة علي محمود طه «كأس الخيّام» في ديوانه «ليالي الملاّح التائه» (5).
(3)
القصيدة طويلة ومنظومة على بحر الكامل في إحدى وأربعين «مثنّاة» (جمعها: مثنيّات)، وهي غير «الرباعيّة»، وقد تكون أكثر من بيتين، وتكون شطور «المصاريع» فيها في قافية وشطور «الأَعجاز» في قافية أُخرى في الأغلب. وهذا القالب عربي عرفه الشعر الفصيح قديماً، والشعر البدوي، والشعر النّبطي حديثاً (6).
وقد التفتت نازك الملائكة إلى هذا القالب وأطلقت عليه «القافية المتغيّرة» حسب، واستشهدت ببعض قصائد علي محمود طه و»كأسِ الخيّام» فيها من دون أن تدرسها، وقالت: «فقد استعملها (علي محمود طه) في القصائد ذات الفِكر المتسلسلة المنثورة بحيث يرد جزء من الفكرة في كلّ مقطع، ويكون تغيّر القافية متجاوباً مع تغيّر الفكرة»(7)؛ فضلاً عن أنّها قالت قبل هذا إنّها من ذوات «المقطوعات الثنائيّة»، وسلكتا توّهماً في قالب «الموشّح المسترسل»، كما تسميّه، الذي لا «لازمة» له (8).
(4)
ليس ببعيدٍ أن الخيّام كان عند علي محمود طه «ملاّحّاً تائهاً» مثله هو، لأنّ لقب «الملاّح التائهة» ذو دلالة مهمّة تتصل بالأعماق الروحيّة والنفسيّة كما ترى نازك الملائكة (9). وأنّه كان واحداً متخيّلاً مقصوداً ممن أهداهم ديوانه هذا حيث يقول:
«إلى الذين أطالوا التأمل في أسرار الكون،
وأزهقهم التيه في مجاهل الحياة…
إلى العائدين بأُنس أحلامهم إلى وحشة مضاجعهم
بين اللّهفة والحنين».
القصيدة تندرج في شعر المهندس «الفكري» كما تسمّيه نازك الملائكة(10)، وإن لم تدرجها هي فيه!، وهي ذات بُعدين: الأول «تأثري» واضح في بداياتها وشفيف لمّاح عامّ من بَعْدُ، والآخِر «معارضي»، بالمفهوم النقدي للمعارضة، لكنه ردّ غير مباشر على الشائع المتداول عن الخيّام توّهماً جرّاء العدد الغفير من الرّباعيّات التي نُسبت إليه ولا يُعْرف -إلى الآن- صحيحها من المنحول، كما في هذه المثناة (رقم 11):
«أيّها الخالد في الدُّنيا غراما
أين نيسابور والرّوض الأنيقْ (11)؟
أين معشوقك إبريقاً وجاما (12)؟
هل حَطَمْتَ الكأس أم جفّ الرّحيق؟».
وفي هذه «المثنّاة» (رقم 36):
«ولقد قالوا: شُذوذ مُغرِبُ
وإباحيّة لاهٍ لا يفيقْ
آهِ لو يدرون ما يضطربُ
بين جنبيك من الحزن العميق».
وهذه «المثنّاة» (رقم 41):
لو أصابوا حكمةً ما اتّهموا
وبكى لاحيكَ والمسْتَهْجِنُ
فهو من دنياهُمُ لو علموا
عَبَثٌ مرٌّ ولَهْوٌ مُحْزِنُ».
والقصيدة، بأَخَرَة، في مجملها، لا تخرج عن مضمون التصدير الآتي الذي كُتب بعد عنوانها في الديوان: «رباعيّات الخيّام آية من مثاليّات الشّعر الخالد المتّسم بالرّقة والعَظَمة، والخيّام من أُولئك الشّعراء الذين حاولوا استكناه أسرار الكون، واستشراف المجهول بالقلب المشبوب، والحسّ المرهف، والرّوح الطّامح المتوثّب، والخيال المرح المنفلف، والعقل الذكيّ المتأَمل، ولكنّ القصور الإنسانيّ ردّه عن بلوغ متمناه، فأشعره بالألم، وأورثه الحسرة، فاندفع إلى نشدان المتعة في الخمر والمرأة ليتسلّى بهما عن عجزه ويأسه.
وقد صدحت هذه الرباعيّات في نفس الشاعر، فكتب قصيدة في الكأس استهلها بوصف الشّرق الجميل المستيقظ على صياح الدّيكة، وتغريد الطّيور، متأثراً بالمعنى الأول من (قصيدة الخيّام)!، مناقشاً في بعض ما عرض له من آرائه».
(5)
إذا ما عرفنا أنّ ديوان «ليالي الملاّح التائه» صدر أوّل مرّة في العام 1940 يضمّ القصائد التي نشرها صاحبه قبل ستِّ سنوات من ذلك التاريخ، إخال أن الشّاعر استرجع في نظم القصيدة ترجمة أحمد رامي (1924)، وتأثّر بها في ما تأثر. يعزّز هذا، في التصدير أعلاه «متأثراً بالمعنى الأول من قصيدة الخيّام». ناهيك بقراءته الخيّام في حدود ما توافر له من مصادر آنذاك كما تشي القصيدة عنها.
فالمثنيّات الأولى والسادسة والسابعة من القصيدة، وهي:
«هاتف الفجر الذي راعَ النّجومْ
وأطار اللّيل عن آفاقها
لم يزلْ يُغْري بنا بنتَ الكرومْ
وُيثير الوجد في عُشّاقها.
***
كلّما لألأ في الشّرْق السَّنا
دقّتِ الباب الأَكُفُّ النّاحلهْ:
أيّها الخمّار، قُمْ وافتحْ لنا
واسْقِنا قبل رحيل القافلة.
***
خمرةُ العُشّاق لا زالتْ ولا
جفّ من ينبوعها نهرُ الحياهْ
نضبتْ في قَدحِ العمر الطِّلا
وهيَ في الأرواح تستهوي الشِّفاهْ».
إنّها صدى شديد للرباعيتين الأولى والخامسة عشر الآتيتين من ترجمة أحمد رامي (13):
«سمعتُ صوتاً هاتفاً في السَّحرْ
نادى من الحان: غُفاة البشرْ
هبُّوا املأوا كاس الطّلا قبل أن
تفعم كاس العمر كفُّ القَدَرْ
***
أَفِقْ خفيفَ الظلّ هذا السَّحرْ
وهاتها صرفاً وناغِ الوتر
فما أطال النّوم عُمْراً ولا
قصّر في الأعمار طول السَّهْر».
(6)
إنّه لمن المفيد أنّ أُؤكد من جديد أن جلّ مترجمي رباعيّات الخيّام العرب والدارسين والشعراء لم يعوا المفهوم الدقيق لمصطلح «الرباعيّة» فارسيّ الأصل. وهو جنس أدبيّ من بيتين اثنين فقط (أربعة شطور) من بحر واحد من غير بحور الشّعر العربيّ الستّة عشر. ينظم –في الأغلب– على ثلاثة قوالب من حيث القافية. فهي إمّا واحدة في الشّطور الأربعة كلّها وهذا هو «الرباعيّ الكامل / التّام»، وإمّا واحدة في الشّطور الأوّل والثّاني والأخير مختلفة في الشّطر الثالث وهذا هو «الرّباعي الأعرج»، وإمّا تكون في الرباعي الكامل مردوفة بكلمة واحدة في الشّطور كلّها، وهو «الرّباعي المردوف».
الأهمّ أنّ الرباعيّة الواحدة لا تعبّر إلاّ عن «فكرة» واحدة، وليس ثمّة قصيدة كاملة من «رباعيّات» كما هي الحال في الشّعر العربيّ أحياناً.
ما دعاني إلى هذا أنّني وقفت على كتاب بعنوان «أروع ما قيل في الرّباعيّات»(14) لإميل ناصيف عدّ فيه عدداً من القصائد رباعيّات وهي ليست كذلك، وأدرج فيها قصيدة «كأس الخيّام» واكتفى بأن قال «إنّه –الشاعر– متأثر برباعيّات الخيّام» في حين أنّها – كما تقدّم – من «المثنيّات». كما سلك قصيدة الشّاعر المهندس «أُغنية الجندول» في «الرباعيّات» كذلك، في حين أنّها كما ذهبت نازك الملائكة من جنس «الموشّح» الوصفي الغنائي، الذي حافظ فيه الشّاعر على قالب الموشّح القديم، وزيّنه بشيء من التجديد والابتكار (15).
لو كان الأمر ببساطة إميل ناصيف هذه لعُدّت قصيدة غزليّة قديمة في مئة وبيتين للشّاعر مدرك بن علي الشّيباني (من القرن الثاني الهجري) من «الرباعيّات»، لأنّها منظومة بقالب «الربّاعي الكامل»، وأوّلها (16):
«من عاشقٍ ناءٍ هواه واني
ناطق دمْعٍ صامت اللّسانِ
معذّبٍ بالصّدّ والهجران
موثّق قلبٍ مطلق الجسمان».
وبعد هذا المقطع:
«رئم بدار الرّوم رام قتلي
بمقلةِ كحلاء لا من كُحْلِ
وطرّة بها استطار عقلي
وحسنِ وجهٍ وقبيح فِعْل».
لو كان الأمر هكذا، لعدّت هذه القصيدة التي نُظم كلّ مقطع من مقاطعها وَفْقاً للرّباعي الكامل من جنس «الرباعيّة»، لكن الذي يمنع -وهو الأهم- أنها قصيدة طويلة كاملة متسلسلة في «رباعيّات». لولا هذا لكانت «الرباعيّة» جنساً شعرياً عربيّاً قديماً تأثّر به الإيرانيون، وجدّدوا فيه وزادوا كصنيعهم في بحور الشعر العربي وقوافيه؛ لكن أنّى يكون التأثر بنموذج واحدٍ -في ما أعلم- قد لا يكونون اهتدوا إليه؟
الهوامش
( 1) رباعيّات الخيّام، ص6. المكتبة الوطنيّة، البحرين؛ ودار الفارابي، بيروت، 1984.
(2) الصحيح: ترجمها. فالتعريب في أصل المصطلح هو نقل الكلمة من أيّ لغة أجنبيّة إلى اللّغة العربيّة على وفْق أًصولها. بيد أنّه أخذ –الآن– منحىً آخر بحيث يقال «تعريب التّعليم الجامعيّ» مثلاً.
(3) ما بين القوسين بعد أسماء المترجمين إضافة مني للتوضيح.
(4) منشورات جامعة قطر، الدوحة، 1988.
(5) ديوان علي محمود طه، ص236. دار العودة، بيروت (د.ت).
(6) راجع، يوسف بكّار: في العروض والقافية، ص177-179. دار الرائد، عمّان؛ ودار المناهل، بيروت. ط3، 2006؛ ومبحث «مثنيّات خالد الفيصل بين المحافظة والتجديد» في كتاب: العين البصيرة: دراسات أدبيّة نقديّة في شعرنا المعاصر. دار البيروني، عمّان، 2015.
(7) محاضرات في شعر علي محمود طه: دراسة ونقد، ص208. معهد الدراسات العربيّة العالية، القاهرة، 1965. وصدر بعنوان جديد «الصومعة والشّرفة الحمراء: دراسة نقديّة في شعر علي محمود طه». دار العلم للملايين، بيروت، 1979.
(8) المرجع نفسه، ص199.
(9) المرجع نفسه، ص83.
(10) المرجع نفسه، ص82.
(11) نيسابور: معرّب «نيشابور»، وهي مسقط رأس الخيّام ومدفنه.
(12) الجام: فارسيّة دخيلة، وهي الكأس.
(13) رباعيّات الخيّام، ص35 و41. مكتبة غريب، القاهرة (د.ت).
(14) دار الجيل، بيروت. ط2، 1995.
(15) محاضرات في شعر علي محمود طه، ص202-204.
(16) ياقوت الرّومي، معجم الأدباء، 135:19-145. طبعة دار المأمون، القاهرة، 1938.
( الرأي الثقافي )