نجيب نصير
( ثقافات )
ربما كانت لفظة (الغرب) حالياً من أكثر المفردات تداولاً في لغتنا العربية كتابة ومشافهةً وتفكيراً، حيث بدت كتعريف جامع مانع لمجموعة من المظاهر و”مفاهيم” التي يتوجب علينا الحذر منها، ومن ثم معاداتها ومن بعد رفضها وربما مقاتلتها،ككتلة واحدة تأبى على التفصيل والشرح، وهنا لا نقارب معنى الهويات بأي شكل،مع أن الموضوح يحشر في هذا السياق، وذلك من ضمن الشعارات العدائية التي تطلق عشوائياً، دون مراعاة لحد بين الإستعمار ومثالبه وبين المعرفة ومقتضياتها، ما جعل من (الغربوفوبيا) ظاهرة متداولة بين العامة والخاصة، تتجلى في الكثير من الممارسات الثقافية عندنا، والتي يتشكل منها السلوك البشري.
يحتاج هذا الموضوع إلى أكثر من وقفة معه، وربما يحتاج إلى الكثير من الإضاءات، التي ترمي إلى فتح هذه البؤرة المستعصية، كجدل مفتوح على أفاق التدبر الإنساني لعيشه في هذه القرية الكونية، وذلك لمعرفة ما هو الغرب، قبل أن نقرر من يكون، خصوصاً أننا أمام تسمية ملتبسة ومتنقلة بين الجغرافيا والتاريخ والثقافة والإيديولوجيا والسياسة والعقائد، فهذه التسمية (الغرب) كان أول من فعلها وعممها، الحراك الثوري البلشفي ومن ثم الإتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الإشتراكية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تسمية أيديولوجية /سياسية /إعلانية، فالغرب بالنسبة إلى السوفييت وفلكهم هو الرأسمالية الظالمة وكذلك الإستعمار بأنواعه، على الرغم من أن هذه الإيديولوجية وسياستها مولودة من رحم الإحتدام الفكري لعصر الأنوار الأوربي بشكل عام، عند هذه النقطة نشترك نحن سكان هذا العالم العربي المترامي بالنظرة نفسها إلى الغرب، مع ميل شديد للتأثيم والتثريب عبر استبدال التاريخي “التراثي”/العقائدي، بالأيديولوجي/السياسي، مع استخدامنا لإدوات ومناهج التفكير الأنوراي نفسها، لتفسير خصوصية ردة الفعل هذه.
كثيرة هي التعاكسات بين الثقافة والسلوك تجاه هذا الغرب الذي تصورناه، في مجمل سلوكنا الثقافي/الحياتي،فهو المصدر الأساسي للمعرفة بالنسبة لنا، وهو كذلك المجال الأكبر لصد هذه المعرفة والإعراض عنها، بناءً على دعوى يمكنها أن تحط من قيمتنا الثقافية والمعرفية، وذلك بجعل الغرب مسؤول لوحده عن انتاج مدنية رائعة وحضارة مؤثمة،في فصل غير معرفي بينهما من جهة، وتجاهل وحتى إنكار قسطنا بالمشاركة في إرتقاء الثقافة الإنسانية من جهة ثانية، وهنا النقطة التي أردت الإشارة اليها من بين الكثير من النقاط والمواضيع والمسائل.
فالثقافة الإنسانية هي جهد متراكم ومفتوح الأفق والحدود بين أقوام الأرض، فما أن تخبو حضارة أو مدنية في أحد بقاع الأرض، حتى تحمل الراية بقعة أخرى تتابع الدرب حسب إمكانياتها وحيوياتها، بما يعني أن الجميع مشتركون في الإرتقاء،ومسلمين بنتائجه التي شارك بعضهم (وشاركنا نحن)، في فترات زمنية مختلفة أو في بقاع مختلفة، في وضع المنتجات الثقافية كأسس إرتقائية يتابع منها البعض الآخر، حيث لا يمكن لهذه المسيرة أن تتوقف،فالناس الذين تلقوا أشعة المعرفة النفاذة، لا يبقون كما هم بل يتحولون الى ناس مختلفين ـ( مؤقتا )ـلا يمكن الحفاظ عليهم وعلى صفاتهم كما كانوا قبل المعرفة،وإلا ستهرسهم سنابك المعرفة القادمة لا محالة، وهنا لا بد من الإشارة إلى معارف عصر النهضة (الأنوار “الغربي” ما هو إلا حصيلة ما سبقها من معارف بشرية، وهي تشارك الآن في الوصول إلى معارف جديدة، وعلى هذا لا يمكننا القول بالثقافة الغربية بمعزل عن الجهد الإبداعي للبشر، أينما كانوا وفي أي زمان.
عند هذا المفترق تكمن الإهانة، في محاولة مصادرة دورنا وإلغائه في صناعة الثقافة البشرية،أو في الوصول إلى ثقافة عصر الأنوار، وتبلغ الإهانة أشدها عندما نحاول نحن التنكر لهذا الدور، للتملص من مسؤولية نتائجه، والهروب من استحقاقات الفعل الواجب للإرتقاء، طالما كان الأنموذج والمثال، هو السعي نحو استحواذ القوة الحضارية الكافية للوجود والإستمرار.
من المجدي التوقف عند أبن رشد وأبي العلاء المعري والخوارزمي وابن خلدون وبن عربي وغيرهم، كإطلالة على التأثير الثقافي المفتوح والمتبادل، والحديث نسبياًكأحد الشرارات المشاركة في إشعال عصر الأنوار “الغربي”، وربما علينا الذهاب إلى أبعد من ذلك في التاريخ،إلى جلغامش ولوقيانوس السميساطي وزينون الرواقي وفيليب الحوراني وجوليا دمنة وزنوبيا وهنيبعل، وربما إلى الحضارة السومرية والآشورية وإلى أبجدية أوغاريت الأولى، وحتى أوروبا هي امرأة سورية أطلق أسمها على بقاع “الغرب”،ولكن التأثير لا يحسب بهذه الطريقة التفاخرية العقيمة، بل بحصاد ما زرعناه والقبول به، والعمل بمقتضاه عبر التفاعل معه في محاولة للإرتقاء به،من أجل العودة إلى التأثير والمشاركة وعندها يتحقق الفخر.
الثقافة والمعرفة هي ملك سكان الكرة الأرضية أجمعين،لا نستطيع الإنسحاب منها أو النكوص عنها، والذي يحتمل جرعاتها القوية كاستحاق للإرتقاء، هو من يستطيع مقاومة الفناء، ورفض وعداء أية ثقافة أو معرفة هو هروب من مسؤولية المشاركة السابقة في ظهورها، هو تنكر للمعرفة وانغلاق في غيتو الإكتمال المعرفي، فالدنيا لا تعرف ولا تعترف أن للعلم اكتمال.
ترى هل نميل للإعتقاد بهشاشة مكانتنا المعرفية؟كي نستنفر كل هذا الإستنفار ونستشرس كل هذا الإستشراس للدفاع عنها؟
* كاتب من سوريا