إشكاليّات الشعر الملتزم


*سيف الدّين بنزيد

سعى سارتر إلى إخراج الشعر من نطاق الالتزام ومن «مجال القدرة على حمل دلالة مُعيّنة». ومن بين النقاد العرب الذين ناقشوا هذا الرّأيَ الكاتبُ المصريّ صلاح عبد الصّبور. يقول في مقال عنوانه «سارتر والشعر»:»إنّ سارتر قليلُ الكتابة عن الشعر حتّى قد يتّهمُهُ البعض بأنّه لا يُحبّه، فلن تجد له حديثا عن الشعر إلاّ في الفصول الأولى من الجزء الأوّل من كتابه الكبير «مواقف» ثمّ دراسة موجزة للشاعر الفرنسيّ العظيم شارل بودلير».

ولئن نعتَ سارتر بـ»الحُمق» كلّ مَن خوّلت له نفسُهُ اعتبارَ الشعر مُلتزمًا، ولئن شاطره بعضُ الباحثين العرب المَرموقين على غرار محمّد مندور بعلّة أنّ الشّعر عملٌ ذاتيّ أكثرَ من كونه كشفا لموقف معيّن وأنّ الشاعر يهتمّ بالجمال ولا يُبالي بالدلالة ولا يستعمل اللغة إلا جسرا لعالم من الخيال، فنحن نذهبُ عكس هؤلاء ولا نقبل المذهبَ السارتريّ الذي ينبع من مذهب «المدرسة البارناسيّة الفرنسيّة». ونرى أنّ الشعر في المُطلق يحمل في طيّاته موقفا من الحياة ومن العصر، إمّا تفاعلا وإمّا هُروبا، وليس بالضرورة أن يكونَ الموقفُ سياسيّا أو اجتماعيّا أو دينيّا. فشاعر الحبّ يعالج قضيّة من أسمى القضايا ويدافع بذلك عن معتقد. والقصائدُ التي يُدرجها البعض في خانة «الفنّ للفنّ» تُعبّر بدورها عن أفكار ومبادئ لأنّ «الإيجابيّة موقف وكذلك السلبيّة. فالصّمت موقف من الحدث أو الفكر المطروح (…) وكلّ فنّان يصدر عن انتماءاته الطبقيّة ومصادره البيئيّة ومنابعه الثقافيّة». ولا يَهُمّنا إن كان رأي المفكّر الفرنسيّ ناتجا عن عدم رغبته في اقتران المفهوم الذي ابتدعه بالقصائد – التي لم يتميّز في كتابتها – أو غير ذلك من الدوافع… ما يَهمّنا هو أنّ الشاعر الملتزمَ لا يكتبُ لنفسه بل يكتب من أجل المجتمع بدافعين اثنين ذاتيّ وخارجيّ. فهو يتحسّس مشاكل البشر ويتأثرّ بها ثمّ يصوغها على حقيقتها حتّى يجدوا لسان حالهم المقهور في نُصوصه.
وقد خلقَ الشعرُ الملتزمُ مجالا خصبا للجدل من خلال طرحه لقضايا مازالت تشغل هاجس النقّاد إلى يوم الناس هذا. ومن بين هذه القضايا قضيّة «الشكل والمضمون» إذ أنّ إخضاعَ الشعر لموقف إيديولوجيّ معيّن هو في كلّ الأحوال «إخضاعُ المُطلق للمحدود أو إخضاع الحُريّة للقيود». ونظرا إلى هذا الإخضاع، يرى البعض أنّ الشاعر يصيرُ مُجبَرا على التّضحية «بالفنّ من أجل الفكرة». وقد تساءل عزّ الدين إسماعيل عن إمكانيّة التواشج بين الموقف والفنّ في الآن نفسه. وأقرّ بأنّ الانتصار لجانب منهما على الآخر لا يخدم أيّ طرف منهما حجّته في ذلك أنّ «الموقف الإيديولوجيّ وحده لا يصنعُ العمل الفنّيّ وكذلك يفقد العمل الفنيّ وزنه حينما يخلو من موقف». فالقصيدة التي تُعنى بالإيديولوجيا على حساب الجماليّة تسقط في مباشريّة الخطاب والقصيدة التي تخلو من موقف تسقط في زخرفيّة الكلام وتكون خطابا أجوفَ. وبذلك نعتبر أنّ الموقف الإيديولوجيّ غير منفصل عن الجانب الفنيّ ونعتبر أنّ كلّ نصّ خال من مقوّمات الجمال لا يندرج ضمن الأدب ونذهبُ إلى أنّ الشاعر الملتزمَ مُختلف عن سائر المفكّرين، لأنّه لا يكتبُ بعقله فقط وإنّما يوظّف مشاعره وحسّه الفنّي في ما يكتبُ، وهكذا يلتقي الالتزامُ بالجنون وتتحدُ الكتابة بالإبداع. ولا نغالي إن قلنا بأنّ «القصيدة الحقيقيّة» مُلتزمة دائما، لأنّها تُعبّر بالضرورة عن مشاكل الإنسان. و»كلّ تجربة لا يتوسّطها الإنسان هي تجربة سخيفة مصطنعة «، على حدّ تعبير يوسف الخال. 
ومن الإشكاليّات التي يُثيرها الشعر الملتزم «جدليّة التفاعل مع الحاضر واستشراف المُستقبل». فالشاعرُ الذي يتأثّر فوريّا بالأحداثِ الراهنة ويستعجل التعبير عنها يجعل نصّه «مُناسباتيّا» لا أمل له في الخلود، ممّا يُميل الكفّة لصالح الإيديولوجيّ على حساب الفنّ، في حين أنّ الشاعرَ صاحبَ الرّؤية يتأنّى في الكتابة ويعتني بجماليّة النصّ ليضمن له حياة أطول خارج ظرفه الآنيّ. وهنا تُطرح العلاقة بالجمهور. أمّا الشاعر الأوّل فيتوجّه إلى المتلقّي «بوصفه فردا من أفراد العالم» وهو ما أقرّه سارتر بقوله إنّ «دور الكاتب هو تقديم صورة المجتمع للمجتمع»، وأمّا الشاعر الثاني – وإن كان محتكّا كذلك بمشاكل عصره- فيتوجّه إلى جمهور مُستقبليّ أي إلى «الإنسان المُجرّد في جميع العصور»، ويطمح بالتالي إلى خلود كتاباته. 
ولا يُمكن أن نُغفل في إطار حديثنا عن الشعر الملتزم «جدليّة المجازفة والحذر». ويمكن أن نلمس هذه الجدليّة في نمطين من التّعبير، الأوّل هو «التّصريح»، أي التعبير المباشر والواضح، وهو من مميّزات الخطاب الإيديولوجيّ. والثاني هو «التلميح»، أي استعمال التوظيف الرّمزيّ والإيحاء اللفظيّ وهو من خصائص الخطاب الشعريّ.
في حالة التّصريح يمكن أن يدخل الشاعر في مواجهة بطش السّلطة وظلمها إذا كان معارضا، وهنا نلمح مفهوم «المجازفة» الذي يقتضي من الشاعر تحمّل مسؤولية اختياره، كما يمكن أن ينزلق النصّ إلى مجال الدعاية إذا كان الكاتب مؤيّدا للطبقة الحاكمة. وفي حالة التلميح يُمكن أن يكون هذا النمط «تقيّة» يختفي وراءها الشاعر تهرّبا من التتبّعات والمُحاسبة وهنا نلمح مفهوم «الحذر»، كما يمكن أن يكون «رهانا فنيّا» يخدم أهداف النصّ. 
ومن خلال علاقة «التأثّر والتّأثير» تنبع قضيّة «الذاتيّة والموضوعيّة». فالمطلوبُ من الشعر الملتزم أن يكون عملا شخصيّا فنّيا وحاملا لمواقف في الآن نفسه! ويَعتبر عبد الصبور في كتابه «حياتي في الشعر» أنّ «استعمال المُصطلحيْن في عالم الفنّ تخريبٌ وسوء فهم»، فكلّ فنّ – بما في ذلك الشعرُ- هو ذاتيّ وموضوعيّ في الوقت نفسِهِ. والشعر الملتزم تحديدا هو الكلام الفنيّ القادر على التعبير عن المجتمع والتّأثير في المتلقّي انطلاقا من قادحيْن ذاتيّ وخارجيّ. 
ولا تكمن قيمة القصيدة المُلتزمة في عدد الجوائز التي تحصدها، بل تكمن في ما تناله من قبول لدى القرّاء وما تخلّفه من انطباع لديهم. فإذا كانت صادقة معهم تمّ قبولها، وإذا كانت مُراوغة تمّ رفضها، لكن ينبغي أن نُشير إلى أنّ الدور الفعّال لرسالة الشاعر يتوقّف على المُستوى الثقافيّ للقرّاء ومستوى التزامهم، فلا فاعليّة للشعر الملتزم في ظلّ غياب العقول الملتزمة. ولهذا السبب دعا الكاتب الألمانيّ برتولت بريشت (1898/1956) إلى تثقيف الجمهور. وفي حالة كان الجمهور منتميا إلى تيّار فكريّ أو سياسيّ معيّن يُصبحُ أمرُ تقبّل القصيدة قائما على الموقف الذي تتبنّاه لا على مُستواها الفنيّ ويصير الشاعر المُلتزم في مأزق بين إرضاء توجّهاته وإرضاء جمهوره أي بين حرّيته في التعبير ومسؤوليته إزاء مريديه…
أكاديميّ تونسيّ/ القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *