*سعيدة تاقي
( ثقافات )
النقد ليس فعْلَ كتابةٍ تسعى في أصل منجَزِها إلى التحرُّر من كل قيدٍ سابق في الوجود على لحظة التخلُّـق الكتابي. و لأجل ذلك يفتقر الكاتب إلى المعرفة بالأدوات النقدية، كي يتحول إلى ناقد، يتجاوز التأثر الانطـباعي إلى إنـتاج اللغة النقـدية الـرزينة. لكن في المقابـل، لا ينحصر النقـد في امتلاك العدة النقدية أو في التمرُّس على الأدوات المنهجية، فقد تسعف الجامعة في معرفة النظريات و في اكتشاف مدارس النقد و في اختبار أدواته و في تكوين فـيالـق الخُبراء، غير أنها لا تُنتِج بالضرورة النُّـقاد المتمرِّسين.
و لكي لا يتحولَ النقد إلى تمارين مدرسية أو تطبــيقات آلـية، يتم إسقاطها على النص دون الـوعي بفَـرادته أو بتمـيُّـزه و دون الوعي بالخلفيات الفكرية و المنظومات المعرفية التي تخفيها تلك الأدوات النقدية، يُفترض في القراءة النقدية المتأنية المتبصِّرة، أن تمتلك رؤيةً موسَّعة و نافذةً للعالَم إلى جانب معرفة الأدوات. و لعل النظر المتفحِّص و التحليل المتمعِّن لمسيرة النقد الأدبي التي تأسَّست على متن النظريات النقدية الكبرى، يكشفان بجلاء أنّ كل مدرسة نقدية كانت إجابة آنـية عن اشـتراطات لحظة فكرية استدعتْها في زمان بروزها و مكانه. إن للمدارس النقدية التي أنتجها «الآخر» خلـفياتٌ تاريـخية و محدّدات اجتـماعية و تصورات فكرية، إلى جانب منظوماتها المعرفية المتحكّمة في تشكيل أولــويات أدواتها النــقدية. فالبنيــوية مثلاً، نصَّبَتِ للنص من داخل اللغة بنى و دلالاتٍ، في استجابة للإشــكال الفكري الذي أثارته المــاركسية؛ فألغت بنــيوية براغ والبنيوية الفرنسية وصاية المؤلف، وجــعلت بلوغ المــعنى مشروطاً بفك سنن النص. و نظريات جماليات التلقي في نسخها الألمانية، التي ظهرت في سياق إعادة بناء التعليم العالي في ألمانيا الغربية في منتصف الستـينات، انتفضت على المناهــج التقـليدية المحافظة التي تركز على عملية إنـتاج النصوص، و رأت في المعنى احتمالا كامناً في النص، يفتقد إلى تـفـاعـل وعـي الـقـارئ كي يمنـحه وجـودَه. و ما بعد البـنيـوية بما فيها تفـكيــكية جــاك دريـدا و غيره، و مباحث ميشيل فــوكو و جاك لاكــان و لوي ألتـوسير و جيــل دولـوز و جولـيا كريسـتيفا و جان فرانسوا ليوتار و غيرهم، هي بنيوية نقدية وقفت عند قصور البـنيـوية في قراءة النــص الأدبـي، و عند تحدي التصور المثالي لكل المركـزيات بما فيها مركـزية الـذات أو اللغـة أو العلامة…
لكن فعل الاقتباس عن تلك المناهج النقدية أو الترجمة عنها أو محاولات تبيئـتها، لم تتم وفق الاشتراطات التاريخية و الاجتماعية و المعرفية و الفــكرية التي ولَّدت تلك المناهج، و إنما لحاجة النقل و التفاعل مع ما توصّل إليه «الآخر». لذلك فُصلت المدارس عن السياقات التي أنتجتها، و أفرغت المفاهيم و المصطلحات من حمولاتها. و غدت المناهج أدوات تطبيق إجرائي، يشوبه التردد و الارتياب والخلط. و لأجل ذلك يعاب أحيانا على النقد الذي ينتجه «نقّادنا» إثر ذلك الاقتباس عن «الآخر»، اتصافَ مقالاته بالجمود. و سبب الجمود، فيما يبدو، هو الانشغال بالتطبــيق التقني الآلي لـ«الأدوات النقدية»؛ حيث تتــحول في الغــالب تلك الأدوات أثــناء تلك التطــبــيقات من مــفاهــيــم و تصورات كبرى تحتمل ما تحتمل، إلى خطوات لا يساعد تتـبّعها الحَرفي على فهم «الفهم الإبداعي» الذي يقترحه النص الأدبي المقروء. و الأمر لا يقف عند حدّ مدى ملاءمة تلك «الأدوات النقدية» المُفرَغة من تصوراتها الكبرى للنص الإبداعي المميَّز، بل يتجاوز إمكان الملاءمة إلى جعل النص حُجَّة إبداعية لإقرار منهجي مغلوط يدَّعي، بإفراط مصطلحي و استطراد مفاهيمي، اكتمالَ الكفاية المنهجية لتلك الأدوات، و صواب كل إنجاز نقدي يُـنتَجُ اهتداءً بتطبيقها.
إن النص الإبداعي، في أصل منشئه المبتـدَع، كينونةٌ ثقافية مكتملة لها هويتها الفريدة التي تستـقيها من وحدة الجنس الذي تنضوي ضمنه، و من تعدد احتمالات التخلُّق الإبداعي و لا نهائية إمكانات التحقِّيق الإنساني. فالنص لا يكتب عن الواقـع الموجود قبل فعل الكتابة، و ليس مطالَـباً بأن يحاكي ذلك الواقع. إنه يكـتب واقعـه أثناء الكـتابة و يشـيِّد عالماً، لم يكن له وجود قبل لحظة الكتابة المـبـدِعة. و قد يكون هذا العـالم التخـييلي أكثرَ واقعـية و تشخيصاً لمرجعيات الحياة، من ذلك الواقع الحقيقي العياني، لأن الإبداع يشيِّد تمثُّلاته عن العالَم مثلما يبني تمْـثيلاته له.
في ضوء ذلك يمكن القول إن النص الإبداعي كلٌّ تتعاضد مكوناته لتشييد هويته، لذلك لا تمييز يفصلُ الكتلة عن العناصر و لا تمييز يفصِل المادة عن الكثافة. لكن النقد حين لا يحرص على النفاذ إلى روح النص، و لا ينشغل ببصمة النص الإبداعية الفريدة، التي لا تتكرّر، لا يمكنه أن يقدم غير ناقد متمكِّن، يطبِّق ما يعرفه من أدوات منقولة عن سياقات و اشتراطات مغايرة معرفياً و فكرياً و وجودياً، باحتراف أكاديمي، لكنه لا يمتلك الرؤية التي من شأنها أن تنصفَ النص الإبداعي و هي تنصتُ بإمعان للعالَم الذي يشيِّده، بدل الانقياد لوهم المنهج المتَّبَع بحرفيَّة التقليد..
إن الإبـداع عـمـوماً و المـنـجَـز الأدبي حـالـيـاً يـتـجـاوزان بكثير درس النـقـد الأدبي في أوطـانـنـا، و يرغــمانه على اختيار من ثلاثــة اختيارات. فعلى النــقد الأدبــي أن يعيد النــظر في ماهــيته و جــدواه و تاريخه، ليجدد ذاته بما يلائم اللحظة الإبـداعية الراهنة، و سياقي الإنتاج و التــلقي المحكومين بالاكتساح الـرقمي و بتـلاشي الحــدود بين الأجــناس و بتداخل النصوص و بانفتاح الخطابات و بترابط الأنساق، أو سيـجد النقدُ ـ لاحقاً ـ أن الفـاصل بين ثـباتـه و تغـيـرات الإبداع قد اتسّع و وضعه في «متحــف» مدرَّجــات الجامعة و فصولها التطبيقية. الاختيار الثالث هو أن يستوعب ما توصل إليه درسُ النقد العالَمي، الذي أعلن منذ بدايات التسعـينات عن موت النـظرية، أو ذوبان المعـالم الفاصلة بين حدودها المعرفية، في ظـل الانزياح عن المحـدِّدات المنهجـية الضيقـة، و الانفـتاح على المرجعيات الثقافية المحلية و القطرية و العالَمية، و على مباحث الدراسات الإنسانية عموماً، التي تُجاوِزُ حدود «الأدب المعتَمَد» إلى مفهوم «النص في العالَم».
____
*كاتبة و ناقدة من المغرب