*د. شهلا العجيلي
كان العرب، كعادتهم، مشغولين بالثورات، والزعامات، والانتصارات الوهميّة، وكان الإعلام العربيّ مشغولاً معهم بمنافراتهم السياسيّة والحزبيّة، حينما وصل تيودور هرتزل إلى القاهرة يوم 23 آذار 1903، ومعه كل ما هو لازم لمشروعه التاريخيّ، لتوطين اليهود في شبه جزيرة سيناء، بوصفها الجسر الواصل إلى فلسطين، وجرّ مياه النيل إليهم، لتكون سبب الحياة في موطنهم الجديد.
عمل هرتزل طويلاً على مشروعه التاريخيّ هذا، فقد حصل على التمويل اللاّزم، بعد أن أقنع الأطراف كلّها البريطانيّة، واليهوديّة، والألمانيّة، والفرنسيّة، والعثمانيّة، بضرورة إقامة مستعمرة يهوديّة في شبه جزيرة سيناء، إحدى الممتلكات البريطانيّة، وتهجير اليهود إليها. درَس خرائط البلاد، واستعان برجال الدين، وبالصحفيين، وبالكتّاب والباحثين، مثلما استعان بالسياسيّين والعسكريّين وأصحاب رؤوس الأموال. وقد اعتمد في معارفه حول المنطقة على رحلات المستشرقين، ومدوّناتهم، وحتّى على قصائد الشعراء.
تكمن خطورة مشروع هرتزل على الرغم من عدم تحقّقه الفعليّ، في أنّه شكّل نواة للمشاريع المائيّة، ومن ثمّ الحيويّة كلّها التي لها علاقة بأطماع “إسرائيل” في الماء العربيّ، والتي كانت العامل الأساس لبناء كيانهم الاستيطانيّ على أرض فلسطين العربيّة، إذ انبثق عنه مثلاً، مشروع جونستون المائي الذي يؤكّد على إحياء الحضارة الزراعيّة لـ”إسرائيل”.
تمّ بعث فكرة هرتزل من جديد في عهد السادات 1974، والذي اتخذ لها أكثر من تسويغ أيديولوجيّ، فقد وعد بتحويل مياه النيل إلى صحراء النقب عبر سيناء، عبر ترويج إشاعات تقول إنّ مياه النيل تفيض عن حاجة مصر، وإنّنا “نقذف إلى البحر المتوسّط بأكثر من 6 مليارات متر مكعّب من المياه العذبة”. ويبتدع السادات تسويغاً آخر، لكنّه دينيّ هذه المرّة، إذ يتعلّل بسقاية الحجيج إلى القدس، ثمّ يأتي إلى التسويغ السياسيّ فيقول: “ونحن نقوم بالتسوية الشاملة للقضيّة الفلسطينيّة، سنجعل هذه المياه مساهمة من المسلمين تخليداً لمبادرة السلام”.
كان عبد الناصر قد أقام علاقات دبلوماسيّة وثيقة مع الدول الإفريقيّة، ضمن عبرها حقّ مصر في النيل مع دول المنبع، إلاّ أنّ الدبلوماسيّة المصريّة بهتت شيئاً فشيئاً في هذا الإطار، وتمكّنت “إسرائيل” من الدخول على الخط، وإنشاء علاقات وثيقة مع تلك الدول، فآل حال النيل إلى تهديد مصر بالعطش، وبالفعل وقّع ليبرمان عام 2009 مع الرئيس الكيني اتفاقية لإدارة مصادر المياه والري والبناء، تعهدت “إسرائيل” بموجبها بمواصلة دعمها لكينيا في مختلف مجالات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتوفير التدريب اللازم للكينيين في المجالات المختلفة وخاصة الزراعية والأمن وتكنولوجيا المياه، مقابل حصولها علي حصة من مياه النيل. وسوف يسبّب انفصال جنوب السودان حال حدوثه – وهذا ما حدث فعلاً- في مشاكل خطيرة لدولتي المصبّ مصر وشمال السودان، ذلك أنّ الدولة الوليدة سوف تطالب بحصّتها من مياه النيل.
“مثلما يبيع العرب البترول يجب على تركيا أن تبيع المياه!”، هذا ما قاله الرئيس التركيّ الراحل (توركوت أوزال) عن مشروع عام 1991، الذي قام عقب التحالف العسكري التركي الإسرائيلي، إذ تمّ الاتفاق على نقل المياه من تركيا إلى “إسرائيل” عبر أنبوب طويل يسير في البحر المتوسط إلى الشواطئ الفلسطينيّة التي احتلتها “إسرائيل”، وهذا يحقق لتركيا موارد مالية من بيع المياه، ويحقق لـ”إسرائيل” تلبية حاجاتها من المياه بثمن بسيط، على حساب كل من سورية والعراق. ويتلخص هذا المشروع في إقامة محطة بمنطقة شلالات (مناوجات) على ساحل البحر الأبيض لجمع المياه بكمية 50 مليون طن سنوياً، وهي تمثل نسبة 3.8% من حاجة تل أبيب السنويّة، قبل انحدارها نحو البحر، ثم تخزينها وضخها في أنابيب برية عبر الأراضي السورية، ثم دخول الأنبوب، الذي يُسمّى بأنبوب السلام، إلى شمال لبنان أو شمال شرق الأردن وبعدها الأراضي الفلسطينية، أو نقلها بالناقلات البحرية للساحل الإسرائيلي في حال رفض سورية التوقيع على معاهدة سلام. وتشير الصحف التركية إلى أنّ مدة الاتفاقيّة 20 سنة، وأنّ المحطة التركية قد انتهى بناؤها في (مناوجات) بتكلفة 160 مليون دولار وبقي تنفيذ المشروع.
لن تبالي تركيّا بعلاقتها مع العرب، مقابل دخولها الاتحاد الأوربيّ، وهي إذا ما ضمنت علاقات طيّبة مع نظام حليف تحاول خلقه في سورية، فإنّها ستكسب الكثير من خلال مدّ أنبوب السلام المائيّ عبر سورية، بدلاً من أن تمدّه عبر العراق ثم الأردن ثم فلسطين، بذلك تكون تركيّا قد حقّقت مآربها، وكذلك “إسرائيل”، ويكون العرب قد خسروا كلّ شيء، ولن يبقى لهم من الماء سوى ذاكرته المفقودة، مع بعض البكائيّات.
______
*عمّان.نت