. نـجاة إدهان
( ثقافات )
أن تحضر عرضا مسرحيّا يجعلك تحبّ الأدب وتحيّي ذكاء المخرج في ذات الوقت أمر لا يتكرّر كثيرا.. امتلاء غريب يسكن المتفرّج وهو يتابع مسرحيّة “كعب لغزال” لمركز الفنون الدراميّة بـمدنين/تونس ولـمخرجها علي اليحياوي.
عرض يطرح إمكان قراءات شتّى منها الإنسانيّة التي تقف عند الشرّ المنتصر والفنيّة التي تبحث في تجليّات المسرحيّ والنقديّة التي ستصل العمل بالنصّ الأدبيّ الأصل والتّأويليّة التي ستبحث في علاقة العمل بالواقع المعيش.. وفي تعدّد القراءات إقرار أوّل بنجاحه..
المسرحيّة عمل فرجويّ بكلّ مقوّمات الفرجة حركة وصوتا وخطابا وإضاءة وركحا جامعا. انطلق فيها المخرج علي اليحياوي من رواية “نزيف الحجر” للمبدع الليبيّ “ابراهيم الكوني” ليصوّر فكرة وجود إنسانيّ تتجاوز حدّيْ الزّمان والمكان فتستعيد لحظة الصّراع الأوّل بين قابيل وهابيل بوجوه شتّى في صحراء تذكّر ببداية الكون. ليس يسيرا على قارئ الرّواية أن يرقى بقراءته إلى مرتبة الفرجة فللأدب قوانين لا تفي المسرح شروطه وهو ما يدفعك وأنت تحضر العرض إلى طرح أسئلة شتّى لك أن تلخّصها في: أيّ علاقة للمسرح بالأدب إذا كان الرّكح يسكن روح المخرج لا الجنس الأدبيّ؟ ألا يكفي أن يكون المخرج قارئا استثنائيّا ليلبس النصُّ الأدبيّ حلّةَ الفرجة بكلّ بهاء؟ هل ينتهي التّصنيف الأجناسيّ عند النصّ المقروء؟.. أسئلة عديدة تدفع إلى البحث في مسلّمات يهزّها مثل هذا العرض فندرك بأنّ المبدع الحقيقيّ هو الذي يجعل المتلقّي يفكّر ويعيد النّظر في مقولات صارت قناعات ممجوجة ومن ثمّة يسلّم بأنّ الإبداع يسكن الاستثناء لا الوفاء لقوانين تقتل العمل وتضيّق أفق المبدع والمتلقّي معا..
تتقاطع في المسرحيّة أشكال تعبير شتّى هي بين الخطاب والموسيقى والكوريغرافيا لتحوّل السّرد والوصف والحوار إلى لوحات تجعلك تؤمن بأنّ الفكرة أكبر من الكلام فحين يراقص “أسوف” شخصيّة النصّ الرئيسيّة الغزلانَ مثلا يدور المكان انتشاء وتسكن شفتيك ابتسامة تحتفي بالفرح في عيني أسوف وبالحياة في عيون الغزلان.. مشهد لخّص حقيقة الوجود على الأرض وأنّ أصل الخلق واحد: روح إلاهيّة تسكن كلّ الكائنات.. فكرة جوهر سكنت الحركة فتراجعت اللغة بكلّ بلاغتها وحروفها واستعاد الجسد حقيقة كونه أكبر من الدود ومن لحم يُستهلك لينخر الموتُ الأرضَ ومن عليها.. فاتن أن تسلّم بيقين أنّ للجسد لغة يحترفها من يدرك جوهر الحركة وبأنّ في جسدك سرّا يشبه ما يدور على الرّكح ولك أن تكتشفه..
عرض يحتفي بالإنسان في صورته الأولى فيجعلك تعشق الحياة دون أن تلعن الموت لأنّ الفناء وهْم آخر أسكنه الإنسانُ روحَه فآمن بكلّ سوءات البشر واستعدّ لصراع لا ينتهي وهو ما يبرّر تنوّع الشخصيّات والخطاب.
ينتهي العرض بذبح أسوف على يد قابيل – وبينهما لوحات تعرّي ما يسكن الإنسان وتتتالى في تناغم يخلق وحدة عجيبة – لكنّ تحوّله إلى ودّان يستعيد جوهر الكون ويجعلك تهرب إليك نقيّا من كلّ الوهم البشريّ الكاذب بالتفوّق وإدراك سرّ الحياة ووجوه متعتها وبأنّ القتل خلاص “يطهّر” الأرض ممّن يشبهون السّماء.. للخلود معنى واحد يكسر قيدا منقوصا ضيّقا، هو الرّوح تسمو فتبدع فرجة تطاول الخلق وترفعك معها لتعشق إنسانيّتك بإبداعها وقدرتها على الفعل وحتّى مثاليّتها السّاذجة.. إنّها روح الله حين تسكن جسدا فتضيء أناملُه ويسلك سبيلا أكبر من الكلام..
* كاتبة من تونس