ساسي جبيل*
( ثقافات )
لم يشذ مهرجان أبوظبي الذي تنظمه مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون عن القاعدة التي اعتمدها منذ دورته الأولى، وذلك بجعل هذه الفعالية الثقافية الفنية محطة متنوعة تتشاكل فيها مختلف الفنون، وتتمازج، لتتنوع وترسم لوحات متعددة تجمع مختلف المدارس والأصوات، مؤكدة أن إمارة أبوظبي تظل على الدوام حاضنة إبداع وثقافة وملتقى عالميا للمثقفين والمبدعين من مختلف الأنحاء.
معرض الفن المعاصر «نظرة من الداخل» الذي احتضنه قصر الإمارات في الفترة بين العشرين من مارس إلى العشرين من أبريل الجاري، شكل هذا العام مزيجا من الألوان والأعمال الفنية، التي أتت من جغرافيات متنوعة لترسم صورا مختلفة اقتنصها فنانون من كل البلدان، فهذا المعرض الذي يمثل في حد ذاته حوارا ثقافيا بين مدارس مختلفة وأسماء من بلدان متعددة عبرت بجلاء عن كوامنها في لوحات لا تتشابه بالمرة، ولكنها في نهاية المطاف تشكل معرضا ضخما تحت إشراف ويندي واتريس المنظمة والقيمة الفنية في (فوتوفوست إنترناشيونال)، والقيمة المختصة بالفن العربي المعاصر كارين أدريان فون روكس. وكان المعرض قد أقيم في بينالي فوتو فوست الدولي في هيوستن تكساس في الولايات المتحدة الأميركية العام الفائت.
شارك في المعرض الفنانون: ابتسام عبدالعزيز، عمار البيك، منال الدويان، ريم الفيصل، صادق الفراجي، طارق الغصين، بشرى المتوكل، جوهرة السعود، سما الشيبي، كريمة الشوملي، الشيخ خالد بن حمد بن أحمد آل ثاني، سامي التركي، شادية عالم، تمام عزام، هشام بينوهود، أيمن يسري ديدبان، للا السيدي، منير فاطمي، لمياء قرقاش، عبدالناصر غارم، خالد حافظ، حسن حجاج، رولا حلواني، حازم حرب، حازم طه حسين، أحمد جاد الله، محمد عبداللطيف كانو، محمد كاظم، هدى لطفي، أحمد ماطر، حسن مير، سامر معضاد، يوسف نبيل ستيف سابيلا، فيصل سمرا، خليل عبدالواحد وكميل زكريا.
قلق مشروع
تكشف الأعمال الفنية لهؤلاء الفنانين عن صلابة قوية بين التجربة المعاصرة وتاريخ الثقافات التي ينتمون اليها، سواء من خلال علاقة هؤلاء الفنانين بالمجتمعات العربية اليوم (نظرا لأن أغلبهم من المقيمين خارج بلدانهم) أو من خلال تأثرهم بالأحداث التي تحصل في بلدانهم الأصلية خاصة، والوطن العربي عامة، في ظل هذه المتغيرات والتجاذبات التي نعيشها اليوم في منطقة عربية تغزوها ظواهر غريبة وصلت حد البشاعة أحيانا، ويتجلى ذلك من خلال القلق العميق على المستقبل على المستويات كافة، وهو قلق مشروع جدا باعتبار أن ما يحصل اليوم يمثل أمراً غريباً للكثيرين.
كما تتجلى في هذه الأعمال روح الطرافة والسخرية التي تلقي بظلالها على العديد من الأعمال سواء تلك المرسومة أو المصورة أو عبر الفيديو والوسائط المتعددة التي تم إعتمادها في المعرض، وهم في كل ذلك يحاولون طرح بدائل حينا، ويرومون التغيير نحو الأفضل حيناً آخر، ويسعون إلى إبراز هويتهم وطاقاتهم وتحولات بيئاتهم الاجتماعية والمادية من خلال أصواتهم الداخلية التي يتجلى فيها كثير من الغموض والأسئلة المحرقة التي تزعج كينونتهم.
والحقيقة أن معرض «نظرة من الداخل» يمثل تأكيدا صارخا على أن العالم العربي ليس معزولا عن محيطه في هذا العالم، وأن روح الفنانين تشكل حاضنة لمعانٍ لا تنضب تسترد فيها الصيرورة ألقها الطفولي الأول حيث النشأة الأولى التي لا يمكننا أن نتنكر لها بالمرة، فالعالم العربي الذي كان لقرون عدة مثار اهتمام، ومركزا لم يتأثر بالانحسار الحاصل له خصوصا بعد سقوط آخر قلعة من قلاع المسلمين في الأندلس إثر قرون من الحكم والتأثير فيها، لذلك بقي الفنان العربي يحمل بين جنباته روحه الخاصة، ولم تأخذه المدارس الغربية بعيدا، كما ظل دائما يذود عن المقومات التي تربى بها، ويحاول تصوير القيم والمفاهيم التي نشأ عليها، والتي تشكل هويته وجذوره الأساسية التي لا محيد له عنها، ولا يمكن أن تمحي بالمرة من الذاكرة التي تظل تحمل هذا الموروث أينما حللنا، وأينما حط بنا المقام والسفر، فالمكان الذي ننتقل إليه ليس سوى فضاء آنيّ، قد نتأثر بتفاصيله، ولكننا نظل دوما على امتداد روحي مع الأصل والمنبت، وهذا ما يتجلى واضحا في هذا المعرض الذي استطاع رواده اختصار المسافة بينهم وبين عالمهم الأول، فالفنانون المشاركون يعيش أغلبهم ويعمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولا يعيش كثير منهم في بلدانهم الأصلية نتيجة تردي إقتصاديات بلدانهم أو بسبب النزاعات التي تنخر أجساد أوطانهم، وما أكثرها في أيامنا!، ولكنهم في نهاية المطاف لازالوا يرتبطون إرتباطا وثيقا بالثقافة العربية وتاريخها وما يحدث في بلدانهم ألقى بظلاله على كل أعمالهم، وكساها خصوصية متفردة.
رؤى إماراتية
أما معرض (رؤى إماراتية) فيمثل وجهة نظر داخلية محلية من داخل دولة الإمارات العربية المتحدة، تمت صياغتها عبر فنون التصوير الفوتوغرافي والفيديو وفنون الوسائط المتعددة، وعكستها الصورة الرئيسية لهذا المعرض للفنانة ريم فلكنار التي التقطتها من جبال إمارة رأس الخيمة. وتظهر الصورة شابا مغطى بغترته التقليدية الحمراء، دون التعرف على الشخص المصور.
من خلال هذا البورتريه يتجلى بوضوح سؤال الهوية الثقافية، والامتداد في الجذور والتعلق بالتقاليد والعادات التي دأب عليها المجتمع الإماراتي من خلال اللباس كمعبّر أساسي عن المشتركات بين أفراد المجتمع الواحد، وكدليل على تجانسه وتواصله، والأمر نفسه يتجلى في أعمال الفنانتين الشيخة فاطمة بنت هزاع آل نهيان والشيخة لطيفة بنت مكتوم، حيث يتجلى تصوير الذات واضحا للعيان، من خلال استخدام اللباس التقليدي كمعبر عن الشخصية المحلية الإماراتية، حيث نجد العباءة والكندورة والاكسسوار المحلي الصرف الذي يشير إلى البلد وإلى المنطقة الخليجية برمتها، مما يكسبها الخصوصية والفرادة التي تعبر عن حقيقتها، وكل هذه الإحالات تدل بصفة لا مجال للشك فيها إلى التعلق بالمحيط والتعبير عن تفاصيله الدالة ورموزه التي تبقى عنوانا له ودليلا عنه، وصورة لتراثه ومقوماته الأساسية التي تميزه عن كل المجتمعات الأخرى، وهذا ما اعتمدت عليه الفنانتان ميثاء دميثان، وعفراء بن ظاهر اللتين اختارتا سجادة الصلاة واللباس المحلي، وهي دلالة على الكثير من المقومات الحاضرة في حياتنا اليومية كمسلمين.
كما كان حمدان بطي الشامسي مسكونا بالهامش متناولا الشكل الموحد للمغلف البريدي المملوء بقصاصات المجلات، وهو بذلك يحيل إلى العلاقة بين الماضي والحاضر والماضي من ناحية، ويدلل على السرعة التي تغمرنا اليوم من خلال التطور المريع لوسائل الاتصال الحديثة التي وصلت إلى مستوى الألياف والموجات البصرية، بعد أن كانت الرسائل مقتصرة على الكتابة على الورق وفي انتظار ساعي البريد.
سعد خليفة استلهم في عمله الفني المشارك في المعرض صوره من الأيقونات المسيحية متأثرا باللغات البصرية التصورية، وكذا فرح القاسمي التي صورت التورية محيلة إلى الثقافة الشعبية السائدة داخل مجتمعاتنا العربية، معبرة بذلك عن وجهة نظرها الخاصة ورؤيتها الذاتية التي تقوم أساسا على التخفي وراء قناع، أما يوسف الهرمودي فيتطرق للزمن من خلال تصوير عمال موانئ مجهولين يعملون بالليل وينتهون فجرا سواء من خلال سهرة اللؤلؤ البحرية أو من خلال الانتباه إلى أهمية الوقت في صورة تجسد حبس البحارة في الكبسولات العائمة لسنوات طويلة، فوعي الهرمودي بالزمن واضح للعيان، ولا يمكن أن تخطؤه العين المجردة بالمرة.
ويتجلى البحر كمؤثر فاعل في رؤى الفنانين الإماراتيين المشاركين، بوصفه بيئة مؤثرة، فالماء شكل في هذه المنطقة فيضا من خلال البحر الذي يحيط بالإمارات من جوانب مختلفة، كما أنه شكل أيضا عنصرا مهما يحتاجه المرء في صحراء تقسو فيها الحياة في أحايين كثيرة، وهذا ما نراه في عمل عمار العطار بالفيديو الذي ارتكز على عملية ملء الماء الصالح للشرب بالأيدي لزجاجات لا تحد، ومن خلاله نتعرف على حياة بعض السكان، حيث للماء لون آخر، وأهمية لا تضاهى رغم التطور العمراني الذي يغطي نطاقا واسعا من الإمارات.
علياء الشامسي اعتمدت على الأبيض والأسود في عملها الفني المصور، وذلك للتأكيد على ضرورة المحافظة على المباني القديمة، كما هو الحال بالنسبة للمباني الحديثة، كما عمدت الشامسي إلى البحث في التطور العمراني الذي بدأ منذ عقود في دبي التي انطلقت بسرعة نحو ما هي عليه الآن، أما شمة العامري فقد اعتمدت على الكاميرا ذات الثقب الواحد لتوثق الرموز المعمارية في الإمارات على غرار برج خليفة التحفة المعمارية التي تميزت عالميا وباتت اليوم رمزا من الرموز التي تشير إلى علو كعب دولة الإمارات عمرانيا.
«نظرة من الداخل» و«رؤى إماراتية» رحلتان ممتعتان في الألوان الممتزجة بشخوص وأحداث ومعالم وفضاءات استنطقها الفنانون بريشتهم وعدستهم وفيديوهاتهم لتشكيل أكثر من صورة بصرية ممتعة ودالة عن ثقافة عربية غزيرة المعنى وثرية المغزى.
احتفاءً بإرث راسخ
يقدم مهرجان أبوظبي كل عام أعمالاً تشكيلية جديدة لرواد الفن التشكيلي العرب والعالميين، ساعياً إلى الاحتفاء بإرث التعبير الفني الراسخ في الثقافة الإماراتية، وقد تضمنت أعمال التكليف الحصري من المهرجان في هذه الدورة أعمالاً للفنانين جلال لقمان، مطر بن لاحج، محمد كاظم وبيل فونتانا.
أول مرة
للمرّة الأولى في تاريخه، يزور معرض فوتوفست للصور المشهود له عالمياً العالم العربي، للمشاركة خصيصاً بمعرض ضمن فعاليات مهرجان أبوظبي امتداداً لمعرض بينالي فوتوفست الشهير الذي أقيم عام 2014.
تتناول الأعمال الفنية المتعددة الوسائط، والتي تشمل صوراً وفيديوهات لأفضل الفنانين العرب، قضايا حول هوياتها المتنوعة بين العالمية والمحلية.
يُلاحَظ في هذه الأعمال أيضاً تأثير التغيرات الجذرية الهائلة في القرن الماضي إلى جانب النمو السريع لتكنولوجيا الاتصالات في المفهوم التقليدي لعلاقة المرء بـ «الوطن» و»العائلة»، والتي بدورها خلقت تجربة واسعة النطاق مع موضوعي الشتات والنزوح.
* الاتحاد الثقافي