*شهلا العجيلي
لم يتوصّل علماء الآثار ولا اللاّهوتيّون إلى حقيقة دامغة حول الرابط بين جنّة عدْن، التي غرسها الربّ الإله شرقاً، وبين مدينة عَدَن اليمنيّة جنوب شرق جزيرة العرب، ومع ذلك نستطيع أن نحدس بوجود مشترك صلب أو روحانيّ، نقبض عليه في كتب التاريخ التي تحدّث عن ذلك الميناء الذي ينفتح على دنيا، ومباهج، وألوان، إذ إنّ عدن العبرانيّة تعني البهجة والسرور، وقد تعني السهل والخلود، تلك التي أوليناها ظهورنا منذ زمن طويل، ميمّمين الشطر نحو البياض، نحو أوربّة وبحرها، في حين أن أوربة ذاتها، خاتلت بمكر، وأدارت سُكّانات سفنها حيث البنّ والموكّا والشوكولا.
“جنّة عدن”هي الرواية الناقصة لهمنجواي، التي نشرت بعد خمسة وعشرين عاماً على وفاته عام 1961، يرصد فيها كيد النساء، وأجدها محاكاة لعلاقة آدم وحوّاء، وإغوائها له وفاقاً للرواية التوراتيّة، إذ تحاول زوجته لتصدّه عن المقدّس، الذي هو الكتابة، أن تقدّم له امرأة أخرى، وتحوّل حياته إلى جنّة. لم نكن نعرف ماذا جال وقتها في نفس همنجواي، لكن أعتقد أنّها علاقة ثلاثيّة، وتجسيد للخطيئة الممتعة، وتأثيث جنّة على الأرض، بدلاً من الجنّة الأولى، التي يراها العهد القديم على الأرض أيضاً، لا في السماء.
أنتوني إيدن، وإيدن هي عدن، هو رئيس وزراء بريطانيا الأسبق. كان وزيراً للخارجيّة في حكومة تشرشل أثناء الحرب العالميّة الثانية 1940- 1945، وصار رئيس وزارء عام 1955، وهو مهندس تحالف العدوان الثلاثيّ على مصر، وكنت أظنّه حتّى وقت قريب الاستخدام الأسوأ لمفردة “عدن”، فـ “عدن” لا تليق بمخطط حرب، بل تليق اسماً لأشهر عطور كاشاريل “Eden”، الذي أطلقته الدار عام 1994، مصنوعاً من مسك الروم، والياسمين، وقلوب زنبق الوادي، معجونة بعصير الأناناس والشمّام!
إذا كانت المفردات مفاتيح لبوّابات الخيال أو الذاكرة، فإنّ كلمة “عدن” تبسط أمامي المدلولات السابقة تحديداً، لا غير، التي يشكّل أنتوني إيدن أسوأها، فأتعامل مع وجه “عدن” في اسمه على سبيل معارفي التاريخيّة السياسيّة! أكتفي بذلك حتّى حينما يتردّد اسم “عدن” كثيراً كثيراً في نشرات الأخبار التي لا يغريني تعدّدها إطلاقاً، فأنا لا أسمعها إلّا كما كان يفعل جدّي رحمه الله، من إذاعة مونت كارلو فحسب، وبلا محللين سياسيّين. لعلّ ذلك كلّه لا يغدو مثيراً أمام اللحظة العدنيّة التي أغوت بها خيالي رواية اليمنيّ أحمد زين، التي سمّاها “ستيمر بوينت”. إنّها رواية صادرة حديثاً، عن دار التنوير، وتؤشّر نحو أنّ النكوصات التي تصيب الجنان تكون أوجع، فماذا يفعل بنا أولئك الروائيّون! يوغلون في صناعة فواجعنا حينما يكشفون لنا صور الجمال المخبّأة في أدراج التنميط والإشاعات: “من يدخل عدن سوف لن يكون سهلاً عليه الخروج منها ثانية”، لا بسبب العدّة العسكريّة، بل بسبب الغواية، هذا ما فعلته بقاصديها جميعاً عبر التاريخ، عمّال، وتجار، وخدم، ومستعمرين: “تأخذهم عدن بالكامل، تنسيهم حبيباتهم، وأسرهم، وتزجّ بهم في حياة أخرى تشبه الأحلام”.
“ستيمر بوينت” عنوان النصّ، هو النقطة التي تجتمع فيها السفن في ميناء عدن، ومنها تتفرّع الحكايات، التي تحتاج إلى درس ثقافيّ، من حيث طرحها العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، لكن بمواجهة فاضحة، تعرّي النسق الثقافيّ العربيّ، وتعرّي منجزه منذ أواخر الاحتلال العثمانيّ إلى خروج الاحتلال البريطانيّ، ثمّ قيام جمهوريّة اليمن الجنوبيّة. جلّ ثيمات الكتابة ما بعد الاستعماريّة، والتي فصّلت الكلام عليها في كتابي “الخصوصيّة الثقافيّة في الرواية العربيّة” تتوافر في نصّ أحمد زين “ستيمر بوينت”: المواجهة الثقافيّة بين النسقين الظاهر والمضمر، التي تجلّت ببساطة في التقابل بين الهريسة المحليّة والبودينغ بالفانيل، وعودة الذاكرة الثقافيّة باستعادة الإمبراطوريّة، والتعدديّة الإثنيّة لكن ليس لخلخلة المركز، بل لمواجهة الزحف المتطرّف في بداوته، واللّواذ بالمنجز الاستعماريّ التمدينيّ في مواجهة النكوص الحضاريّ الذي يفرضه الفساد، والرغبة في السلطة، والتنفّذ، ولعلّ الثيمة الأخيرة هي المواجهة الجادّة والمختلفة التي تميز النصّ، إنّها خطوة جرئية، وحقيقيّة،وبعيدة عن زيف الادعاءات الوطنيّة، وعن التملّق الثقافيّ أيضاً، والتي جسّدتها بتناسق شخصيّة “سمير”، الذي واجه مخططات الشيوعيّين والقوميّين كلّها بعبارة صريحة عن اللحظة العدنيّة: “من دون هذه اللّحظة التي صنعها الإنجليز لن توجد أيّة أفكار جديدة”!
لاشكّ في أنّ سير المدن لا تغدو بليغة، إلاّ إذا اقترنت بسيرة امرأة يعلقها القلب، بل بنساء ثلاث من نسق أصلانيّ ومستعمِر، يمكنهنّ إحداث بعض التوازن مع هذا التعدّد الإثنيّ والدينيّ المدهش الذي يكتنف المدينة، حيث: “عشرات النوافذ المفتوحة على المتنزّهات البحريّة، على الفنادق في الجوار، على صالات السينما، والمقاهي الحديثة، والبارات والأندية الليليّة، على محال الساعات والكاميرات والذهب والمشغولات الفضيّة والملابس الحديثة، على تمثال الملكة فكتوريا، يلمع من النظافة في حديقته الواسعة.”، ممّا يجعلنا نتساءل مع أحد الضبّاط الإنجليز: “إلى أين تتّجه هذه المدينة، ألم يكفها أنّها أصبحت ثالث أهمّ ميناء في العالم، بعد نيويورك وليفربول!”. للإجابة عن هذا السؤال كان علينا أن ننتظر الخريف، فنعرف إلى أين تتجه المدينة، فلا نخب لحطام السفن على أسوار عدن، ولا جبال ردفان، ولا 14 أكتوبر، ولا نار المجوس، ولا جبل شمسان، ولا صليب النصارى، ولا هلال المسجد.. ذلك كلّه مضى، ولم يترك لنا العالم الهمجيّ أدنى فرصة لتناول كأس شاي عدنيّ في مقهى من مقاهي “ستيمر بوينت”.
______
*عمّان.نت