كلود سيمون: الرواية تصنع نفسها وأصنعها وتصنعني «1-2»


*حوار: ألكساندرا أيل – ترجمة: أحمد شافعي

طالما أنكر «كلود سيمون» أنه يكتب رواياته وفقا لأسلوب «الرواية الجديدة» الفرنسية، بل إنه في واقع الأمر يعتبر مصطلح «الرواية الجديدة» مصطلحا مضللا جمع تحته النقاد جمعا زائفا الكثير من الكتاب الفرنسيين من أمثال «ناتالي ساروت» و«آلن روب جرييه» و«مارجريت دورا» الذين يرى سيمون أن أساليبهم وثيماتهم واهتماماتهم متنوعة تماما. ولكن كلود سيمون ظل برغم ذلك معروفا بوصفه «روائيا جديدا» إلى أن حصل على نوبل في الأدب سنة 1985. نسب إليه نقاد الأدب والفلاسفة كل شيء ابتداء من الاستغراق في فلسفة العبث وحتى الميل إلى العدمية. ولقيت رمزية أعماله تحليلا كثيفا، بل شديد الكثافة في نظر سيمون الذي يرفض جميع تفسيرات أعماله تقريبا، ويصوِّر نفسه كاتبا مباشرا يعتمد على ما توفِّره له الحياة من خامات. ولكن ما ينتج عن هذه الخامات يأتي بمثابة تحدٍّ باروكي غريب. جمله تمتد لصفحات، والفقرات لديه تخلو من علامات الترقيم. وهو في كل الأوقات غنائي. وفي الغالب يرسم واقع الموت والفناء، مع حضور شائع للحرب. يرفض روايات القرن التاسع عشر التقليدية ويحب دوستويفسكي وكونراد وجويس وبروست وفوكنر الذي يعتمد على مثل ما اعتمد عليه من كثافة الاهتمام باللغة وشحنها. في المشاهد عنده أصداء من بعضها البعض، وثمة تكرار لها، وقلب وإعادة نظر من مختلف وجهات النظر ومن مختلف الزوايا وبكل التفاصيل، والزمن يرجع ويتقدم ويرجع من جديد مع تغير وجهات النظر.

ولد كلود سيمون في عام 1913 في تناناريف بمدغشقر ونشأ في بربيجنان Perpignan بفرنسا. مات أبوه في معركة حينما كان عمر سيمون أقل من سنة. ماتت أمه وهو في الحادية عشرة، وتم إرساله إلى مدرسة داخلية في باريس، ولكنه كان يقضي الصيف مع أقاربه. في شبابه، درس الرسم لفترة وجيزة وسافر إلى أسبانيا أثناء الحرب الأهلية ووقف أثناءها في صف الجمهوريين. قال مرة: إنه اتجه إلى الكتابة لأنه رأى أنها ستكون أسهل من الرسم ومن الثورة.
بدأ حياته الأدبية عشية الحرب العالمية الثانية برواية «المخادع» Le Tricheur، ولكنه استدعي لأداء الخدمة العسكرية قبل إكمال المخطوطة. نجا بصعوبة من فترة الخدمة في الجيش التي قضاها مع فصيلة من سلاح الفرسان الفرنسي ذات عتاد ينطوي على مفارقة تاريخية هائلة، فهذه الفصيلة واجهت المدرعات الألمانية وهي على ظهور الخيول مسلحة بالسيوف والبنادق.
وأخيرا نشرت «المخادع» سنة 1945. وتسلّم سيمون ميراثه، ومع نهاية الحرب تمكن من تكريس حياته بالكامل للكتابة.ترجمت أعماله بصورة موسعة، فله بالإنجليزية عشرة كتب من بينها رواية «العشب» (1960)، و«طريق فلاندرز» (1961)، و«القصر» (1963)، و«تاريخ» (1968)، و(Conducting Bodies 1974)، و«اللوح الثلاثي» (Triptych 1976) و(Georgics 1989)، و«الدعوة» (1991) و«شجرة الأكاسيا» (1991).
يعيش سيمون حاليا [ويلاحظ أن الحوار منشور سنة 1992] في باريس التي قضى فيها أغلب سنوات عمره، ولكنه يقضي الصيف في جنوب فرنسا على مقربة من مدينة بربيجنان التي نشأ فيها. أجري هذا الحوار بصفة أساسية من خلال البريد في ربيع سنة 1990 وصيفها. ثم عقدت جلسة ختامية في غرفة المعيشة ساطعة الإضاءة في شقة سيمون الباريسية ذات الأثاث البسيط القائمة في الطابق الخامس من بناية في الحي الخامس. كانت الجدران البيضاء حافلة بالأعمال الفنية، ولا يشي الجو العام المريح بالعالم القاتم الذي يصوره سيمون في أعماله.
***
– هل تعتبر طفولتك سعيدة؟
– قتل أبي في الحرب في أغسطس سنة 1914، وماتت أمي وأنا في الحادية عشرة، فبُعثتُ بعدها إلى مدرسة داخلية، وكانت مدرسة دينية تقوم على نظام شديد الصرامة. ومع أنني كنت يتيما في ذلك السن المبكر، أعتبر أن طفولتي كانت سعيدة إلى حد ما، بفضل المحبة التي أغرقني فيها أعمامي وعماتي وأقاربي.
– ما اسم تلك المدرسة الداخلية؟
– كلية ستانيسلاس، وهي في واقع الأمر مدرسة كنسية في باريس. أمي كانت متدينة للغاية وأرادتني أن أتلقى تعليما دينيا.
– هل كانت لتلك المدرسة أية تأثيرات عاطفية أو فكرية عليك؟
– أصبحت ملحدا. وهذا في تصوري واضح في كتبي.
– كيف صاغك تعليمك الرسمي؟
– حصلت منه على ما قد يسميه المرء قاعدة ثقافية – اللاتينية والرياضيات والعلوم والتاريخ والجغرافيا والأدب ولغة أجنبية. العيب الضخم في التعليم الثانوي في فرنسا هو أنه لا يتيح المجال نهائيا أمام الكلام في الفن – في الموسيقى والرسم والنحت والعمارة. لقد جعلوني، على سبيل المثال، أحفظ مئات الأبيات لكورنييه Corneille لكنهم لم يكلمونا مطلقا عن نيكولا بوسان Nicolas Poussin وهو أهم بكثير.
– قاتلت في صفوف الجمهوريين في الحرب الأهلية الأسبانية، لكنك فهمت الوضع وتركت القضية. لماذا؟
– لم أقاتل. أنا وصلت برشلونة في سبتمبر 1936 «في محاولة لأن أكون شاهدا أكثر مما أكون مشاركا في المسرحية الكوميدية الجارية في العالم». هذا واحد من المبادئ التي وضعها ديكارت. حينما كتب ذلك، كانت كلمة الكومديا تعني كلَّ تمثيل مسرحي، كوميديّا كان أم تراجيديّا. ولم تكن هذه الكلمة بالنسبة لديكارت – الذي عاش زاهدا يراقب ضعف الأهواء البشرية – تنطوي على إيحاء تهكمي أو ازدرائي. بلزاك أيضا استخدم المفردة في مجموعة كتب بعنوان «الكومديا البشرية»، المخصصة في واقع الأمر لحكايات مأسوية.
لقد كانت العناصر الأدعى إلى الأسف في الحرب الأهلية الأسبانية هي دوافعها الأنانية، والمطامح السرية التي كانت تخدمها، والتأكيد على الكلمات الجوفاء المستخدمة من الجانبين، بدت كومديا، دمويةً بأبشع الطرق، ولكنها في النهاية كومديا. ومع ذلك ففي ضوء درجة الدموية التي كانت عليها الحرب، وكمّ الخيانة والغدر الذي تعلق بها، يصعب عليّ أن أعتبرها كومديا. أما ما الذي ذهب بي إلى هناك؟ فهو بطبيعة الحال تعاطفي مع الجمهوريين، وكذلك فضولي ورغبتي في مراقبة حرب أهلية، أن أرى ما يجري.
– حياتك شهدت قدرا كبيرا من الحظ: كنت واحدا من القلائل في سلاح الفرسان الفرنسي الذين نجوا من معركة ميوس Meuse سنة 1940 التي جرت في الميدان الذي مات فيه أبوك. أسرك الألمان، ثم هربت من الأسر بعد ستة أشهر وانضممت إلى المقاومة. بعد هذه الفترة تقاعدت معتمدا على إرث من أهلك أمكنك به أن تكرِّس حياتك كلها للكتابة.
– نعمت على مدار حياتي بقدر من الحظ لا يصدقه عقل. سنحتاج وقتا طويلا لكي نعدد كل حالات الحظ السعيد، غير أن هناك حالة واحدة تبرز بين جميع الحالات. في مايو سنة 1940، تعرضت فصيلتي لهجوم من الدبابات الألمانية. وتحت القصف، صدر الأمر الغبي بأن «قاتلوا مترجّلين» وأعقبه على الفور تقريبا أمر بأن «قاتلوا ممتطين الخيول متحركين». وفيما أحاول وضع قدمي في الركاب، انزلق السرج. قلت إنه سوء حظ في غمار المعركة. ولكن ذلك ما أنقذني: فقد قاتلت مترجلا، ومن ثم كنت في نقطة ميتة، في مستوى لا يصل إليه القصف. أغلب الذين امتطوا الخيول انتهوا قتلى. يمكنني أن أحكي عشرة مواقف أو اثني عشر صادفني فيها هذا الحظ الطيب. وغالبا، كما في حالة الهجوم، يفكر المرء أن ما يصادفه إنما هو سوء حظ، ثم يتبين أنه العكس. بول فاليري كتب يقول «عندما نجمع كل الأشياء إلى بعضها البعض، لا تكون حياتنا إلا سلسلة من الويلات التي لم تلق منا ردود الفعل المناسبة».
– كيف هربت من معسكر الأسر الألماني؟
– تمكنت من الركوب في قطار للسجناء كان الألمان ينقلونهم إلى فرونتشتالاج في الشتاء. كان المعسكر سيئ الحراسة. فهربت بعد وصولي مباشرة في وضح النهار، بأن انسللت من بين جنديين ألمانيين داخلا إلى الغابة. ومن هناك، ظللت متخفيا طول الطريق إلى أن وصلت إلى خط الحدود.
– ما العمل الذي كنت تقوم به لصالح المقاومة؟
– لم أكن في قلب المقاومة. ولكن مركز المخابرات العسكرية لحركة التحرير الوطنية الذي أداره الكولونيل فوبان كان في شقتي، في 148 شارع مونبارناس. وذلك منذ أبريل 1944 وحتى التحرير. دوري كان سلبيا، دور المضيف. بعد الحرب العالمية الثانية، كنت أعيش في باريس، وفي الصيف أعيش في بربيجنان في شرق البيرينيس. كنت أمتلك عدد صغيرا من مزارع العنب في ساليس Salses على بعد خمسة عشر كيلومترا من بيربيجنان. بعت هذه الأرض ولكن بقي لي بيت في قرية أقضي فيه الصيف.
– متى بدأت الكتابة؟
– لست متأكدا بدقة، أثناء خدمتي العسكرية فيما أعتقد.
– ما الذي جعلك تكتب روايتك الأولى؟
– الطموح إلى أن أكتب رواية.
– قلت إن «إدراكنا للعالم مشوه ومنقوص … وإن ذاكرتنا انتقائية. وإن الكتابة تحوَّل …». هل في هذا التحول علاج من نوع ما؟ هل ترى الكتابة نوعا من العلاج؟
– لا. أكتب فقط من أجل المتعة، من أجل إنتاج شيء، وطبعا أكتب راجيا أن تتم قراءتي. والظاهر أن هذا الأمل ليس مستحيلا تماما في ضوء أن لي الآن آلاف القراء في كثير من البلاد.
– هل كانت لكتابات سارتر وكامو تأثيرات كبيرة عليك؟
– أعتبر كتابات كامو وسارتر تافهة تماما. أهم ما تتصف به كتابات سارتر أنها كاذبة وحاقدة. ولو أن لي أن أعترف بأي تأثيرات فهي تأثيرات دوستويفسكي، وتشيكوف، وجويس، وبروست، وفوكنر. كتاباتي كلها نتاج التجربة الشخصية.
– يوصف بطل روايتك الأولى «المخادع» بأنه شديد القرب من ميرسوMeursault في الغريب؟
– روايتي «المخادع» اكتملت تقريبا في ربيع عام 1941، قبل فترة لا بأس بها من «الغريب» لكامو. وقابلت المحرر الأول لأعمالي إدموند بومسيل أثناء الحرب. كان يهوديا. صادر الألمان دار النشر التي كان يمتلكها، دار The Sagittarius. كان لاجئا في المنطقة الجنوبية وطلب مني الانتظار إلى أن تنتهي الحرب كي ينشر «المخادع». ووافقت. وإذن فليست هناك أي علاقة بكامو أو تأثير منه.
– تشير إلى تأثير فوكنر وجويس وبروست على كتابتك. هل يضايقك أن يرى بعض النقاد أعمالك تقليدا؟
– هؤلاء الذين يكتبون نقدا لا يوصف بغير الغباء أو الحقد لا أملك تجاههم إلا اللامبالاة. ولو أنني كنت أوليتهم أي قدر من الاهتمام، ما كنت أنجزت العمل الذي فاز بجائزة نوبل.
– يقول البعض إنك بعدما كتبت «الربيع المقدس» في الخمسينيات أصبحت روائيا جديدا؟
– ما دام أغلب النقاد المحترفين لا يقرأون الكتب التي يتكلمون عنها، فقد قيل في الرواية الجديدة وكتب عنها جبال من الهراء. هذا الاسم يشير إلى مجموعة من الكتاب الفرنسيين المتعددين الذين لا يطيقون الأشكال الأكاديمية للرواية، شأنهم شأن بروست وجويس قبلهم بكثير. بعيدا عن هذه الرفض المشترك بيننا جميعا، عمل كل واحد فينا من خلال صوته الخاص، فالأصوات مختلفة تماما، ولكن هذا لا يحول دون وجود تقدير مشترك بيننا، وشعور بالتضامن.
– ما الذي يميز صوتك أنت عن أصوات الروائيين الجدد الآخرين؟
– ابتداء من «العشب»، أصبحت رواياتي أكثر اعتمادا واتكاء على حياتي، وأقل احتياجا إلى الخيال، ثم لم يعد فيها من الخيال أي شيء.
– لو كان لك أن تضع لافتة على نوعية كتابتك، فماذا تكون هذه اللافتة، إذا لم تكن «الرواية الجديدة»؟
– اللوافت دائما خطيرة. ترغمني على تكرار نفسي، ولو أن هناك أي جديد في الرواية، بعد هجران الحكاية، فهذا الشيء بدأ في هذا القرن مع جويس وبروست.
– قلت مرة إنك ضجرت من واقعية القرن التاسع عشر. هل اخترت أسلوبك في الكتابة كرد فعل عل هذا، أن تكتب رواية تستشعر أنها ممثلة حققا للواقع؟
– لا وجود لشيء اسمه التمثيل «الحقيقي» لـ«الواقع». اللهم إلا في صيغة معادلة جبرية. جميع المدارس الأدبية تدعي أنها أكثر واقعية من سابقاتها. من يعرف ماذا يكون الواقع؟ الانطباعيون كفوا عن الزعم بأنهم يمثلون العالم المرئي وقدموا للجمهور «الانطباعات» التي يستقونها منه. ولو صح أننا لا نتلقى العالم الخارجي إلا شذرات، فلوحات مرحلة التكعيبيين «المركَّبة» (synthetic) واقعية. وأكثر واقعية منها الأعمال التركيبية التي أنتجها شويترزSchwitters، وروشنبرج Rauschenberg، أو نيفلسن Nevelson.
– لماذا اخترت أسلوب الكتابة الذي اخترته؟
– أنا لم أختر. أنا أكتب بحسب ما أستطيع.
لقد كان من حسن حظي أن حظيت بناشر عبقري هو جيرومي ليندن. كان يمتلك إحدى دور النشر الصغيرة في باريس، هي دار مينويه، ولم يكن يعمل فيها غير تسعة موظفين. عرّفني بهم آلن روب جرييه Alain Robbe-Grillet الذي قابلته أثناء إجازة. طلب أن يقرأ مخطوطة «الريح» التي كنت أضع لمساتها الأخيرة في ذلك الوقت. أعجبته وشجعني على نشرها في دار مينويه ووافقت لأن هذه الدار كانت أصدرت كتبا لمؤلفين كنت أكن لهم الكثير من التقدير والإعجاب، مثل بيكيت وبوتور Butor وبينجيه Pinget وروب نفسه. وفي السنوات الأخيرة فاز اثنان من كتاب هذه الدار بجائزة نوبل، صمويل بيكيت وأنا.
– هل تكتب بسرعة؟
– لا. ببطء بالغ.
– هل تدوّن ملاحظات، هل تحتفظ بدفتر يوميات؟
– أدوّن القليل جدا من الملاحظات. ولم أحتفظ مطلقا بدفتر يوميات. ذاكرتي بصرية في المقام الأول.
– ما الذي تريد أن يتعلمه قراؤك من كتبك؟
– لن يتعلموا أي شيء. ليست لديّ رسالة أنقلها. كل ما أرجوه أن يستمتعوا. ولو أنه من الصعب تحديد طبيعة هذه المتعة. جانب من هذه المتعة يتثمل فيما سمّاه رولان بارت بالتعرف على المشاعر التي سبق للقارئ أن مرّ بها وأحسّها بنفسه. الجانب الآخر يتعلق باكتشاف ما لم يعرفه القارئ من قبل عن نفسه. يوهان سيباستيان باخ عرّف هذا النوع من المتعة بـ «اللامتوقع المتوقع».
نشر الحوار في باريس رفيو الأمريكية في عدد ربيع 1992
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *