*محمد زكريا توفيق
من بين كل حوريات الماء (50 حورية، وكل حوريات الغابات، 22 حورية) إيكو هي أقربهن إلى القلب. اسمها يعني صدى الصوت. لم تكون جميلة وعطوفة فحسب، ولكن أيضا لها صوت عذب ومقدرة فائقة على الغناء وسرد القصص والحكايات.
باقي الحوريات، كن يرجونها لكي تعني وتحكي لهن ما طاب لها من روايات وأخبار وحكايات. كانت الحورية المفضلة عند الإلهة أفروديت. وكانت أفروديت، تترك مجلس الآلهة، مجلس الأنس، على قمة الأوليمب، وتنزل لكي تتحدث إلى إيكو وتستمع إلى قصصها المسلية.
أفروديت (فينوس)، إلهة الجمال والحب، كانت مهتمة، شأن كل النساء، بسير الناس والقيل والقال. وخصوصا، ما له علاقة بقصص الحب. من أحب من، ومن كره من، وما نتج عن ذلك.
في يوم من الأيام، سألت أفروديت إيكو قائلة: “كل الناس تطلب مني معروفا إلا أنت. أخبريني بحق الآلهة، هل هناك شخص ما، تودين أن يقع في غرامك؟ إنسي أو إله؟ فقط اذكري لي اسمه، وأنا أرسل له ابني إيروس (كيوبيد)، لكي يرشق قلبه بسهم الحب، فيجعله يجن بحبك.
ضحكت إيكو وقالت: “للأسف، إلهتي الجميلة، لم أصادف أحدا حتى الآن، رجلا كان أم إلها، أجد نفسي تنجذب إليه. الآلهة متقلبون في عواطفهم، أما الرجال، فلم أجد بينهم الرجل الجميل الذي أحلم به. عندما يحين الأوان ويأذن القدر، لن أتردد في طلب مساعدتك. هذا لو حدث يوم ما.
أجابت أفروديت: “أنت من الجمال والكمال ما يجعلك تستحقين أفضلهم جميعا. بالمناسبة، الأفضل يأتي مرة واحدة، لا غير. ومن منا يريد أن ينتظر إلى أن يأتي الأفضل. على أي حال، أنا تحت أمرك”.
في نفس الوقت، نجد أجمل الفتيان قاطبة، يضل طريقه وسط الغابات الكثيفة. يحاول جهده الخروج من هذا التيه الذي وجد نفسه فيه. اسم هذا الفتى، نرجس.
كان نرجس من الوسامة والجمال، لدرجة أنه لم يكن يستطيع التحدث لامرأة بخلاف أمه. لأن أي امرأة تراه، كانت تسقط من طولها مغمى عليها. هذا بالطبع جعله يغتر، وكما نقول بالبلدي، “يأخذ مقلبا في نفسه”.
بينما كان تائها في الغابة، يبحث عن مخرج، كان يتحدث إلى نفسه قائلا:
“أود أن أجد شخصا جميلا مثلي. من الواجب ألا أعرف من يقل عني، في الوسامة وجمال الوجه أو كمال البدن. قد لا أجد من ينطبق عليه هذا الشرط فأصبح وحيدا. لكن هذا خير من أن أخفض مستوى تطلعاتي.”
ظل نرجس يمشي يبحث عن سكة للخروج من الغابة، لكنه كان يمشي في الاتجاه المعاكس. مما جعله يتوه أكثر وأكثر عن الطريق الصحيح.
في جزء آخر من الغابة، بعد أن تركت إيكو الإلهة أفروديت مودعة، ذهبت إلى مرج خال من الأشجار. هناك رأت ما جعلها تقف وتتعجب، وتختبئ خلف شجرة.
من يكون غير الإله زيوس نفسه، إله السماوات ورئيس الآلهة أجمعين. رأتـه وهو ممسكا بحورية ماء، وهي تبتسم له. قالت إيكو بينها وبين نفسها: “حسنا، لقد عاد إلى طبعه في مطاردة الجميلات. لا شك أن أفروديت، ستسعد بهذه الأنباء”.
لكن لفت انتباهها شيء آخر. لقد رأت سيدة طويلة جميلة تشق طريقها نحو المرج. علمت لأول وهلة، أنها هيرا، زوجة زيوس الغيورة، جاءت لكي تقفشه متلبسا. لذلك، هرولت إيكو نحوها وسجدت لها قائلة: “تحياتي لك يا إلهتي، ومرحبا بك في الغابة”.
همست هيرا: “صه أيتها الحمقاء. لا تتفوهي ببنت شفة. أريد أن أفاجئه وأمسكه وهو متلبس”.
إيكو، بعد تفكير سريع: “يا له من يوم عظيم. أن أرى فيه أكثر من إله. منذ دقائق، زيوس كان هنا يبحث عنك”.
هيرا: “زيوس؟ يبحث عني؟ هل أنت متأكدة؟”.
إيكو: “نعم، زيوس العظيم. زوجك. لقد سألني إذا ما كنت قد رأيتك. قال إنه علم بقدومك إلى هنا، وكان يتوق لمقابلتك. عندما أخبرته بأنني لم أشاهدك، تركني وخيبة الأمل بادية على وجهه”.
هيرا: “حقا؟ هل هذا ممكن؟ زيوس يبحث عني؟ حسنا، المعجزات تحدث كثيرا. في أي اتجاه ذهب؟”.
إيكو: “أعتقد أنه عاد إلى مكانه في الأوليمب”.
هيرا: “أشكرك يا ابنتي. سأذهب أنا أيضا”.
زيوس، عندما سمع أصواتا، اختبأ هو وحورية الماء خلف أكمة. بعد أن غادرت هيرا زوجته المكان، ظهر وجاء لكي يشكر إيكو لإنقاذه من هذه الورطة، وأعطاها خاتما ياقوتيا كان يلبسه في اصبعه.
عادت هيرا إلى قمة الأوليمب، فلم تجد زيوس هناك. شعرت بإحساسها الإلهي أن هناك شيئا عطنا في الموضوع. فعادت مسرعة إلى الغابة.
أول شيء لاحظته هيرا، هو إعجاب إيكو بخاتم ياقوت كبير، يضوي على اصبعها ويتوهج كأنه شهاب ساقط من السماء. عرفت هيرا أنه خاتم زوجها زيوس، وفهمت في الحال أن إيكو قد خدعتها وكذبت عليها، وأن الخاتم ما هو إلا مكافأتها على ذلك.
صرخت هيرا قائلة: “أيتها البائسة، أنا أعرف ما قد فعلتِ. أرى في اصبعك، جائزة تغريرك بي. لن يكون زوجي بأكرم مني. أنا أيضا سأكافئك على ما فعلتِ.
لأنك قد كذبتِ علي بصوتك، فلن تستطيعين الكلام مع أي شخص والنطق بأي كلمة، إلا ترديد آخر كلمات قيلت لك. الآن حاولي الكذب مرة ثانية.”
إيكو: “الكذب مرة ثانية”.
هيرا: “لن تستطيعي الكذب واختلاق القصص والحكايات ونقل أخبار الناس، أو حتى الغناء. لكن مجرد ترديد آخر ما تسمعين”.
إيكو وهي تبكي: “آخر ما تسمعين”.
ذهبت هيرا تبحث عن زوجها زيوس، بينما ظلت إيكو تبكي. ثم ذهبت إلى بيتها في الغابة. وهي في طريقها، رأت وجها مشرقا جميلا. ليس وجه إله هذه المرة، وإنما وجه شاب وسيم في مثل سنها. شعر أصفر وعيون في لون الياقوت.
عندما رأته، زالت عنها كل الأحزان، وشعرت بالنشاط والانشراح. إنه الشاب الجميل الذي باتت تحلم به طول عمرها. تقدمت نحوه، فتوقف هو لكي يسألها:
“من فضلك، هل يمكن أن تدليني على الطريق الذي يقودني خارج الغابة؟”
إيكو: “خارج الغابة؟”
الشاب: “نعم، لقد ضللت طريقي. وجدت نفسي ألف وأدور لساعات عديدة. لكنني لم أستطع أن أجد طريقي خارج الغابة”.
إيكو: “خارج الغابة؟”
الشاب: “نعم. قلت ذلك مرتين. أنا تائه. فهل تستطين مساعدتي لإيجاد طريقي؟”
إيكو: “لإيجاد طريقي”.
الشاب: “هل أنت لا تسمعين؟ ربما. لماذا يجب أن أكرر القول”.
إيكو: “أكرر القول”.
الشاب: “لا. هذا غير ممكن. التكرار شيء ممل ولن أفعله”.
إيكو: “لن أفعله”.
“اسمعيني. لن أقف هنا طوال اليوم أتناقش معك. إذا كنت تبغين عدم مساعدتي، قولي هذا. وأنا أبحث عن شخص آخر يدلني”.
إيكو: “آخر يدلني”.
ظل الشاب نرجس ينظر إليها مليا، ثم حاول تركها ومغادرة المكان. إلا أن إيكو أمسكت به وحاولت تقبيل خده.
نرجس: “لا تفعلي ذلك. أنت مثل باقي النساء. ألست كذلك؟ كلهن يصابن بالإغماء عندما يرينني. وأنت تقومين بترديد آخر الجمل بطريقة مملة. توقفي عن تقبيلي”.
إيكو: “عن تقبيلي”.
نرجس: “لا”.
إيكو: “لا”.
حاولت إيكو تقبيله من جديد. وهو يحاول أن يدفعها بعيدا عنه. ركعت إيكو على ركبتيها واحتضنت ساقيه، ثم رفعت رأسها لكي تكلمه. لكنها لم تستطع.
نرجس: “لا. دعيني أغادر. فأنت لن تستطيعي إبقائي هنا. أنا لا أحبك”.
إيكو: “أحبك”.
تخلص نرجس من إيكو، وهرب منها وهو يقول “وداعا”، وهي تردد، “وداعا”.
ظلت إيكو تتتبعه بنظراتها إلى أن اختفى نرجس عن نظرها. شعرت بعد ذلك بحزن عميق، وألم في كل مفاصل جسدها. شعرت بأن جسمها يكاد يتمزق. لقد كانت عاجزة عن الكلام، فأخذت تصلي للإلهة أفروديت بهذا الدعاء، بينها وبين نفسها:
“يا إلهتي أفروديت، يا إلهة الجمال والحب. لقد وعدتينني بجميل منك. أنا أحتاجك الآن. اسمعيني، مع إنني غير قادرة على الكلام. كما أنني لا أستطيع تحمل آلام جسمي”.
الإلهة أفروديت، كانت تجلس في طراوة حديقة الأوليمب، بجانب النوافير ووسط الزهور والرياحين. سمعت دعاء إيكو، والآلهة تسمع من يتوجه لها بالدعاء. حتى لو كان الدعاء في السريرة غير منطوق باللسان.
نظرت أفروديت من عليائها إلى الحورية المسكينة إيكو، فرقت لحالها وجعلتها تختفي من الوجود. ذاب جسدها في الهواء حتى يتوقف ألمها وتزول معاناتها. لكن أبقت أفروديت على صوتها، الذي كان يردد القصص والحكايات.
في نفس الوقت، قررت أفروديت أن تنتقم لها ممن كسر بخاطرها، وسبب لها هذه الآلام المبرحة. قررت أن تجعله يكابد من الآلام مثل الذي سببه للمسكينة إيكو. فعزمت أفروديت أن تجعله يقع في حب من لا يبادله الحب. ويا له من عقاب.
نرجس لا يعرف شيئا عما حدث لإيكو من آلام وأحزان، ولا يعرف قرار أفروديت بالإنتقام لها. ظل يروم الغابة بحثا عن مخرج. كان يحدث نفسه وهو سائر: “من بين كل هذه الفتيات التي رأيتهن، لم أجد واحدة تقترب من جمالي ووسامتي، حتى يمكنني أن أقع في حبها”.
جلس نرجس بالقرب من غدير صاف رقراق. مضاء بأشعة الشمس. جعلت سطحه يعكس الضوء وصور السحاب والأشجار كالمرآة. نظر نرجس إلى سطح الماء، فرأى وجها جميلا.
نظر نرجس وأمعن النظر، فرأى الوجه لا يزال على سطح الماء. وجه جميل لم ير شبيها له من قبل. إنه وجه يشبه وجهه هو. لكنه محاط بهالة من النور، جعلت الشعر يبدو كأنه شعر أنثى.
ظل يبحلق وينظر، فلا يمل أو يكتفي من النظر. كان يظن أنه يمكنه النظر لهذا الوجه طيلة حياته، بدون أن يشبع من مشاهدته. وضع يده لكي يلمس الوجه، فتموجت المياه واختفى وجه الفتاة.
اعتقد نرجس أن الوجه، هو وجه حورية ماء. حورية، من بنات إله الأنهار بدون شك. لا بد أنها أجمل بناته. إنها خجولة، مثلي. لم تدعني ألمسها. آه، ها هي قد عادت.
الوجه بات ينظر إليه، كلما نظر هو إلى سطح الغدير. عندما مد يده لكي يلمس الوجه، اختفى من جديد.
قال نرجس بينه وبين نفسه: “سأبقى هنا حتى تحبني ولا تهرب مني. ربما تختفي الآن، لكنها ستعود لكي تتعرف علي.” ثم أخذ يناديها بأعلى صوته: “تعالي واخرجي من الماء. أنا أحبك”.
فرد صوت إيكو، الذي كان يتبعه، قائلا: “أنا أحبك”.
صرخ نرجس بسرور بالغ قائلا: “اسمع هذا، اسمع هذا. إنها تحبني أيضا. أنت تحبينني”.
الصوت: “أنت تحبينني”.
نرجس: “وأنا كمان. أخيرا وجدت من أحب. أخرجي، أخرجي. ألن تخرجي؟”
الصوت: “لن تخرجي”.
نرجس: “لا. لا تقولي ذلك من فضلك. لأنني سوف أبقى هنا إلى أن تخرجي من الماء. أقسم بذلك”.
الصوت: “أقسم بذلك”.
نرجس: “صوتك جميل مثل وجهك. وسأظل هنا أعبدك إلى الأبد”.
الصوت: “إلى الأبد”.
ظل نرجس بجانب الغدير وهو منحني ينظر إلى الوجه على صفحة الماء. ظل ينظر وينظر وينظر. وظل يرجو أن تخرج، ويرجو ويرجو. وهو يسمع صوتها عند كل رجاء.
مرت الأيام، يوما بعد يوم، وليلة بعد ليلة، لا يغادر ولا يأكل ولا يستطيع أن يرى شيئا غير هذا الوجه. ظل هناك إلى أن غرست ساقاه في الطمي بجانب الغدير. فأنبتت جذورا.
طال شعره والتف حول بعضه، ونبتت على جسده الناحل أوراق. وجهه الشاحب وشعره الذهبي، صارا بتلات زهرة النرجس. التي تنمو في شواطئ الأنهار وبجوار الغدران، تميل مع النسيم، فترى انعكاس صورتها على سطح الماء. إذا وقفت إلى جوارها، مع سكون الريح، وناديت، جاء الجواب من صوت إيكو يردد ما تقول.
_____
*ميدل إيست أونلاين