الشعوب والمعنى…


كيف نفهم هذا النوع من الافتقاد؟ ومن يفتقد «ذاته» هل هو قادر على البقاء؟ تقف الشعوب على مسافة مرعبة من ذاتها التي تفتقدها. ومع ذلك هي تواصل الانتماء إلى الإنسانية، كأفق فارغ من الشعوب، يمكن ويحقّ لأيّ شعب أن يدّعي امتلاكه بشكل أو بآخر، كقيمة مضافة. ماذا تضيف الشعوب كي تنتمي إلى الإنسانية؟ مع الافتراض المزعج بأنّ الانتماء إلى الإنسانية هو شكل البقاء الوحيد الذي يحتاجه شعب ما كي لا ينقرض، مثل بقية الأمم الغابرة.

وها إجابة نيتشه: تضيف أهدافا جديدة (!). قال: «لا يستطيع أيّ شعب أن يحيى دون أن يبدأ أوّلا بتقدير الأشياء حقّ قدرها؛ بيد أنّه إذا ما أراد أن يحفظ ذاته، إذن عليه ألاّ يقدّر كما يقدّر جاره».
التقدير هنا هو رسم الحدود بين الخير والشرّ في أفق شعب ما. ومن يقدّر يخترع «سلطة الخير والشر» التي يعوّل عليها شعب ما من أجل حفظ ذاته من التشبّه بأيّ شعب آخر. وحسب نيتشه لا توجد على الأرض سلطة «أقوى من سلطة الخير والشر». إلاّ أنّه علينا التنبيه سريعاً إلى أنّ المشكل لا يتعلق رأساً أو حصراً بأحكام الخير والشر بالمعنى المعياري. ليست الأخلاق هنا بُعدا معياريّا يمكننا عزله، عن السياسة أو عن الدين أو عن العلم مثلا. بل كلّ ما يقدّره شعب ما على أنّه شيء يخصّه أو يحمل توقيعه هو جزء لا يتجزّأ من خريطة الخير والشر في أفقه الروحي. هو جزء لا يتجزّأ من ماهية السلطة في قلبه. لكنّ خطورة هذا النوع الأقصى من السلطة لا يقف عند تقييم الأفعال أو رسم معالم السيرة الحسنة بعامة. بل هي تكمن في أنّ سلطة الخير والشر هي شكل الحياة الذي يشتق منه شعب ما هويته العميقة. ولذلك ليس ثمّة من فواصل وجودية بين الشعوب مثل الاختلاف الأخلاقي. ونعني به خريطة الخير والشر في أفقه باعتبارها تشكّل منطقة الروح التي لا يمكن التفاوض حولها لأيّ سبب من الأسباب الوجيهة. وذلك لأنّه وحده هذا الاختلاف الأخلاقي بين الشعوب هو ما يضمن حدود البقاء لكل شعب على قدر طاقة التقدير التي يتوفّر عليها.
الشعوب والحدود
تبدو هوية كل شعب بمثابة قدرة أخلاقية عميقة على تقدير الحدود التي تفصله عن شعب آخر. ليس الفصل مطلوبا لذاته، لكنّه مرتبط بالقدرة الخاصة على البقاء. من لا يحفظ ذاته العميقة هو يوجد في أفق شعب آخر. وعلينا أن نسأل عندئذ: أين الإنسانية؟ – تبدو الإنسانية بمثابة سياسة حدودية بين الشعوب في نطاق النزاع على سلطة الخير والشر. لكنّ ذلك يعني في واقع الأمر أنّ الشعوب تعمل بلا عالم. أو تتحرك دوما على حدود عالم لا تمتلكه. ليس ثمّة عالم واحد، وإنّما ثمّة جوار متعدد العوالم داخل حدود مفتوحة على إنسانية لا وجود لها. وهكذا بدلا من الارتكاس إلى هوية مغلقة ونهائية، بوصفه غاية لذاتها، يشير نيتشه إلى «ذات» كل شعب وكأنّها شكل من الحياة الذي يؤمّن نوعا مطلوبا من البقاء. الهوية إذن هي سلطة الخير والشر التي اخترعها شعب ما من أجل بقائه، راسما بذلك خطّا أخلاقيا متحرّكا يفصله عن كل الشعوب الأخرى، وخاصة عن «جيرانه».
كلّ شعب آخر هو جار ميتافيزيقي يهدّدنا بقدر معيّن من التماثل معنا. ولذلك يسعى كلّ شعب إلى رسم لوحة قيم تجعله قادرا على العودة إلى ذاته في كل مرة من مسافة ما. هنا نفهم ما يقصده نيتشه بالتقدير: إنّه رسم المسافات بين الشعوب. وهو نمط صعب من فنّ الجوار على أيّ شعب أن يتقنه حتى يفلح في البقاء. البقاء كضرب من حفظ الذات العميقة التي لا يحق لأي شعب آخر أن يشاركه فيها إلاّ عرضاً.
الخير والشر
بهكذا جسارة جارحة بقدر ما يضع نيتشه كلّ أوثان الحداثة موضع سخرية باردة: ليس هناك إنسانية إلاّ بقدر ما يفلح كلّ شعب في أن يخترع سلطة الخير والشر التي يحتاجها للبقاء. وهكذا تبدو كلّ نزعة كونية بمثابة طمأنة للشعوب باعتبارهم أطفالا ميتافيزيقيين بلا أب. ثمّة يُتم أخلاقي يصاحب كل شعب على حدة. وعليه ألاّ يبحث عنه في أفق شعب آخر. من أجل ذلك عليه ألاّ يتردّد في تسمية «أشيائه» بأسمائها.
قال: «كثيرٌ ممّا يُسمّى عند هذا الشعب خيراً، يسمّى عند الآخر هزؤًا وخزياً: كذا وجدت الأمر. كثيراً وجدت يُسمّى هنا شرّاً، وها هنا يزيّنه شرف الأرجوان.
لم يحدث أبداً أن فهِم جارٌ جاره: ونفسُه في عجب دائم من ضلال جاره ومن مكره.
كذا، بدلا من طمأنة الشعوب بأنّ في نمط الكونية الذي تعد به فكرة الإنسانية حظّا أوفر في البقاء، يفضّل نيتشه أن يذهب كل شعب في طريقه إلى ذاته بلا أيّ مساحيق أخلاقية تخفي بالضرورة بشكل أو بآخر ضربا خاصا وأجنبيّا من سلطة الخير والشر.- لكنّ القصد ليس الانخراط في نقد الكونية ولا بالدفاع الهووي عن القوميات المغلقة. إنّ العبرة الفلسفية تقع على صعيد آخر. إنّها ترنو إلى زحزحة الأفق الأخلاقي من التشوّف البائس إلى عالمية «الآخر الكبير» إلى صحبة «الجار» المختلف والذي لا يفهمنا أبدا والمتعجّب منّا على الدوام، كما يتراءى لنا في لوحة القيم التي اخترعها لبقائه.
هدايا ميتافيزيقية
وهنا تبدو الفروق بين الشعوب بمثابة هدايا ميتافيزيقية بين أيّ شعب وآخر. من يقيم على حدود أنفسنا هو رحمة هووية غير مباشرة. هو يعلّمنا من حيث لا يحتسب أنّنا لوحة قيم من نوع خاص. وعلينا أن نمضي في التوقيع تحت أنفسنا العميقة دونما حياء يُذكر، نعني دونما أيّ حرج «كوني» من خصوصيتنا المزعجة. وهكذا فإنّ بيت الداء في أيّ نقاش هووي ليس يكمن إذن في خطر الانغلاق فقط، كما أنّ الحلّ ليس بالضرورة هو النزعة الكونية فقط. لا تموت أيّ هوية إلاّ من الداخل، نعني عندما يتوقف شعب ما عن اختراع سلطة الخير والشر في ذاته العميقة؛ كذلك، فإنّ أيّ نزعة كونية هي محكوم عليها بأن تظلّ وعدا مثيرا للاشمئزاز في أفق أيّ شعب بصحة ميتافيزيقية جيدة، نعني لم ينقطع يوماً عن مزاولة حقّه الأبدي في تقدير الأشياء في الكون بكلّ حرية.
ما فعله نيتشه فلسفيّا هو نقل المشكل من نطاق سجال المحدثين عن الكونية من خلال فكرة الإنسانية الواحدة والموحدة – إنسانية الفرد – الكوجيطو – المتملك – المواطن – العالمي/ المخترع الأوروبي الفظيع – إلى أفق أسئلة الحياة الحرة، التي لا تريد أكثر من بقائها. ولذلك فالتعويل على «الشعوب» بدلا من التعويل على «المنوّرين المحدثين»- هو قرار جنيالوجي وليس ألقاً أسلوبيّاً. جنيالوجي: أن نبحث عن مصادر أنفسنا في مكان آخر. وبهذا المعنى فقط هو امتحان لشكل الحياة التي اخترعتها الشعوب الحديثة، وليس تبشيرا بأيّ هوية تنويرية جازة لتعمير الأرض بعالم حاقد وباسم إنسانية جاهزة للاستعمال مثل «قُنية» أخلاقية تحت الطلب. ولكن كيف ؟
قال نيتشه: «لوحة الحسنات معلّقة على باب كلّ شعب. انظر، إنّها لوحة انتصاراته؛ انظر، إنّها صوت إرادة الاقتدار التي تخصّه. جدير بالثناء ما يراه صعباً؛ والمحتوم والصعب هو ما يسمّيه خيراً؛ وما يحرّره من العناء الأكثر، النادر والأصعب – ذلك هو المقدّس الذي يسبّح بحمده».
يريد: على الشعوب ألاّ تبحث عن مصادر ذاتها خارج قيمها. تحت كل قيمة مهما كانت جزئية أو جانبية، يرقد تاريخ أخلاقي، علينا إيقاظه بالطريقة التي تليق به. إنّ الماضي جهاز كسول متلفّت عنّا بلا رجعة. لكنّ القيم التي جعلته ممكنا هي شوط آخر من المسألة. ومن ثمّ علينا أن نتمرّن على الفصل الأخلاقي بين ماضينا وبين مصادر أنفسنا، نعني بين الهوية وشكل الحياة. لا يمكن ولا يحق لأيّ شعب أن يشرّع لنفسه فيما أبعد من فضائله، نعني ما وراء أفقه الأخلاقي. لكنّ الأخلاق ليست قيما موروثة بالضرورة. بل هي: جملة أشكال الحياة التي يستطيعها شعب ما يتمتع بصحة ميتافيزيقية جيّدة، نعني قادرة على اختراع قيمه بنفسه في كل مرة.
لوحة الحسنات
الأخلاق العميقة هي لوحة الحسنات التي أقام عليها شعب حرّ قدرته على البقاء. ولذلك كلّ حسنة لديه هي مشتقة سلفا من معركة: لا فاصل بين لوحة الحسنات ولوحة الانتصارات أو معارك مجاوزة الذات في أعماق شعب كبير. نعني بين الحقيقة والاقتدار. لكنّ الاقتدار ليس القوة. إنّه فن تقييم الحياة حسب مقاييس حرّة: من قبيل «الجدير بالثناء» و«الصعب» و«المحتوم» و«النادر» و«الأصعب» وأخيرا «المقدّس» في أفق ذات ما. ثمّة هنا تدّرج رشيق في تربية الحياة كحيوان ذاتي تحت جلد شعب حقيقي: شعب قادر على الصعب والنادر والمقدّس باعتبارها معايير البقاء الميتافيزيقي، نعني كشكل من أشكال الإنسانية. ومن ثمّ هو قادر على إعادة تقدير الأشياء في قلبه ومن حوله. إنّ الانتصار الأقصى لشعب ما هو حسب نيتشه في تحويل لوحة قيمه إلى تحدّ استثنائي لبقية أعضاء الإنسانية، وليس في فرضها عليها باسم أيّ نوع من العالمية.
وعلينا أن ننبّه بشكل خاصة إلى ماهية «الانتصارات» التي تتكرّر تحت قلم نيتشه: إنّها من طبيعة أخلاقية محضة. بل إنّ اللفظة الألمانية المستعملة في النص الأصلي هي تشير إلى شيء من قبيل «التجاوز» أو «التغلب» أو «الشفاء». من ينتصر لا يفعل سوى أن يتجاوز ذاته القديمة أو لا يفعل سوى أن يتغلّب على ذاته الحاضرة. ليست «الذات» غير شكل أنفسنا في حياة ما. ولذلك فالشعوب، متى كانت هي الذوات الوحيدة القادرة على البقاء (وهذا رأي نيتشه)، هي لا تنجح في البقاء إلاّ بقدر قدرتها على التضحية بنفسها حسب مقادير دقيقة. لكنّها لا تفعل ذلك إلاّ بفضل فنّ استثنائي تنفرد به عن بقية الشعوب المعاصرة لها: فنّ شفاء النفس بسلطة الخير والشرّ التي اخترعتها.
قال: «كلّ ما من شأنه أن يجعله يسود وينتصر ويتألّق، وأن يملأ جاره رعباً وحسداً: ذاك عنده هو الأسمى، الأوّل، القدر الكامل، ومعنى الأشياء كلّها.
الحقّ أقول لك يا أخي، إنْ أنت عرفت فقط عناءَ شعبٍ ما وبلدَه وسمائه وجارَه: فقد حزرت قانون انتصاراته، ولماذا هو يصّاعد على هذا السلّم نحو آماله».
_______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *