*سمير غريب
كلما شاهدتُ إبداعاً جديداً تساءلتُ: إلى أين تأخذنا رحلة الخيال الإنساني؟ كنتُ أتمشى أمام مركز جورج بومبيدو الثقافي الفريد الضخم في قلب باريس قبل أشهر عندما شاهدتُ فجأة تمثالاً نحاسياً لرجل يجلس واضعاً ساقاً على ساق. هذا عادي، لكن المدهش أنه لم يكن تمثالاً جماداً، لكنه كان تمثالاً حياً. الأكثر إدهاشاً أنه بدا جالساً في فراغ بلا مقعد تحته ولا مسند خلف ظهره. فقط يرتكز بكف يده اليسرى على عصا مثبتة على قاعدة التمثال. فهل هي كافية لحمل وزنه وتوازنه؟ كدت أقطع عليه جلسته وأزعجه بسؤالي حول كيف يجلس بلا مقعد ولم أفعل. مشيت وأخذت أتذكر بدايات هذه الظاهرة في أوائل الألفية الحالية أثناء إقامتي في روما. لكنها كانت لفتيات أو شبان يتخذون شخصيات تاريخية فرعونية أو رومانية أو غيرهما ويقفون صامتين بلا حراك طلباً للمال. اعتبرتُها نوعاً من التجديد في طرق التسول.
مُذاك الوقت اهتممت بهذه الظاهرة وتابعتها، فوجدت الواقع تغير والخيال فيها تطور حتى نشأ فن تشكيلي جديد هو فن «التماثيل الحية»: الوقوف بسكون طوال الوقت الذي يستطيع الفنان تحمل السكون فيه فتشعر أنه تمثال جامد بالفعل، أو الوقوف بسكون لفترة ثم التحرك فجأة، فتصعق من مفاجأة بعث الحياة في التمثال. لم يعد هذا الفن حالات فردية. خرج من نطاق التسول. أصبح له مسابقات عامة في مدن أوروبية عدة. منها مسابقة تقام ليوم واحد في الهواء الطلق في منطقة أرمينهايم الهولندية. في كانون الأول (ديسمبر) الماضي شارك في هذه المسابقة للتماثيل الحية فنانون من 24 بلداً لعرض أعمالهم، أي لعرض أنفسهم. فاز فيها ثلاثة منهم بالجوائز الأولى، وهي جوائز مالية تبدأ بألفي يورو. جاء باتريك فان هورن من بلجيكا ليشارك للمرة الثانية في المسابقة. نحو خمسين يوماً في السنة يقف كتمثال حي. فاز في مسابقة أخرى في بلجيكا للتماثيل الحية. هو يصمم بنفسه معظم الأزياء التي يستخدمها كتمثال. في مقر المسابقة هناك مكان كبير لتغيير الملابس والمكياج. من المشاركين فيها ثنائيات ومجموعات. تمنح لجنة تحكيم ثلاثية الجوائز من طريق وضع نقاط لكل تمثال حي، كما للجمهور نسبة 50 في المئة لتحديد الفائز. تضع اللجنة في اعتبارها طريقة التصميم ونوعية الماكياج والأزياء وطريقة تفاعل الجمهور. وهناك من يفضل تفاعل التمثال الحي مع الناس. قبل منح الجوائز تصعد كل التماثيل الحية على المنصة، في ما يشبه الاستعراض. لا يقوم التمثال الحي على الملابس والمكياج واتخاذ وضع التمثال الصامت فقط، بل على الفكرة أولاً. من ثم يكون التحدي الأصعب للتمثال الحي هو العثور على فكرة مبتكرة لا يقلد فيها آخر. هناك من يموّه نفسه بأغصان وفروع وأوراق كي يظنّه الناس شجرة. والخوف أن يمد أحد المارين يده ليعبث بها! هناك من يصنع لنفسه قالباً لتمثال خشبي يدخل فيه فلا يعرف أحد أن داخل التمثال إنسان!
يمكن اعتبار التماثيل الحية أحدث فروع «فن الجسد التشكيلي» ومنه «بيرفورمانس»، أي فن الأداء، والرسم على الجسد. وهذا غير «التشكيل بالجسد»، وهو من الفنون التعبيرية كالباليه والرقص المعاصر. في الوقت نفسه يمكن أيضاً اعتبار التماثيل الحية أحدث أنواع فنون الشارع التشكيلية والتي كان اسمها في القرون السابقة «الفن العام». الفن العام إجمالاً يطلق على الأعمال الفنية في الفراغ العام المتاحة رؤيتها لكل الناس بلا حواجز. العمارة نفسها، أم الفنون، هي أقدم أعمال الفن العام بطبيعة الحال، وأقدم العمارة الفنية هي العمارة الدينية. ثم ظهر النحت وبدأ بالتماثيل في الحضارات القديمة الفرعونية واليونانية والرومانية وغيرها. أضيفت إليها النوافير أو أحواض المياه، وأصبحت التماثيل والنوافير تقليداً من تقاليد الفن العام. مع ظهور الاتجاهات الحديثة والمعاصرة في الفن في القرن العشرين تغيرت أشكال الفن العام وظهر مصطلح «المجسَّم»، ويعني أي شكل بثلاثة أبعاد من أي خامة. لم تعد الشوارع والميادين والحدائق وحدها أماكن للفن العام. ذهب إلى شواطئ البحار والمحيطات بل وأدخل الفنان فيه تكنولوجيا ضمن إبداعاته كما نرى في وحوش الشاطئ: كائنات تبدو وكأنها من كوكب آخر. فعندما تهب الرياح على شواطئ بحر الشمال الهولندية تدب فيها الحياة وتبدأ بالحركة. مبتكرها هو الفنان الهولندي تيو يانسن. تندهش عندما ترى الفنان ابن 66 سنة وهو يجر وراءه مجسمات كبيرة أو هياكل ضخمة لحيوانات أو حشرات أبدعها. صنعها من حبال وأسلاك ومواسير خطوط كهرباء بلاستيكية. تندهش أكثر عندما تسمعه يقول إنه لا يشعر بنفسه فناناً، ربما كمخلوق فضائي أو من الإسكيمو! بدأ تشكيل كائناته أو وحوشه عام 1990. تابع العمل بهذه المواد حتى أدمنها، مطوراً مجسماته بخلق سيقان وأذرع وعمود فقري. كما الحال في السفن الشراعية، تتحرك هذه الأجسام عند هبوب الرياح. في الوقت نفسه تخزن الأنابيب الرياح داخلها، ووضع فيها مجسات مبرمجة تمنع حركتها تجاه البحر فتبدو ذات ذكاء اصطناعي. يريد يانسن إيجاد طبيعة جديدة وليس تقليد الطبيعة نفسها. كما لا يهمه أن تكون الأشكال جميلة، فالشكل هنا وظيفته العمل فقط. صمم الفنان أشكالاً مختلفة من وحوش الشاطئ طيلة 24 عاماً ولا يزال، فقد تحولت وحوشه إلى هوس خاص به.
صعد الفن العام على التلال والجبال مثلما وضع النحات البريطاني أنتوني جورملي منحوتاته في مراكز المدن وفي الطبيعة، كما فعل على جبال الألب النمساوية عام 2010. تبدو أعماله عن قُرب ككتل فولاذية غير مترابطة موجودة في فراغ. عند النظر مِن بُعد يتضح شكل العمل النحتي الضخم المسمى «خسارة»، وهو كمعظم أعماله النحتية الضخمة لا تكتسب صورتها الكاملة إلا برؤيتها من بُعد. هو عمل يخاطب المستقبل بتقديم صورة لحياتنا الحالية. يحاول الفنان أن يضع المشاهد لعمله أمام ذاته. ركز جورملي في العقود الأخيرة على الشكل البشري، على العكس من معظم الاتجاهات السائدة في تلك العقود مثل التجريدية. بل ركز على جسده هو نفسه. وعرض نماذج مصبوبة لجسده في أماكن مختلفة من العالم.
مع ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968 بدأ ينتشر فن الغرافيتي أو الرسم على الجدران في الفراغ العام. أصبح يقوم به شبان ليس شرطاً أن يكونوا فنانين أو دارسين للفن. ومع الغرافيتي ظهر مصطلح «فن الشارع». بما يعني بالطبع أنه فن أكثر اقتراباً من الجمهور العادي، أو «رجل الشارع». هناك علاقة وثيقة بين فن الشارع وكل من الأوضاع الثقافية والسياسية والاجتماعية في محيط الفن. لا يمكن لي هنا أن أدخل في التفاصيل. يهمني التركيز على انفتاح الباب لفن الشارع حتى تلاشى أمام خيال غير محدود. كما سنرى في الأمثلة القليلة الآتية. بدأ فن الغرافيتي في أوروبا من طريق فنانين شبان يقومون بالتسلل ليلاً لرسم الجدران والتعبير عن أفكارهم. وما زال الغرافيتي يحتاج إلى تصاريح رسمية ويتم تجريمه بغيرها في أماكن كثيرة. مع توالي الأحداث السياسية وغيرها في بلدان العالم بدأ فنانو الغرافيتي من خلال مشاركتهم في هذه الأحداث الظهور في وضح النهار، بل وأخذت مؤسسات أهلية ومنظمات حكومية تشجعهم وتنظم لهم فعاليات خاصة على الجدران في الفراغات العامة. إبداعات الغرافيتي لا تعرف لها حدوداً. ابتدع الفنان الألماني تيم أوسيج طريقة جديدة للرسم على الجدران. لا يستخدم الألوان في الرسم كما يفعل فنانو الغرافيتي. بل ينظفها فقط مستخدماً الغاز المضغوط. يبدأ أعماله في المنزل على جهاز الكمبيوتر بواسطة طابعة خاصة. يضغط النماذج التي يصممها ليحولها إلى قالب من البلاستيك. يضعه على الجزء الذي ينظفه من الجدار من دون تلوين. يعشق رسم أشكال الناس محاولاً إبراز العيون ويحاول اختيار الرسوم التي تعكس أفكاراً نقدية أثناء التمعن فيها. النتيجة نجد رسوماً معبرة على أجزاء نظيفة من الجدار يجاورها أجزاء غير نظيفة تركها الفنان كما هي. من هذا التناقض بين الرسوم على أجزاء نظيفة وبين المسطحات المجاورة على أجزاء قذرة يخلق الفنان تأثيره الغرافيتي الذي تميز به، لينعش فن الغرافيتي في العالم.
فن الشارع غرائب بالنسبة إلى الجمهور العادي، أما بالنسبة إلى فنانيه فلم يعد هناك ما هو غريب. من ذلك مثلاً رسم الفنان البرتغالي آرتور بوردالو صوره الملونة على قضبان السكك الحديد في العاصمة لشبونة، ومنها صورة تعبر عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي! رأيت صوره فور تلوينها، ولم أرها بعد أن مرت عليها عجلات القطارات، فهل أبقت على ألوانها؟ في البرازيل رسم الفنان أندرسون أوغستو على أغطية المجاري وجوها ضاحكة ملونة! أما فنانة الشوارع نيسبوون فنفذت نماذج من دانتيل قديمة لتجميل المدينة في مسقط رأسها في العاصمة البولندية وارسو. تزين أعمالها الكثير من الشوارع. تضعها على حوائط أو حتى على قوارب، أو تعلقها بخيوط بين أعمدة. تبدو مثل أغطية الموائد المنشورة. تستلهم أعمالها من الحرف اليدوية، وتذهب إلى بيتها لتنسجها من خيوط الدانتيل وهو بدوره فن يدوي صعب. أحياناً تنقل نموذج دانتيل على طين باستخدام أدوات خاصة وعيدان خشبية، وتلصق الطين على جزء متهدم من جدار لتصنع بهذا «دانتيلاً طينياً» يدهش المشاهد حيث لا يتوقع.
من فن الشارع ما يرسمه فنانون على الأرصفة، أو حتى على نهر الشارع من رسوم بالطباشير الملون طلباً للمال. وهم في ذلك أمثال التماثيل الحية والعازفين الجوالين وغيرهم. وأصبح لفن الشارع مهرجانات ومواقع إلكترونية ووسائل إعلام أيضاً. لابد أن تعود بي الذاكرة وأنا أتحدث عن فن الشارع إلى «مقهى فولتير» في مدينة زيورخ حيث أطلق تريستان تزارا، في 14 تموز (يوليو) 1916 حركة «دادا» وأعلن في بيانها: «لقد فقدنا الثقة في ثقافتنا. كل شيء يجب أن يهدم. سنبدأ من جديد بعد أن نمحو كل شيء». فكل فنون الشارع هي سليلة الدادا في شكل أو آخر. في النهاية لا تسأل عن فن الشارع في العالم العربي لأنه لم يعد هناك شوارع أصلاً في نصف هذا العالم تقريباً، والنصف الآخر يصارع الناس فيه سبل العيش وتبعات ما سمي «الربيع العربي». حتى الغرافيك الذي ميَّز هذا الربيع في مصر مسحوه.
____
*الحياة