*محمد علي صالح
مؤخرا، قال تقرير أميركي إن السرقات الأدبية في عصر الإنترنت تضاعفت ألف مرة بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل الإنترنت، وإن تكنولوجيا «كوبي آند بيست» (انسخ والصق) صارت مشكلة حقيقية في عالم التأليف والنشر، ليس فقط بالنسبة لمؤلفي الكتب، ولكن أيضا بالنسبة لأبحاث الأطباء والمهندسين، وتقارير الصحافيين، وخطب السياسيين (في الحقيقة، الذين يكتبون خطب السياسيين).
وظهرت كلمة جديدة، هي «بلاغيارنت» (سرقات الإنترنت، من كلمتي «إنترنت» و«بلاغياريزم» أي الانتحال). لكن، قالت التقرير إنه، في الوقت نفسه، ظهر من يقول إن ما يحدث في الإنترنت ليس «سرقة»، ولكنه «اقتباس». ومؤخرا، ظهرت كلمة «أغريغيشن» (تجميع).
من بين الذين جادلوا في هذا الموضوع مارك فيشار، صحافي في صحيفة «واشنطن بوست». يقول: «حسب القاموس، كلمة (بلاغياريزم) تعنى (سرقة أدبية) و(اقتباس) و(انتحال) و(استلاف)». ويضيف: «تبدأ كل الأفكار الإنسانية من شخص وتنتقل إلى شخص، عمدا، أو بغير عمد. ليست كل الأفكار الإنسانية إلا اقتباسا من اقتباس من اقتباس». وذكر أنه «اقتبس» هذه الجملة من جوناثان ليثام، رئيس تحرير مجلة «هاربر» الأدبية، وأن ليثام «اقتبسها» من مارك توين، الروائي الأميركي الشهير.
وتهكما على الموضوع نفسه، نشرت «كولومبيا جورناليزم ريفيو» (دورية كلية الصحافة في جامعة كولومبيا، في نيويورك) فقرات من أغنية توم ليرار، وهو مغن أميركي صاحب أغان ساخرة من المجتمع الأميركي، يقول فيها: «عيناك عيناك.. إن الله الكريم خلق لك عينين لتنظرا وتقرآ. اقتبس، اقتبس، اقتبس.. لكن، اكتب أنه بحث علمي».
إذن، ماذا حدث للنزاهة؟
يجيب صحافي «واشنطن بوست»: «ليس الاقتباس سرقة. ليس الاقتباس عيبا إذا قلت من هو الذي اقتبست منه». لكن الوضع المثالي هو الاستئذان كتابة من الذي اقتبست منه. وفي عصر السرعة والإنترنت، يكفي أن تقول ممن اقتبست، ومن أي كتاب، أو بحث، أو تقرير.
الحقيقة هي أن الجيل الجديد، جيل الإنترنت، لم يعد يكتب كتابات أصلية مثلما كانت تفعل الأجبال السابقة، وذلك لأكثر من سبب: أولا: توافر ملايين المعلومات. ثانيا: سهولة الوصول إليها (ونسخها، ولصقها). ثالثا: تغير فلسفة التعليم.
عن هذه النقطة الأخيرة، تقول سوزان دراكار، الأستاذة في جامعة هوفسترا (ولاية نيويورك): «يؤمن طلابي في قسم الدراسات العليا بأن ما يسمى (اقتباسا) ليس إلا (سرقة). لكن طلابي في الفصول الأولية يؤمنون بأنه ليست هناك سرقة في عصر الإنترنت». وتضيف: «إن التكنولوجيا الحديثة غيرت فلسفة التعليم، بداية بالآلة الحاسبة، فقد اختفت جداول الضرب والجمع والطرح من المدارس الأولية. واختفت خرائط الحائط، والقواميس الثقيلة، ورسومات الكواكب والمجرات، وخسوف الشمس، وكسوف القمر. بالنسبة لجيلي، هذه هي أساسيات التعليم. لكن، بالنسبة لجيل أبنائي وبناتي يوجد كل شيء في التليفون. لم يعد التليفون مصدر معلومات فقط، بل يربطها مع بعضها البعض. يربط معلومة مع خريطة، مع رسم بياني، مع منزلك، مع مكان السيارة التي تقودها».
وعن هذه النقطة نفسها، يكتب صحافي في «واشنطن بوست»: «لنفكر بتفكير جيل الإنترنت. يريد الإنترنت أن يفيدنا، ويسهل بحثنا عن المعلومات». ويلاحظ هذا الصحافي اختفاء عبارات مثل: «سأسرق فقرتين أو ثلاث فقرات من الكتاب الفلاني»، وظهور عبارات مثل: «سأستفيد من الكتاب الفلاني بنقل فقرتين أو ثلاث فقرات», وهو يرى أنه: «عندما تتغير اللغة، تتغير قيمتها الأخلاقية».
حتى قبل الإنترنت، كان الخبر يتكون من جزءين: جزء جديد (الفقرات الأولى)، وجزء قديم (الخلفية). مثل: «الجدير بالذكر» و«في الأسبوع الماضي» و«في العام الماضي». هذه، في الحقيقة، معلومات مكررة. وفي عصر الإنترنت، صارت إضافة «الخلفية» أسهل وأكثر. يمكن أن تكون سرقة، لكنها لم تعد سرقة. ويقول جوناثان بيلي، رئيس تحرير موقع «بلاغياريزم توداي» (السرقة الأدبية اليوم): «بدلا عن السرقة الأدبية، ظهرت كلمة أغريغيشن (تجميع). بطريقة كوبي آند بيست (انسخ والصق)، وصار كل شخص يجمع فقرة من هنا، وفقرة من هناك، ثم يكتب اسمه عليها. هناك كتب، وأبحاث، وروايات، ليست إلا تجميعات من كتب، وأبحاث وروايات». وقال إن تجميع الروايات الخيالية أسهل. وذلك لأنه لا يتضمن معلومات معينة (يمكن أن تتابع وتوثق). لكنه يجمع أوصافا خيالية (مناظر طبيعية، لأحاسيس نفسية، لأوضاع غرامية، لجريمة بشعة، إلخ..).
لماذا لا تراقب دور النشر ودور الصحف ظاهرة «التجميع» هذه؟ أجاب بيلي: «أولا: لأن مراقبتها أصعب من مراقبة السرقة الأدبية. وثانيا، لأن متابعتها ستوقف صناعة النشر، ومن يريد وقف مصدر ربحه؟».
جاءت كلمة «أغريغيشن» من نظريات اقتصادية واسعة الاستعمال عن مختلف العوامل التي تؤثر عن وضع اقتصادي معين. ومنها عبارة «أغريغيشن بروبلم» (مشكلة التجميع). مثل حساب «أبلز آند أورانجز» (حساب تفاح وبرتقال).
طبعا، التجميع الأدبي أسهل، لأنه تجميع كتابات في الإنترنت. وكما قال صحافي في «واشنطن بوست»، هم الإنترنت الأول هو توفير المعلومات والكتابات والصور والفيديوهات.
ومؤخرا، ظهرت على الإنترنت مواقع تجمع هذه الأشياء، وتعتمد على تكنولوجيا بنفس الاسم، «أغريغيشن»، تجمع كلمات أو عبارات معينة من أي مكان. مثل: أخبار عن طائرات «درون»، أو معلومات عن «مسرح العبث»، أو قصائد عن «غروب الشمس»، ويستفيد منها الشخص الذي يريد أن يكتب تقريرا خبريا، أو يقدم دراسة أدبية، أو حتى يؤلف قصيدة.
كتب عن هذا الموضوع لورنس ليسنغ، أستاذ قانون في جامعة هارفارد، في كتابه «الثقافة الحرة». وقال فيه: «يجب ألا نساوي بين الذي يسرق فقرة، والذي يسرق بنكا». وأضاف: «ليس المال مثل الفكر. المال سيئ النية، والفكر حسن النية. عندما أستعمل عبارات كتبتها، فإنني لست مثل من يسرق محفظة نقودك».
وليبرهن على نظرية «الثقافة الحرة» هذه، «اقتبس» (أو هل سرق؟) من الرئيس الأميركي الثالث توماس جيفرسون قوله: «الذي يستعمل أفكاري لا يقلل من شأني، مثل الذي يوقد شمعته من شمعتي».
ويسأل ليسنغ: «لماذا ننتقد سرقة كلمات وعبارات، ولا ننتقد سرقة أفكار. وفلسفة جيفرسون تثبت ذلك: (تفضل، واسرق ضوء شمعتي، لكن، أرجوك ألا تسرق الشمعة)».
_______
*الشرق الأوسط