فصولٌ من سيرة كولن ويلسون(17)


*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

لم يكنِ العملُ في محلّ لويس باعثاً على الإشمئزاز ، و عندما ذهبتُ للمحلّ أوّل مرّة سألَني المديرُ بضعة أسئلةٍ بما يشبهُ الإستجواب و بدا غير مطمئنٍّ لرجلٍ جوّابٍ مثلي و لكنّه قبل بتوظيفي على أساسٍ مؤقّت لفترة أعياد الميلاد فحسبُ ، و ماساهم في ظهوري بمظهرٍ يعوزه الاحترام هو عدمُ إرتدائي بدلةً مناسبةً عندما ذهبْتُ لتسلّم العمل ولكن حصل و بدأتُ عملي في قسم السجّاد و انغمسنا في عمل متواصل طيلة أيّام الأعياد ، و كانت مكبّرات الصوت لا تنفكّ تطربُنا بأغاني عيد الميلاد طيلة اليوم ، و أعجبَني زملائي العاملون في القسم معي . أمضيْتُ يومي الأوّل من العمل في غرفةً للتدريب تقعُ أعلى المبنى و مضيْتُ أتدرّبُ على كيفيّة تثبيت الأسعار على الجهاز و كان معي اثنان من المتدرّبين : الأوّل شابّ عادي المظهر نسيتهُ تماماً أمّا الثاني فكان ضابطاً من ضبّاط الجيش يدعى ( مارتن هاليداي ) و كانت له ملامحُ حادّة التقاطيع و شعرٌ أشقر قصير و كان يتحدّثُ بلكنة تلاميذ المدارس العامّة . 

وجدْتُ الفتاة الّتي كانت مكلّفةً بتدريبنا هائلة الجاذبيّة و الإثارة ، و بدت لي بطريقةٍ غامضة كما لو كانت تشبهُ بيتي و لو أنّ وجهها البيضويّ ذكّرَني بماري على الفور ، و لم يكن وجهُها جميلاً و بخاصّة في بروفايله الجانبيّ و بالّتحديد عندما لم تكن تبتسم ، و كانت ملامحها القويّة تتركّزُ في عينيْها و ابتسامتها ، و أعجبْتُ كثيراً بصوتها الّذي كان ناعماً رقيقاً متحرّراً من أيّة لكنةٍ ليستريّة و لكن كان له في الوقْت ذاته نفسُ الغنج الأنيق الّذي يَسِمُ لكنة النساء المتكلّفات المنتميات للطبقات الإجتماعيّة العُليا . كنتُ أكثر اهتماماً بمراقبة الفتاة والتدقيق بملامحها بدلا من الإنصات إلى تعليماتها بشأن آلة تسجيل الأسعار : كانت الفتاة نحيفةً و أطْولَ من الفتيات الأخريات وَكانت لا تتعبُ من التحرّك برشاقةٍ طول الوقت ،و أتذكّرُ أنّني رأيْتُ خاتم زواج في إصبعِها فخطَر ببالي على الفور حجم المتعة اّلّتي كانت خليقةً بمنحِها لزوْجها ، و كانت السيّدة المشرفةُ على التدريب تناديها باسم ( مس ستيوارت ) و لم يكن هذا يعني شيئاً لأنّ التقليد المتّبع كان أن تُخاطب كلّ الفتيات بمفردة ( مس Miss ) . تناولْتُ الغداء مع هاليداي وقت الاستراحة في مطعم العاملين ، و وجدْتُ الرّجل مثيراً للاهتمام : فقد أمضى الرّجل ثلاث سنواتٍ في الجيش بعد إكمال تدريباته العسكريّة في ساندهرست ، و كان يحبُّ الجيش حبّاً يفوقُ الوصف و كانت فكرة النظام الصارم تروقه كثيراً و يرى في المدنيّين محض كائناتٍ تعيشُ وسط الفوضى المُطلقة ( عندما كان يحكي هذا لبث يحملق باستنكار في ذقني غير المحلوقة ذلك الصّباح !! ) ، و كان يرى في الحياة المدنيّة حياةً رخوة تكادُ تخلو من التحدّيات إلى درجةٍ مزعجة ، و عندما تناولْنا بالحديث أمرَ مُدرّبتنا الشابّة أخبرني هاليداي أنّ اسمها ( جوي ) و أنّها صديقةٌ لمدرّبةٍ شابّة أخرى تدعى ( بات Pat ) كان يحاوِلُ إغواءها ، و أنّ جوي لم تكن متزوّجةً بل كانت مخطوبة لشابّ كانت تدرسُ معه في الجّامعة و كانا يخطّطان للزواج سريعاً بعد رحيلهِما المرتقب إلى كندا .
عندما إنتهيْنا من العمل مساءً اقترح هاليداي أن نتناول شيئاً ، و لم يكن معي ما يكفي من النقود سوى لتناول قدحيْن من البيرة فذهبْنا إلى الفندق المقابل لمحلّ لويس وهناك إحتسيْنا البيرة و بانت علائم السعادة و الاسترخاء عليْنا . و طلب هاليداي إليّ أن أدعوه ( فلاكس ) و كان من الواضح أنّ اسم التدليل هذا يشيرُ بشكلٍ ما إلى لون شعره الأشقر ، ثمّ طلب فلاكس كأسيْن من الويسكي و سرعان ما نشأ نوعٌ من صراع ( إرادات القوى ) بيننا : وافقْتُ فلاكس على أنّ النّظام شيء عظيمُ الأهمّية و لكنّي أظهرْتُ في الوقت ذاته رفضي الحاسم للقوّات المسلّحة و لكلّ ما يتعلّقُ بها ، فالنّوعُ الوحيدُ من النّظام الّذي يهمُّني حقّاً – و الّذي يمكنُ أن يُعتَدَّ به بالكامل – هو النّظام الذاتيّ الّذي يفرضُهُ الأفراد المُخلصون على أنفسهم ، و كان تي. إي. لورنس قد أثبت من قبلُ أنّ الإرادة الذهنيّة للقوّة يمكنُ تجسيدُها في نتائج مادّية ملموسة على عكس الإرادة الجسمانيّة للقوّة الّتي لها سقف محدّدٌ لا يمكنُ أن تتجاوزه ، و من جانبه لم يتّفق فلاكس معي على الإطلاق و أبدى ملاحظة قاطعةً تفيدُ بأنّهُ لم يلتقِ أبداً بمثقّفٍ لم يكنْ خائر العزيمة و واهناً إلى درجةٍ مُريعة . رأيْتُ في تصوّر فلاكس عن القوّة شيئاً مثيراً للاهتمام ، و راح الرجلُ يُبدي ملاحظاتٍ أخرى و نحنُ نتناولُ ساندويتشاتٍ دفع هو ثمنها ، فأفاد بأنّ بعض ضبّاط الجيش من أبناء الأغنياء و ذوي الألقاب و النياشين و الرّتب كان يبدو عليهم أنّهم يُصدِرون الأوامر بطريقة تلقائيّة و دون أيّ مجهود كمن اعتاد عليها إلى حدّ أنّها صارت تقليداً راسخاً في حياته ، و في المُقابل فإنّهم كانوا يحظوْن بالطاعة لا لشيء إلّا لأنّهم كانوا يروْن طاعتهم من قبيل المسلّمات المحسومة التي لا تجوز مناقشتها . و بالفعل اختبرْتُ أحد الأيّام كيف صاح ابنُ أحد الدوقات ” هاليداي ، هات المزيد من المشروبات ” فما كان منه إلّا أن راح و جاء بالمشروبات المطلوبة من غير أن يبدو عليه أنّ طريقة الطّلب كانت بعيدة عن التهذيب و الّلياقة و أنّ المُفترض فيه أن يُبدي شيئاً من إمارات الرفض و الامتعاض . كان فلاكس ذكيّاً و لم أشكَّ للحظةٍ في هذا ، وَعندما أخبرْتهُ أنّ الوجود المادّي يمتاز بالجّدب و التكرار الباعث على الملل و أنّ قوّة الشّغف العقليّ هي وحدها الّتي تترُكُ بصمةً خالدة على الوجود الإنسانيّ راح الرّجل يحكي لي جوانب مُسهبةً عن نظريّته الميتافيزيقيّة الخاصّة بالوجود الإنسانيّ : فهو يرى أنّ الخبرة الإنسانيّة لا تتبدّد ، و أنّ ثمّة حاسبٌ كونيٌّ يعملُ على تسجيل تفاصيل كلّ طفرةٍ إرتقائيّة يُنجِزُها أيُّ كائنٍ حيٍّ ، و أنّ هذا الجهاز (الحاسب الكونيّ) قد يكونُ ما تواضع المتصوّفةُ على تسميته ” الله ” ، وَ رأيْتُ في كلام فلاكس شكلاً فريداً من أشكال المثاليّة الّتي تقومُ على فكرةٍ أساسيّة واحدة . اقترح فلاكس أن نعود إلى شقّته في منطقة نيوووك New Walk القريبة من ليستر لتناول المزيد من البيرة و تناول الشّطائر ، و مضى فلاكس في شرح نظريّته عن القوّة : كانت فكرتُهُ أنّ القوّة هي ما تشدُّ أواصر المجتمع الواهنة بعضها إلى بعض ، و أنّ هذه الإرادة ذات طبيعةٍ ميتافيزيقيّةٍ في جوْهرها ، وجاء بهتلر كمثالٍ على صحّة إعتقاده ثمّ أعطاني في النّهاية نسخةً من كتاب ( كفاحي Mein Kampf ) ممْهورةً بإهدائه ” من هاليداي إلى ويلسون ” ، و أضاف فلاكس بأنّه يرى أنّ المجتمع المُعاصر يقومُ على أسسٍ متعفّنة طالما أنّ حضارتنا لاتقدِّمُ ما يكفي من التحدّيات المناسبة لأصْحاب القوّة و العزيمة من الرّجال ، و أنّ الكائن البشريّ لا يمكنُ أن يرتقي إلّا من خلال سلسلةٍ من التحدّيات المتعاقبة مثل درجات السّلالم . إمتدّت مناقشاتُنا بشأن موضوعة إرادة القوّة إلى مناقشة الجنس أيضاً ، و هو الموضوعُ الّذي كان يُسحرُهُ على الدّوام . قال فلاكس أنّ الذّكر المُعافى هو حصانُ تكثيرٍ للجنس البشريّ بطبيعته ( و هي ذات الجزئيّة الّتي كان بيل هوبكينز يلتقي فيها مع فلاكس ) ، و أنّ لدى النساء سحراً و إغواءً يُداعبُ أعمق أوتار الرّغبة الذّكوريّة في الغزو و الانتصار !! ( و كنتُ أنا قد جعلْتُ يسوع في أحد أعمالي يتساءلُ ” و ما عساها تكونُ الحياةُ من غير غزوٍ و انتصار ؟ ” ، و كان فلاكس يرى أنْ ما مِنْ أحدٍ من الكُتّاب كتب عن هذه الجزئيّة في الجّنس بأمانة – و لا حتّى لورنس أو جويس – ( و هنا بدا لي أنّه لم يقرأ روبرت موسيل ) و كان يرى أنّ الفنّانين غيرُ مؤهّلين للكتابة في هذا الشأن بخاصّة لأنّهم ضعفاء و عاطفيّون للغاية ، و تركْتُ فلاكس و ذهبْتُ ماشيا إلى شقّتي و أنا أترنّحُ من أثر الثمل و مرّ بخاطري أثناء المشْي بعضُ الضبّاط الّذين ورد ذكرهم في الأدب الروسيّ : هرمان في أعمال بوشكين ، وَ دولوغوف في أعمال تولستوي ، وَ بنشورين في أعمال ليرمنتوف ، و كان ما يجمعُ هؤلاء الضبّاط هو كونهم شخصيّات تراجيديّة إلى أبعد الحدود .
شعرْتُ بأسفٍ شديد لأنّ فترة تدريبِنا القصيرة انتهت بسرعة و ربّما كان هذا إيذاناً لي بأنّني لن أرى جوي ثانية ، و عندما شاركْتُ فلاكس تناول القهوة عند فترة الاستراحة أحد الأيّام دخلت جوي مكان الاستراحة و دعاها فلاكس على الفور لتُشاركَنا القهوة ، و كنتُ مهتمّاً للغاية بمراقبة ابتسامتِها وَ الانتباه إلى نغمة صوْتِها أكثر من الإصغاء لما كانت تقوله . كان فلاكس معتاداً على الحديث مع جوي و كان يتحدّثُ معها بلا تكلّف ، و راح يسألُها عن صحّة ” المُنقّب عن الصّخور ” ، و هنا صار واضحاً لي أنّ خطيب جوي يعملُ جيولوجيّاً ، و أذكر حينذاك كيف انغمسْتُ في تفكيرٍ عميق : فلو حصل أن رأيْتُها قبل بضع سنوات لكنْتُ تركتُ العنان لنفسي للوقوعِ في سحرِ جوي بالكامل ، و لكنّني بتُّ الآن أكثر انضباطاً و قدرة على التحكّم الذاتيّ بعواطفي متى ماعرفْتُ أن لا طائل من مطاردة هدفٍ لا سبيلَ إلى بُلوغه ، و حين تركَنا فلاكس وحيديْن قليلاً سألتُها متى تركت الجامعة؟ فأجابت قبل نحو السنة ، و عندها تجرّأتُ و سألتُها عن سنّها و أنا أتوقّعُ أن توبّخني و تطلب منّي أن لا أتدخّل في شؤونها الخاصّة لكنّها – وَ لِدَهشتي – أجابت بالقول أنّ سنّها إحدى و عشرون سنة ، وَدُهشْتُ عند سماع هذا فقد كنتُ أتوقّعُ أن تكون في منتصف العشرينات من عمرها ، و ذكّرَني ثباتُها و إعتدادُها بنفسها بجوانب من شخصيّة بيتي ، و خطرتْ ببالي فكرةٌ مع نهاية ذلك اليوم في تنظيمِ نوعٍ من استعراضٍ يناسِبُ عيد الميلاد ( ربّما كنتُ سأقتبِسُهُ من العمل المسمّى ” استعراضُ القرن العشرين Twentieth Century Revue ” الّذي كتبْتهُ لجماعة الفوضويَين ، أو مِنْ مسرحيّتي ” برعمُ الزّهرة المعدنيّة Metal Flower Blossom ” ) و حاولْتُ إقناع جوي بأن تساهمَ بدوْرٍ ما في العمل الّذي عرضتُ فكرته على صاحب المحلّ فوافق على الفور – رغم انّه كان ذا مزاجٍ متقلّب و نزواتٍ لحظيّة – شريطة أن يقرأ مخطوطة العمل ، و عندما عرضْتُ العمل على جوي تردّدت في إبداء مُوافقتِها ثمّ عقّبت أنّها ربّما ستكتفي بأداء دوْرٍ صغير .
____
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *