معركة خاسرة..


نـجــاة إدْهــــان*

( ثقافات )



 الإهداء: إلى كلّ امرأة سكنها حلم الحياة..

 في زاوية من زوايا البيت، في زاوية غرفة ليلتها الأولى تلملم بقايا الجسد الواهن وتتشمّم رائحتَه والمكان.. من ستّين سنة خلت أُدخلت هذا البيت وتُركت وحيدة.. شيء من البرد والخوف جعل جسدها يرتجف..
كان لوقع الخطى المتسارعة نحوها أثر غريب. استسلمت. كأنّه الموت، كأنّها معركة خاسرة، كأنّها آخر الخطى وكأنّه آخر نفَس. أجالت بصرها في الغرفة المظلمة ثمّ أغمضت عينيها. مريح أن يُظلِم المكان من حولها أكثر وأن يتضخّم وجيب قلبها فيتراخى جسدها كلّما علا.. لم تـــتبيّن ملامحه، كلّ ما تذكره رائحة جسده المتحفّز، كعرق العمّال القادمين من مكان بعيد. كانت تشمّ هذه الرّائحة في ثياب والدها نهاية كلّ يوم. هذه الرّائحة تشبه تلك التي لوالدها مع هذا لم تستطع أن تحبّها.
حين تغسل ثيابه تتعمّد أن تفركها مرارا. شيء ما كأنّه قد التصق بها يأبى التّلاشي. شيء ما عليه أن يُمحى لتشعر أنّ الثّياب نظيفة ولتُطمئن نفسها إلى أنّها قادرة على قتل خوفها. أمضت زمنا تخاف هذه الرّائحة. أمضت زمنا يكاد نفسها يتلاشى كلّما اقترب ويهجرها النّوم بعد أن يفرغ منها ويلتفت إلى الجهة الأخرى ثمّ يعلو شخيره مطمئنّا منتصرا. كان جسدها يُعجن كلّ ليلة ثمّ يتشكّل مسخا فتنبت لها يدان ورجلان ويتدلّى الرّأس. ترفعه ببطء وتبقى العينان كسيرتين. حين انكسر شيء ما داخلها في تلك اللّيلة، سألت نفسها: “أكانت أمّها تحيا بذات الوجع؟ أكانت تكره رائحة والدها؟” لكنّها أبدا لم تلاحظ هذا، ربّما هي أيضا لم يلاحظ أحد وجعها. أوجاع النّساء لا تُقال. أوجاع النّساء بعض أقدارهنّ ثمّ كيف للآخرين أن يدركوا تسارع دقّات قلبها في الظّلام وحيدة؟ الظّلام ستر وعلى المرأة كتم صوتها حتّى لا يسمعه الآخرون..
تنهّدت عميقا فتلحّفتها رائحته، هربت من الزّاوية تحبو. كانت الرّغبة في الخلاص أهمّ من الوقوف ومن إثبات قدرة جسدها على الاستمرار. ركنت إلى حيث كان فراش ابنتيها.. حين أنجبت البنت البكر شمّت رائحتها. كم خافت أن يتلبّسها عرقه! سُعدت حين ارتوت بأريجها، فيها شذى لم تعرفه. ابتسمت وضمّتها. ها أنّ ابنتها قد انتصرت لها. لم تئد ابتسامتَها وهي تنظر إليها حتّى حين رمقتها حماتها التي اعتبرت الأشهر التّسعة زمنا مهدورا. تذكر أنّها لم تشأ أن ترحّب بالمهنّئين وأنّها تآمرت عليها مع زوجها طويلا إلى أن أنجبت ذكرا.
بعد أن أنجبت ابنتها البكر أدركت معنى أن تتآمر المرأة على المرأة، معنى أن تعدّ عليها امرأة مثلها اللّقمات وعدد الخطى خارج البيت. لعنةٌ ما تسكن البيت والنّفوس حين تُنجَب الأنثى. لعنة يُصبح فيها الكلّ شيطانا ولا تُرجَم غير الأمّ والبنت. كانت تدعو ربّها أن تنجب ثانية. سيكون إنجابها انتصارا لها عليهم جميعا.. وكان أن أنجبت بنتا ثانية!
أمرته أمّه أن يهجرها عقابا لها. لم تعلم أنّها بهذا الذي تسمّيه عقابا انتقاميّا منحتها وابنتيها مملكة كاملة. مملكة بثلاث أميرات بعيدا عن تلك الرّائحة التّي تغتال كلّ وجوه الحياة وبعيدا عن جسد يُعجن كلّ ليلة باردا ميّتا، تُفرغ فيه كلّ الخيبات فيودّ أن يصرخ “أن كفى” لكنّه يكتشف أنّه قد أضاع طريق الكلام فيستسلم المرّة تلو الأخرى حتّى ينسى أنّه خلق ليكون ملك صاحبه.
لـمّا شاركتها ابنتها البكر الغرفة صارت تهرب إليها بعينيها كلّما همّ بها. تشعر أنّه لا ملاذ لها غيرها. تنظر إليها فيفوح شذى جسدها حين حضنتها للمرّة الأولى وتتلاشى رائحته. ينشدّ كلّ جسدها إلى تلك النّائمة في هدوء ويستعدّ لولادة ثانية..
فكرة واحدة كانت تفزعها كلّما احتلّـتها: “هل ستحيا ابنتاها ما عاشته؟” كم تخاف عليهما وحشة هذه الرّائحة! كم تخاف ألاّ تنجبا بنات فيمضي العمر دون سند! وهل ستقويان على الحياة إن كان كلّ هذا؟ لمن ستشكوان حينها؟ وهل تراهما تشكوان وهي لم تفعل يوما؟ هل للآباء أن ينتصروا للبنات على رائحة الأزواج وهم يعجنون الأجساد أو على الحموات وهنّ يتلبّسن رداء الذّكور فينتقمن لأنفسهنّ من بنات الآخرين بكلّ القهر الذي خزنّ وبكلّ حقد النّساء على النّساء؟
ليلة زفاف البكر لم تستطع النّوم. حاولت ألاّ تتقلّب في فراشها حتّى تأمن عاصفة هوجاء تسكنه. هذه اللّيلة لابنتها، روحها معلّقة بجدران غرفة أخرى وستـنتظر الصّباح لتطمئنّ عليها. سترسل ابنتها الثّانية لتأتيها بالخبر اليقين وستلحّ عليها أن تكون دقيقة ملاحظة فهي أعلم النّاس بالقدرة على دفن الوجع. أخبرتها أنّها سعيدة جدّا وأنّها تبدو راضية وأنّ زوجها قد رحّب بها كثيرا لكنّها لم تطمئنّ. شيء ما لا تعرفه إلاّ الأمّهات ربّما غاب عنها. قتلها العجز. كان أوجع من ليلتها الأولى في هذه الغرفة وتمنّت لو كان لها أن تشاركها تفاصيل الوجع، ستطهّر روحها وستجعلها تعلّق بصرها بها فتنسى أنّ جسدها يُعجن. لكن ماذا إن كان ما أخبرتها به ابنتها صحيحا؟ كم ترجو هذا!
حين أخبرت زوجها بأنّها تودّ زيارة ابنتها سخر منها. قال إنّها ككلّ النّساء ناقصة عقل وإنّ عليها أن تنسى أنّ لها بنتا وأن تتركها تبدأ حياتها بعيدا عنها. ودّت أن تحدّثه عن تلك الرّائحة المقيتة وعن ذاك الجسد الذي يُمضي الحياة بلا روح لكنّها لم تفعل. اكتفت بأن تنظر إليه وتدعو في سرّها ألاّ يكون زوج ابنتها برائحة زوجها..
شعرت أنّ ما كتمته يطبق على صدرها وتعجّبت كيف أنّها لم تمت منذ زمن وكيف طارت روحه قبلها. حين رأته مسجّى سكنها إحساس غريب. أطبقت على الغرفة رائحة الموت ببخورها وبرودة الجدران وببقايا رائحته السّاكنة ثيابه. أغلقت الباب فظنّوا أنّها تبكيه. كانت تبكي وكان صوتها يبلغهم فيردّدون: “مسكينة، كُسر ظهرها..” بكت بحرقة ذاك الزّمن الذي سرق روحها وتركها بقايا جسد. تأمّلته في ثوبه الأبيض. اكتشفت أنّه واهن وتذكّرت أنّه لا يستطيع لها شيئا. من أين كانت تأتيه القوّة؟ ربّما هو صمتها أو هي طبيعة الأشياء حولها. ودّت أن تنتصب واقفة بكلّ ما بقي لها من قوّة لكنّها لم تفعل. ها أنّ الحياة قد انتصرت لها فرحل قبلها. هو بعض العدل وإن تأخّر. ستتشرّبه روحها وستدبّ فيها رائحة بشذى الولادة البكر. كلّ ما عليها هو أن تغلق باب الغرفة بعد رحيله ولتــتركْها للعناكب والفئران. بعض النّاس لا يرحلون عبثا. إنّهم يرحلون لتبدأ الحياة فلا يتكوّم الجسد ولا تغتاله الرّائحة..


* كاتبة من تونس


شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *