*ماجد شاهين
( ثقافات )
( 1 ) نظارة طبيّة !
لم يكن يحبّ أن يغادر المدرسة و أن تفلت من بين يديه فرصة التعلّم والقراءة و اللعب مع مجايليه .
الولد ُ القليل ُ ، كان حظّه يدفعه إلى المقاعد الخلفيّة الأخيرة في الصف المدرسيّ ، لأن ّ المقاعد الأولى والأماميّة كانت مخصّصة لأبناء العائلات اللامعة أو لأبناء أصحاب الثروة والجاه .
هكذا كان مربّوا الصفوف و مدير المدرسة يوزّعون الاولاد على المقاعد من دون أن يعلنوا عن ذلك بشكل واضح .
الولد كان مُصابا ً بضعف النظر و يلزم أن يذهب إلى طبيب أو متخصّص لمعاينة عينيه و استخدام نظّارة طبيّة حسبما يوصى به الطبيب .
الولد صار يغيب يوما ً عن المدرسة و يذهب إلى يوما ً ، ثمّ صار يغيب يومين و يذهب يوماً ثم يغيب ثلاثة أيام و يذهب إليها يوماً واحدا ً بعد ذلك .
الولد ُ صار يغيب أسبوعاً ، ويعود .. ثم ّ انقطع بالمرّة عن الذهاب إلى المدرسة .
الولد يعرف أن أباه لا يملك ما يكفي للذهاب إلى الطبيب المختصّ في المدينة المجاورة و ما يكفي لشراء واختيار نظارة طبيّة ملائمة .
الولد غادر المدرسة و ترك فرصة التعلّم ريثما يستطيع أن يصوّب إبصاره .
الولد يعمل في سوق قديمة مع أبيه لكي يتمكّن من تحصيل ما يلزم من مال لاستعادة فرصته في التعلّم .
الولد لا يجد الآن مقعدا ً في الجهة الاماميّة من الصف المدرسيّ ولا يجد نظّارة طبيّة .
الولد يجرّ عربة يحمل عليها بضائع و مشتروات المارّة والنساء و يرضى بما يتقاضاه/ يحصل عليه ، لكي يوفّر ما ينفعه لاسترجاع مقعده في المدرسه بعدما يستعين بالنظارة الطبيّة لتصحيح بصره .
بينما الولد ينتظر زبائنه في السوق ، جاء شخص تظهر عليه ملامح الثراء و طلب إليه أن يحمل له بضاعته من دكّانة في السوق إلى سيّارة في الجوار .
الشخص حاول أن يمنح الولد / العتّال أجرة ً تزيد عن ” المتعارف عليه في السوق ” .
الولد حرّك عينيه نحو الشخص ، و شدّ على عصب العينين لكي يراه بوضوح ، فتأكد في حينه أن الشخص واحد من أبناء جيله و من زملاء الصف و من الذين نهشوا مكانا ً في المقاعد الأماميّة .
الولد قليل البصر ، أوصل البضاعة دافعا ً العربة إلى حيث السيارة الفارهة ، و لم يتقاض أجرا ً عن فعلته .
الولد رفض أن يأخذ مالا ً .
الولد أوصل َ البضاعة مجانا ً .
( 2 ) ذباب في شارع غامض !
ذبابتان ، لا غيرهما ، أربكتا سهرتي ، و أقلقتا راحتي .. فمرّة تقف واحدة على فم كأس الشاي و الأخرى تحوم حول فنجان القهوة .. و مرّة ثانية تلتصق إحداهما بقطعة من كعكة صغيرة كنت ادخرتها لتزجية السهرة والأخرى تظل ّ تشاغل وجهي وتقترب من الأنف والأذن و الفم .
.. لا أستطيع إلى طردهما سبيلا ً ، و حين أحاول إطفاء ضوء الغرفة لكي تخرج الذبابتان من عندي ، أراهما قد ابتعدتا و أظنّ أنّني نجحت في طردهما ولكن حين أدقّق النظر أجدهما معلّقتان عند أطراف شاشة الحاسوب .
.. نهضت ، لشدّة نرفزتي ، و جلبت بشكيراً و ضربت الشاشة به ، و اعتقدت أنني أصبت الذبابتين و انتظرت قليلا ً فوجدتهما واحدة في كأس الشاي و الأخرى تراقب عند حافة فنجان القهوة ، أطبقت بيدي على فتحة الفنجان و أحسست أن ّ الذبابة غرقت في البن ّ .
.. بعد التفاتة و حركة منّي قليلة ، و جدت ذبابة الشاي تنفض النعاس عن جسدها و تطلق جناحيها و تتخلّص من دبق الشاي و تعود إلى الحياة من جديد ، فيما اختفت شقيقتها الذبابة الأخرى ولم أجدها حين رفعت كفّي التي كانت تغطّي فم الفنجان .
.. عدت إلى ضوء الغرفة و أشعلته و قلت : يكفي أنّني تخلّصت من ذبابة واحدة ، و الآن ستغدو الثانية عاجزة عن إقلاق راحتي وذلك لضياع و غياب شريكتها .
و حين أدرت ُ عيني إلى الجدار بجانبي ، وجدت كومة من الذباب الملتصق بطرف الستارة ، التي للنافذة المغلقة .
حاولت أن أطفيء الضوء لكي يهرب الذباب ، و نهضت و في زاوية نظر مائلة تجاه الحائط الآخر كانت ذبابة الشاي تأخذ مكانها على مرآة الغرفة فبدت في حجم كبير كأنما هي قطّة أو فأر كبير .. فيما ذبابة البن ّ كانت تلسع أطراف أصابع قدمي التي علقت بها قطعة صغيرة جدا ً من حلوى تناثرت من فمي بفعل شتيمة أطلقتها في وجه كومة الذباب التي على الستارة .
أغلقت شاشة الحاسوب بعدما كتبت الحكاية و أشعلت ضوءا ً إضافيّا ً قبالة الغرفة و فتحت الشبابيك ، و دسست جسدي في الفراش و أحكمت الغطاء على وجهي و رأسي لكي لا يقترب الذباب منّي .
.. كلّ الذي رأيته في النوم أن ّ ذبابا ً كبيرا ً بحجم القطط و الفئران دهم شارعا ً غامضا ً .