بخلاء غابروفو.. نوادر «جحا البلغاري»


*فريد نعمة

يعتبر سكان غابروغو البخل فضيلة، ويتباهون بفنونهم في التوفير والتقتير. ذاك هو جوهر كتاب «نوادر غابروفا»، الذي ينظر إليه متخصصون على كونه بمثابة كتاب «جحا البلغاري». إذ إنه يحكي عن نوادر وفكاهة الأهالي في المنطقة.

وهم كثيراً ما يستشهدون بقول الفيلسوف الألماني كانت:«إن الإنسان الذي يبتعد عن الرفاهية يبتعد عن الحرمان» للدفاع عن أنفسهم، ويعتمدون على فلسفة جدهم راشو الحداد في تبرير ما يفعلون. وتتلخص فلسفته بأنه لا يوجد شيء زائد عن الحاجة أو غير ضروري، فكل شيء مفيد وستبرز الحاجة إليه في حينها. لذلك هم يحتفظون بحسك الأسماك لاستخدامها نكاشات للأسنان حين لا تتوافر عيدان الثقاب.
راشو الحداد
وُلد راشو وترعرع بين أكواخ الفلاحين في قرى البلقان ذات التربة الفقيرة. دفعته الحاجة في باكورة شبابه إلى البحث عن الرزق في الغابات. وهناك بدأ يصنع الطاسات والمعالق والدمى الخشبية ويتاجر بها بائعاً جوالاً في أرجاء بلغاريا والامبراطورية العثمانية، ثم قاده التجوال إلى روسيا والنمسا وهنغاريا.
ومع الأيام، جنى، بالحرص والتقتير الشديدين، ثروة. وأصبح من أثرياء البلقان. لكن الثروة لم تغير شيئاً من طباعه، إذ إنه ظل حريصاً على كل فلس وعاش حياة المُعدم. وأدى هذا التناقض إلى انتشار الأقاويل ثم النوادر عن بخله وفنونه.
اتصف راشو بحب الفكاهة وبقدرة هائلة على إثارة الضحك، وإن جرى ذلك على حسابه. ويعتبره الغابروفيون بطلاً قومياً. ونصبوا له ثلاثة تماثيل وأطلقوا اسمه على الحديقة والمسرح والفندق في غابروفو.
بخلاء غابروفو
سأل صحافي عجوزاً في مدينة غابروفو عن السكان وأحوالهم، فأجابه العجوز: لا تتعب نفسك بالسؤال وجمع المعلومات. كلهم رجل واحد، كلهم غابروفو! سماتهم واحدة وأعمالهم واحدة: يقطعون أذيال القطط ليغلق الباب فور دخولها وخروجها حتى لا يتسرب شيء من حرارة الغرفة في الشتاء-..
يدفنون الموتى في وضع عمودي حتى لا يشغلوا مساحة أكبر من الأرض- يفضلون الزوجة النحيفة لأنها لا تأكل كثيراً وثيابها قليلة الكلفة- يفضلون كتل الحطب ذات العقد للتدفئة، لأنهم يشعرون بالدفء حين يقطعونها- يوقفون ساعاتهم أثناء الليل ليخففوا من احتكاك دواليبها- عندما يستأجر أحدهم منزلًا، أول ما يفكر فيه هو أن يكون قريباً من مصباح الإنارة في الشارع ليحد من استهلاك الكهرباء- يحتفلون ويرقصون رقصة الهورو وهم ينتعلون خفافات من اللباد حتى يسمعوا الموسيقى التي تأتي من حفلة في مكان بعيد.
نوادر
تتنوع نوادر غابروفو بشكل مذهل وتتناول بالفكاهة والسخرية كل مجالات الحياة، من خلال وجهة نظر غابروفية بحتة: البخل هو الاقتصاد والاقتصاد فضيلة. وتعود هذه النوادر إلى مراحل زمنية مختلفة، بعضها يعود إلى تلك الأيام حين كانت الدابة وسيلة النقل، وبعضها الآخر عندما أصبحت العربة ثم السيارة والقطار وسائل النقل.
وفي قسم منها تكون وسائل الإنارة هي الشموع والقناديل، وفي قسم آخر الكهرباء. وهي إذ تجمع بين القديم والحديث، تجمع أيضاً بين الحكمة والبلاهة والذكاء والغباء والجد والهزل، فتطلع علينا الشخصية الغابروفية، طوراً: حمقاء وفي آخر: حادة الذكاء.
الدبلوماسي
دخل غابروفي وبخيل اسكتلندي إلى مطعم وطلبا سمكة مشوية للغذاء. أتى النادل بالسمكة ووضعها على الطاولة. كان الذنب ذو اللحم الخفيف باتجاه الاسكتلندي والصدر ذو اللحم السميك باتجاه الغابروفي. فرح الغابروفي وانزعج الاسكتلندي. فكر الاسكتنلدي ملياً ثم سأل الغابروفي: هل تعرف من هو الدبلوماسي؟
أجاب: لا! قال: هو الإنسان الذي يستطيع أن يدير العالم وهو جالس كما أدير أنا هذا الطبق، ثم أدار الطبق، وأصبح الذنب باتجاه الغابروفي. قال الغابروفي: مهلًا، هل أنت دبلوماسي؟ أجاب: لا! قال الغابروفي: إذن، لماذا لا تترك العالم وشأنه؟. ثم أرجع الطبق إلى الوضع السابق وبدأ الأكل.
بخلاء الجاحظ وبخلاء غابروفو
يستمتع القارئ العربي بنوادر غابروفو ويندمج معها، وسرعان ما تصيبه الدهشة حين يجد أن بعض نوادر خراسان ونوادر أشعب وجحا، أصبحت غابروفية. نكتفي هنا بذكر نادرتين من النوادر العربية التي التهمها طمع غابروفو:
عندما يتشاركون في الطعام
عندما يسافر الغابروفيون للعمل في الخارج فإنهم، للتقليل من المصاريف، يطبخون الطعام في وعاء مشترك ويتناولونه في طبق مشترك. وعند الطبخ، يعلّم كل واحد منهم قطعته من اللحم بخيط أو قطعة رقيقة من البطاطا حتى لا يأخذ أحد قطعة غيره.
روى الجاحظ هذه النادرة تحت عنوان «المشاركة في طبخ الطعام»: وزعموا أنهم ترافقوا وتزاملوا، فتناهدوا وتلازموا في شراء اللحم، فإذا اشتروا اللحم قسموه قبل الطبخ، وأخذ كل إنسان منه نصيبه فشكه بخوصة أو بخيط، بينما يكون قد علمه بعلامة ثم اقتسموا المرق.
شيء من لا شيء
سئل غني غابروفي، كيف استطاع أن يكوّن ثروة من لا شيء؟، فأجاب: عندما تطبخ نساؤكم المرقة كم يضعن من الرز؟ قالوا: بقدر ما يلزم. قال: كذلك زوجتي، لكنها تأخذ من كل طبخة حفنة من الرز وتخبئها للمستقبل. حفنة الآن وحفنة غداً.. وتصبح غنياً.
روى الجاحظ هذه النادرة على لسان «مريم الصنّاع»:زوجت ابنتها، فحلّتها بالذهب والفضة وكستها المروىّ والوشي والقزّ والخزّ وعلقت المعصفر. فقال لها زوجها: أنّى لك هذا يا مريم؟ قالت هو من عند الله. قال: دعي عنك الجملة وهاتي التفسير. قالت: اعلم أني منذ يوم ولدتها إلى أن زوجتها، كنت أرفع من دقيق كل عجنة حفنة، وكنا كما علمت نخبز كل يوم مرة، فإذا اجتمع من ذلك مكوك بعته.
القطة ذات الذيل المقطوع
من قال إن البخلاء يعيشون على الهامش ولا شأن لهم في صنع الأحداث العالمية؟ إذ جعلت نوادر الغابروفيين مدينتهم الصغيرة والمغمورة (122 ألف نسمة)، على سفوح البلقان العاصمة الدولية للفكاهة. فبنوا«بيت الفكاهة والسخرية» الذي يقصده الباحثون لدراسة الفكاهة في آداب الشعوب، ورصد كل تطور وجديد.
وزيّنوا مدينتهم بالنصب البرونزية الكاريكاتورية للشخصيات الفكاهية العالمية، ثم أقاموا المهرجانات الفكاهية الشعبية التي لا تتوقف على مدار السنة- وبدأت المهرجانات هذه السنة بكرنفال الضحك في1 يناير وستنتهي بمهرجان الميلاد والأغاني الجماعية الفكاهية في25 ديسمبر2015.
وفي كل تلك المهرجانات هناك موكب قطة ضخمة سوداء مع مقص ضخم لقطع ذيلها. وفي العموم، أصبحت هذه القطة شعار الغابروفيين. ويزور السواح هذه المدينة للتسلية والاستجمام، ويعودون منها ومعهم كتاب «نوادر غابروفو» المترجم إلى 38 لغة.
______
*البيان

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *