عندما حرّكت الذرّة فيلماً… وعيناً


ربما يحرّك أوسكار 2015، ذكريات عن الخيوط المتنوّعة التي تربط العلم بالفنون، مع ملاحظة أنه من المستطاع القول إن كلا الطرفين يعبر عن طريقة في «تمثّل» العقل الإنساني للعالم والكون، وتفكيره فيهما.

ففي عام 2012، نجح فيلم «أنتم لم تروا شيئاً بعد…» You haven’t Seen NothingYet في إطلاق نقاش حاد حوله. إذ صنعه المخرج الفرنسي الآن رينيه، بعد أن أوغل في تسعيناته، وصارت حياته وراءه كأنها رواية مفتوحة، بل كرواية قلّبت عيناه وعقله صفحاتها مراراً وتكراراً. ماذا رأت عينا هذا المخرج المُبدع في هذه الحياة التي امتدت عبر معظم القرن العشرين، لتدخل العقد الثاني من القرن 21؟ بالإختصار: لا شيء! هنا المفاجأة، وهنا العِلم أيضاً.
موجات وأطياف
ليست علاقة المخرج رينيه بالعِلم واهية أصلاً. إذ أخرج قبل نصف قرن فيلماً وثيق الصلة بالعِلم هو «هيروشيما حبيبتي»، الذي أحدث ضجة عالمية بسبب إدانته الراقية لتلك المقتلة التي صنعتها أيدي أشد العلماء تمرّساً وتقدّماً، بل وحسن نية أيضاً!
إذاً، انشدّ رينيه إلى عوالم العلوم، خصوصاً منذ تسعينات القرن الفائت حين سُجّلت إختراقات علمية مثل استنساخ النعجة «دوللي» والتعرّف على شيفرة الجينوم الوراثي للإنسان، وهبوط سيارات روبوتيّة على سطح المريخ وغيرها.
ما الخلاصة التي أثارها ذلك التدفّق العلمي في نفس المخرج رينيه؟ عمل بعض أصدقائه من العلماء على لفت نظره إلى حقيقة بسيطة، لكنها قوية: عينا الإنسان لا تريان إلا ضمن مدى ضيّق من المروحة الواسعة لطيف موجات الضوء. أوضحوا له أيضاً أن العين لا ترى إلا الموجات التي تقع تحت الموجة فوق البنفسجية من ناحية، وتعلو عن الموجة تحت الحمراء من الناحية الثانية. أخبروه أن العين لا ترى الموجات تحت الحمراء التي تملأ الكون، التي تروي أشياء كثيرة عن أصله وطريقة تكوّنه.
أخبرَ رينيه أصدقاءه من العلماء، أن الأشعة السينيّة «عصيّة» على عين الإنسان.
ولعل أهم ما وشوشه العلماء في أذن المخرج رينيه هو أن العين تمثّل البرهان الأشد قوة بالنسبة للبشر. وفي الرواية الإنجيلية عن المسيح، يرد أنه ظهر أمام أعين حوارييه بعد أيام من صلبه المفترض. ولم يصدق أحد التلامذة تلك العودة، بل طلب من السيّد أن يمدّ يده كي يرى بأم عينه موضع مسامير الصلب.
وفتح المسيح يده، فخرّ التلميذ ساجداً من كثرة الخشوع. ولامه المسيح قائلاً: «رأيت فآمنت، طوبى للذين آمنوا ولم يروا».
أن ترى الوراثة
في الثقافات كافة، لا شيء أقوى من القول برؤية العين. رأيت بعيني. شاهدت بأم عيني. مشاهدة مباشرة. شاهد عيان. الأرجح أن المصطلحات والجمل التي تتحدث عن البرهان، تشدّد على العين ودورها في الإثبات. في العِلم، يمثّل هذا الأمر شيئاً مهماً، لأن الأمر يقتضي في كثير من الأحيان، أن يجري الإثبات عبر رؤية العين. مثال بارز؟ توقّع علماء كُثُر، بينهم عالِم الفيزياء الكونية إيرفنغ شرودنغر، تركيب الحمض الوراثي للإنسان. وعندما عمل جايمس واطسون والسير فرانسيس كريك على ذلك الحمض، إهتما بإلتقاط صور بأشعة «إكس» لتبرهن أنه يتألف من لفائف طويلة من الجينات مجدولة على هيئة سلم لولبي مزدوج. ثم رأت عين البشر صورة الحمض النووي، فصدّقتها.
وفي السياق عينه، يستعمل الميكروسكوب والتلسكوب من أجل البرهان على ما هو موجود، بجعل العين تراه. بعبارة اخرى، شيّد بنيان العلوم وتطوّر تاريخياً، ضمن الموقع المركزي للعين في البرهان العلمي وقبوله. لا داعي للقول أن المقلب الآخر للقول نفسه هو أن دحض ما تراه العين، يتطلب شيئاً تراه العين نفسها أيضاً، كما حدث بالنسبة لكروية الأرض ودورانها حول الشمس.
ورمى رينيه بسؤاله العميق على الناس والعِلم: كيف يكون بنيان العلوم، مع ما اتصل به دوماً من صناعة وهندسة وعمران، لو أن عين الإنسان كانت مختلفة، ولو قليلاً، عما هي عليه؟ ثمة نقطة مهمة. نظن أننا نرى كل شيء، لكننا في لحظة فتح أعيننا لا نرى سوى طيف قصير من الضوء وموجاته وأطيافه، فكيف تكون فكرتنا عن أنفسنا وأرضنا وكوننا، لو أن للعين تركيباً آخر؟ إلى أي مدى يصح القول أن حضارة الإنسان هي حضارة كائن ذكي لا ترى عينه سوى شيء قليل من الضوء، لعله أقرب إلى اللاشيء بالمقارنة مع ما تكونه الأمور لو أن العين ترى كل أطياف الضوء. لو أن للإنسان عيناً ترى موجات الضوء وأطيافه كافة، هل تكون الحال حضارة اخرى؟ هل أغرت العبارة الأخيرة بعض قرّائها بعقد مقارنات مع عوالم السياسة والثقافة والإجتماع والفلسفة؟ لنجرّب هذا التحدّي.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *