صرخت اللاجئة السورية: الغربة مذلة!!


*غادة السمان

في مخابرة هاتفية بين باريس ودمشق مع صديقتي الشاعرة هنادة الحصري سألتني: لماذا يكره اللبنانيون السوريين هكذا؟ وتابعت: كنت في بيروت وأسرتي لإجازة، وما كاد العامل في «السوبر ماركت» يسمع لهجتي الشامية حتى سألني بعدوانية: أنت سورية أليس كذلك؟ وبذل كل ما بوسعه لإزعاجي ريثما سددت ما عليّ وغادرت المكان.

لم يجد نصفي اللبناني ما يقوله غير الإنكار، أما نصفي السوري فقال: كل إنسان شبه عدواني نحو من يزاحمه على لقمة العيش.
ثم أن بعض اللبنانيين لا يحتفظ بذكرى لطيفة عن بعض ممارسات (مخابرات) الردع السورية في بيروت.
اللاجئ السوري يأتي… اللبناني يهاجر!
جاء إلى بيتي «ماسح الزجاج» وما كاد ينطق بجملة حتى عرفت أنه سوري من حمص. بدت عليه إمارات الارتباك حين قلت له ذلك، وأضفت: أنا سورية مثلك. أطمأن وروى لي معاناته اليومية المريرة وأسرته مع لقمة العيش وضيق اللبنانيين الذين يزاحمهم عليها بأجر أقل من أجورهم ولا خيار له.
جاء عامل رش البيت ضد الحشرات، كان مرتبكا لكنه يقوم بعمله بإتقان وعرفت من لهجته أنه سوري، قلت له: أنت سوري أليس كذلك؟ خيل إلي أنه ارتاع. طمأنته: أنا سورية مثلك تترفق بمعاناته من قسوة الحياة هنا و (هناك). وباختصار وبلا شعر ولا «كلامولوجيا»، السوري ليس سعيداً في لبنان ويريد العودة إلى بلده، ومعظم اللبنانيين لا يمكن ان يكون مسروراً باستضافته إذا علمنا أن «أرقام الهجرة من لبنان فاضحة وخطيرة جداً: أكثر من 35٪ من اللبنانيين هاجر ورقم مماثل يفكر بالهجرة وذلك يشمل الطوائف كلها. وجاء أيضا في الصفحة الأولى من جريدة لبنانية انه في السنوات الأخيرة الثلاث (أي منذ التدفق السوري) ربع اللبنانيين يهاجر وربع آخر ينتظر التأشيرة. وبلغت الهجرة 30٪ بزيادة عما سبق وهذا مؤشر خطير. إذ صار الشباب يشعرون بالغربة في الوطن عن الخطاب السياسي الموجه اليهم فهو خطاب الوهم والتكاذب المتبادل بالأرغام.
في زيارتي الأخيرة إلى بيروت ذهبت كعادتي إلى شاطئ «الرملة البيضاء» للمشي وتنفس الأفق البحري الشاسع. هذه المرة لاحقني العديد من السوريين المشردين، وبينهم رجل برفقته أربعة أطفال وطلب مني بصوت خافت: «حسنة لله» وأضاف عبارات عدة حول جوع أطفاله. أنه سوري آخر لاجئ أخبرني أنه وأطفاله ينام في مداخل المباني ويخشى صقيع الشتاء وجهنم الصيف.
في الليل، شاهدت في وسط كورنيش المزرعة خيمة وقالت لي صديقة: أنهم سوريون بلا مأوى.
هذا هو المشهد الأليم على الأرض في دنيا الواقع.
السوري ليس بيدقاً على شطرنج
في الصحف اللبنانية، قرأت في الشهور الأخيرة العديد من المقالات التي تهاجم قرار فرض «الفيزا» على السوريين الهاربين من الوطن. وهو في جوهره ـ وبدون محاكمة النيات ـ يعني عدم مجيء المزيد من الفقراء المشردين إلى لبنان الفقير أيضا.
ومعظمها لا كلمة فيه عن الأحوال المعيشية البائسة لحوالي مليون وربع مليون لاجئ سوري صاروا في لبنان الذي للأسف يحلم معظم سكانه بالهجرة لأنهم لا يُحسدون على أفقهم المسدود ولقمتهم العسيرة، ونحن لا نقوم بدعوة الضيوف إذا كنا عاجزين عن القيام بواجب الضيافة.
وكسورية شامية عتيقة، وكلبنانية منذ حوالي أربعة عقود، آلمني استعمال اللاجئ السوري كورقة سياسية ضد أو مع هذا الفريق اللبناني أو ذاك… فالأهم من استخدام السوري اللاجئ لأغراض محلية لبنانية سياسية ولحروب صغيرة داخلية، وقبل «الكلامولوجيا» المهم توفير الحياة الكريمة للاجئ ولأسرته ريثما يعود إلى بيته ووطنه.
صرخت اللاجئة التي شاهدت صورتها في الصفحة الأولى في جريدة لبنانية: الغربة مذلة. وصرخ معها مليون وربع مليون سوري مشرد!
أعرف من تجربتي مع غربات عديدة، حقيقة ذلك، سواء كانت الغربة بخمس نجوم أم تشرداً في شوارع بيروت وحدائقها العامة وفي الضواحي وقرى لبنان ومخيمات سهوله وفي قوارب الموت. صحيح أن الغربة مع المال أقل صعوبة معيشية ولكنها مذلة.
ليس المهم ان نستقبل أكبر عدد ممكن وغير ممكن من السوريين وعددهم فاق اليوم ثلث تعداد الشعب اللبناني، بل الأهم تأمين الحد الأدنى لهم من شروط الحياة الإنسانية. مرفوض توظيف بؤس اللاجئ السوري لخدمة خطاب سياسي يعشق الكلمات الكبيرة والتعابير (الوطنجية).
خطاب يقفز عن الحياة اليومية للبشر توظيفاً لنقمة أيديولوجية والحقيقة ببساطة هي ضرورة توفير كرامة العيش للسوري واللبناني، وهي الآن منقوصة للطرفين على أرض لبنان، ومن يحب السوريين حقاً لا يحولهم إلى طلقة رصاص في مسدسه ضد أعدائه الأيديولوجيين بل يكون هاجسه مد يد المساعدة للسوري الكريم اللاجئ الذي قد نلجأ الى بيته في سوريا غدا، ذلك الهارب اليوم من موت ما إلى موت من نمط آخر لخصته تلك المرأة الدامعة على الحدود بعبارة «الغربة مذلة» وأسألوا الملياردير المصري الأصل محمد الفايد صاحب مخازن هارودز اللندنية الشهيرة (سابقا)، الذي اشترى العقارات واليخوت ولكنه لم يستطع الحصول على الجنسية البريطانية ولعله في سره يشارك اللاجئة ويصرخ معها: الغربة مذلة.
ونحن في دمشق لا ندعو أحداً إلى بيتنا إذا لم نكن قادرين على القيام بواجب الضيافة، وحين يأتي كان والدي يقول له: «يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل». بل كان يضيف: لو علمت الأرض بمن قد زارها لفرحت واستبشرت وباست موضع القدم!
ولكن ذلك الكرم الشعري لا يدوم طويلاً… ودعونا لا نتكاذب.. فاللاجئ السوري ليس سعيدا ولا المضيف بالإرغام. ومنطق الواقع يفرض نفسه حتى على العشاق!
نريد المزيد من المساعدات
المطلوب الآن إيقاظ بقية الإخوة العرب والمحافل الدولية على ضرورة المزيد من العطاء نحو النازحين المشردين.
وبهذه المناسبة أحب توجيه الشكر إلى المؤسسات المدنية مثل «سوا من أجل سوريا» وهيئة «نساء الآن» و «بسمة وزيتونة» و «سنبلة» و «كياني» و»الفايات» و «جسور» و «مؤسسة الدعم الاجتماعي» و «هيئة الإغاثة الإنسانية الدولية» والمساعدات من المؤسسات الاقتصادية وسواها من المهتمين بتوفير العلم والحياة الكريمة للهارب السوري، ريثما يعود إلى بيته.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *