*هاشم صالح
ربما لم يعرف تاريخ الشعر شخصا مفعما بالتمرد والانطلاق مثل آرثر رامبو. فقد انفجر في عصره كالقنبلة الموقوتة. لقد لمع في سماء الشعر الفرنسي كالنيزك المارق ثم سرعان ما احترق مخلفا وراءه سرا يستعصي على التفسير. لكن لنعد إلى البدايات الأولى. لقد انفجر بالغضب العارم ضد كل شيء بدءا من أمه وقريته وانتهاء بالعالم بأسره مرورا بالمسيحية والتدين التقليدي بكل إكراهاته وقيوده. كل شيء يحصل كما لو أن رامبو كان يشعر بأنه محاصر من كل الجهات. كان يشعر بأنه مضغوط: والضغط يولد الانفجار. كل شيء يتآمر عليه، على عبقريته ورغباته، وربما لهذا السبب راح يغامر في كل الجهات، وعلى كافة الأصعدة والمستويات. وكـ«القارب السكران»، قصيدته الشهيرة، راح يترنح من مكان إلى مكان قاذفا بنفسه في فوهة المجهول غير عابئ بالمخاطر والتبعات. وكانت النتيجة أن قاربه تكسر على رصيف الواقع المر وهو في عز الشباب (37 سنة). لقد خسر حياة لم يعشها، ولكنه ربح الشعر. وحتى في كتاباته النثرية كان رامبو متشظيا كالقنابل والبراكين. لنستمع إليه يقول محددا شروط ظهور الشاعر الكبير:
ينبغي أن يعرف كل أشكال الحب، والعذاب، والجنون. ينبغي أن يخوض كل أنواع التجارب ويحترق في أتونها. ينبغي أن يبحث عن ذاته في ذاته، أن يستنفد في داخله كل السموم لكيلا يحتفظ منها إلا بالجوهر واللباب. يا لها من محرقة كبيرة، من عذاب هائل! عندئذ يحتاج إلى الإيمان كله وإلى قوة فوق بشرية لكي يستطيع أن يصمد. وعندئذ يصبح المريض الكبير، والمجرم الكبير، والملعون الكبير – والعالم الأكبر! وذلك لأنه في تلك اللحظة بالذات يرى ما لا يرى، يتوصل إلى سبر أغوار المجاهيل.
هذا هو تعريف الشاعر: إنه يقلص حدود المجهول باستمرار عن طريق توسيع آفاق اللغة والمعاني، أو الصور والمجازات. كل مجاز جديد يفترعه الشاعر أو يقدر عليه يمثل انتصارا على الآفاق المغلقة والجدران المسدودة. المجاز الإبداعي الخارق يوسع من مساحة الحرية على هذه الأرض. ولكن من يستطيع اقتناصه أو التوصل إليه؟ هيهات!.. من هنا شعورنا بالارتياح النفسي عندما نقرأ قصيدة حقيقية. ثم تتحول هذه المجازات المبتكرة إلى مكسب جديد للغة الشعرية بأكملها. يقول رامبو في قصيدة مشهورة بعنوان: الأبدية
لقد وجدناها
ماذا؟ – الأبدية
إنها البحر متلألئا تحت الشمس
روحي الخالدة
تراقب أمنيتك
رغم الليلة الوحيدة
والنهار المشتعل
هذه المقطوعة الصغيرة وسعت أرضية الشعر الفرنسي وربما العالمي وخاصة إذا ما قرأناها بلغتها الأصلية لا عن طريق الترجمة. لنلخص الوضع: البحر ساطعا تحت الشمس وأنت مستلق على الشاطئ في لحظة استرخاء تكاد تنسى العالم. أشعة الشمس المنعكسة على ذلك السطح المنبسط تشكل مساحات بيضاء تلتحم فيها السماء بالأرض. فتشعر ولو للحظة وكأنك انصهرت بالأبدية والخلود.
وكذلك الأمر عندما يقول في قصيدة بعنوان: العصر الذهبي
هذه الألف سؤال
التي تتفرع وتتشعب
لا تؤدي في النتيجة
إلا إلى السكر والجنون
ما هي هذه الأسئلة التي تتفرع وتتشعب؟ لا أحد يعرف. وليس المهم أن نعرف في نهاية المطاف. كل ما نعرفه هو أن تبكيت الضمير وتعذيب النفس بالأسئلة والمراجعات، بالندم والحسرات، لا يؤدي في النهاية إلا إلى السكر والجنون. فلندع الأشياء كما هي عليه، ولنعش حياتنا كما هي، أو كما قد تجيء..
ثم هذا المقطع الرائع الذي أخشى أن تخدشه الترجمة:
شبابٌ عاطل
لكل شيء مُستعبد
لياقة
ضيعت حياتي
آه! ليت الأزمنة تجيء
حيث تشتعل القلوب..
ما هي هذه الأزمنة التي تشتعل فيها القلوب؟ هل هي لحظة الفراق أم اللقاء: لقاء الحبيبة لأول مرة، أم لآخر مرة؟ وهل القلوب تشتعل في تلك اللحظة؟ نعم تشتعل وتضطرم فيها النيران.. ولكن متى تجيء هذه الأزمنة الوردية؟ لا أحد يعرف. ذلك أن الحياة الحقيقية غائبة كما يقول آرثر رامبو. بحياتنا كلها لم نعش الحياة التي نريدها. نعشق في مكان ونتزوج في مكان آخر. نسكن باريس ونحلم بلندن. كل شيء بالغلط! كل شيء بالمعكوس! ولكن هل وجدت الحياة الحقيقية يوما ما يا ترى؟ ألم يكن الشعراء في كل عصر وفي كل جيل يشعرون أنهم لم يأتوا في الوقت المناسب؟ إلى المتنبي دُر:
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم
رامبو، ككل الشعراء الكبار في التاريخ، اصطدم بعصره وزمانه فراح يحلم بحياة أخرى وزمن آخر. ذلك أن الحياة الخيالية دائما أجمل من الواقعية. الواقع شرس، صلب، بارد. الواقع جحيم. رامبو كان يبحث عن أفق وكلما وصل إليه تجلى له أفق آخر. وهكذا دواليك.. فلا الآفاق تنتهي ولا الاكتشافات والاندهاشات.. ذلك أن الرائي يريد اكتشاف العالم كله، أن يقلص مساحة المجهول في هذا العالم. ولكن العالم كبير لا ينتهي يا رامبو، وكذلك الشعر.. عندما توصل رامبو إلى التخوم القصوى، إلى التخوم التي لا تخوم بعدها، توقف عن الكتابة وسكت نهائيا. طالما تساءل الناس عن سبب هذا التوقف المفاجئ وغير المبرر على الإطلاق. ولطالما تحسروا، تمنوا لو أن رامبو أكمل الطريق لبضع سنوات إضافية على الأقل. كم من القصائد العبقرية كنا ربحناها! هل يعقل أن تتوقف عن الكتابة في العشرين؟ الناس لم تبتدئ بعد. لقد قذف بكل ما في أحشائه في ظرف 4 أو 5 سنوات ثم صمت صمت القبور. لطالما ضاع النقاد في النظريات والفرضيات والتخمينات. لطالما ضربوا أخماسا بأسداس. كتبوا عنها المجلدات! ولكن المسألة بسيطة في رأيي: إنه كالظواهر الطبيعية أو كالبركان انفجر دفعة واحدة ثم نضب. ألا تفهمون ذلك؟ هناك تخريجة أخرى: رامبو وصل إلى قمة الشعر.. وماذا تفعل بعد أن تصل إلى القمة؟ إما أن تبقى هناك وإما أن تنحدر. رامبو فضل أن يخرس كليا على أن ينحدر ويكرر نفسه. صمته لا يقل بلاغة عن شعره. صمته بحد ذاته قصيدة شعرية: وأي قصيدة! صمت رامبو لا يزال مدويا حتى اللحظة. إنه يلاحقنا، يعذبنا، يدمرنا.. في حياتنا كلها لم نقم من تلك الضربة!
لقد قتلنا قتلا إذ سكت فجأة دون أي تفسير أو تعليل. على الأقل لو استأذن منا قبل الانصراف، قبل أن يدير ظهره كليا. على الأقل لو قال لنا وداعا. ولكنه قالها! انظروا في ختام ديوانه الشهير «فصل في الجحيم» مقطعا بعنوان «الوداع الأخير» أو «وداعا لا لقاء بعده». وهناك تفسير ثالث يقول وأرجحه شخصيا: رامبو معجزة شعرية، وككل المعجزات يستعصي على التفسير. نقطة على السطر. هل يعقل أن تكتب كل هذه القصائد التي غيرت وجه الحداثة الشعرية العالمية وأنت طفل؟! وربما هناك تفسير رابع يقول: رامبو لم يخن قضية الشعر على عكس ما تتوهم. وذلك لأن حياته ذاتها تحولت إلى شعر، إلى مغامرة جنونية في شتى أصقاع الأرض: من جزر إندونيسيا وغاباتها، إلى قبرص، إلى الحبشة وعدن وحرار، والحبل على الجرار.. رامبو كان أكبر مشاء في التاريخ. هذا شيء ننساه كثيرا.هناك علاقة بين المشي والشعر، أو بين المشي والكتابة بشكل عام. هل كان نيتشه سيصبح فيلسوف كبيرا لولا أنه ضاع على الطرقات والدروب؟ وماذا عن جان جاك روسو؟ رامبو طبق نظرية الرائي عمليا بعد أن عاشها شعريا. نقطة على السطر. في كل يوم كان رامبو يمشي عشرات الكيلومترات عابرا السهول والوديان، معربشا على السفوح والجبال، مقلصا الآفاق. لكن العالم كبير يا رامبو والطريق لا ينتهي. أو قل كلما انتهت منه مساحة ابتدأت مساحات.. آه ما أجمل العالم! آه متى نصل إلى ما نبتغيه؟ متى نفرح قليلا؟ فربما وراء تلك الحواجز الطبيعية والقمم العالية تقبع أمانينا.
هناك شيء ما ينتظرنا في زمن ما، في لحظة ما، في مكان ما، فمتى سنصل إليه؟ متى يصل رامبو إلى ما يبتغيه ويهدأ؟ لماذا يركض رامبو في كل الاتجاهات؟ ماذا يريد رامبو في نهاية المطاف؟
يقولون لي ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي ما أبتغي جل أن يسمى
بالمناسبة لماذا تتأسفون على رامبو ولا تتأسفون على المتنبي؟ ألا تعلمون أنه قتل في الخمسين؟ أنا حتى الآن لم أقم الحداد عليه. حتى الآن لا تزال في القلب لوعة وحسرة. ماذا لو عاش 10 سنوات إضافية؟ كانت تغيرت خارطة الشعر العربي..
لو كان رامبو يعرف ما هو الشيء الذي يبحث عنه لتوقف وهدأ. ولربما تزوج وأنجب الأطفال وتصالح مع أمه. وساعدها على أعمال الحقول والبيدر والحصاد.. أو لربما وجد وظيفة في مكتب وتحول إلى بورجوازي صغير يعرف كيف يدخر فلوسه ويسلم على الناس في الشارع. لا، رامبو، لا يعرف أي شيء من هذا القبيل. ولهذا السبب فإنه يظل سائرا على الدروب باتجاه نقطة غائمة وأفق غير منظور: تحت قدميه الأرض وفوق رأسه قبة السماء. لنستمع إليه يقول من قصيدة بعنوان أحاسيس:
في أمسيات الصيف الزرقاء، سوف أتغلغل في الدروب الضيقة،
سوف أدعس العشب الغض، وسنابل القمح تخزني:
حالما، سوف أشعر بطراوتها على قدمي،
وسوف أترك الريح تبلل شعري العاري
***
لن أنبس بكلمة، لن أفكر بأي شيء:
لكن الحب اللانهائي سوف يصعد في أعماقي،
وسوف أذهب بعيدا، بعيدا جدا، كبوهيمي،
منخرطا في أحضان الطبيعة – كما لو أني مع امرأة
هذه القصيدة من أوائل ما كتبه رامبو. من هنا براءتها المطلقة. ولا يفهمها إلا أبناء الريف الذين ترعرعوا في البراري والحقول، وعاشروا التخوم. ولذلك أنصح أبناء المدن بعدم قراءتها. كل من لا يحب الريف، كل من لم ينصهر بعناصر الطبيعة في الصباحات الزرقاء، أو الأمسيات البيضاء، لا يمكنه أن يفهم قصائد رامبو الأولى. كل من لم يضع في السهوب اللانهائية، كل من لم يعشق امرأة «بدوية» فيما وراء السفوح والمهاوي السحيقة لا علاقة له برامبو. ويا جبل اللّي بعيد خلفك حبايبنا..
_________
*الشرق الأوسط