ريتشارد فورد.. حياته امتحان متواصل



* نهى حوّا

عندما كتب الروائي الأميركي ريتشارد فورد ثلاثيته التي تسرد حياة مواطن أميركي عادي من نيوجرسي يدعى «باسكومب»، لم يخطر بباله أن تلك الروايات الثلاث ستبقى مصدر إلهام بعد ثلاثة عقود. ففي كتابه الجديد بعنوان «دعني أكن صريحاً معك»..

وهو عبارة عن أربع قصص قصيرة تدور أحداثها في فترة ما بعد إعصار ساندي، العاصفة الرهيبة التي ضربت السواحل الأميركية في أوائل خريف عام 2012، يلجأ فورد مجددا إلى هذه الشخصية ليسرد أحداث القصص، على الرغم من انه أقسم على عدم العودة إليها مجددا.
وهو يقول في مقابلة مع صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية، إنه عندما بدأ بكتابة ثلاثية «باسكومب» في الثمانينات من القرن الماضي، كان يعتقد أن الكاتب «يؤلف كتابا ويستنزفه، ثم يختار موضوعا آخر ويستنزفه». لكن رحلة التأليف لم تنته على النحو الذي أراده مطلقاً على مدى 30 عاما، كما يوضح. وأكد أنه لم يقصد كتابة ثلاثية في المقام الأول، لكنه يقول: «طموح الكاتب يفاجئه أحياناً».
1995
أول رواية في ثلاثية «فرانك باسكومب» تحت عنوان «المحرر الرياضي» الصادرة في عام 1986، كتبها من دون أية تقدمة لكتاب آخر. لكن الرواية الثانية «عيد الاستقلال» الصادرة في عام 1995 أخذت مسارا مختلفاً، ذلك أن ملاحظاته الأولية عنها بدت كما لو أنها صادرة عن باسكومب، الشخصية الرئيسية في الكتاب الأول، مع كل ما يتمتع به من فكاهة ونواقص.
وهو يقر بأن هذا أثار قلقه، حيث اعتقد أن الأمر سينتهي به إلى تأليف الكتاب الأول مجددا، لكنه ادرك لاحقاً أن «صوت» فرانك لم يكن عبئا، بل هبة، فالبدء برواية مجهزة بصوت سردي يعرفه ألوف القراء، ويعجبون به، يعني أن تكون في متناول المرء ميزة أساسية يعمل معظم الرواة جاهدين لتحقيقها.
ومع الكتاب الثالث بعنوان «تضاريس الأرض» الصادر عام 2006، كان قد أنهى الثلاثية التي يقر أنه عانى في كتابتها الأمرّين، جسدياً ونفسياً. ذلك في سبيل أن تبدو كما لو أنها حدثت بالفعل بشكل متسلسل، على الرغم من أنه ابتدع الموضوع بأكمله، ويقول: أدركت أن كتابة الروايات عمل سوداوي وانعزالي..
ولا ينبغي على أحد خوض غمارها، وأن كتابة روايات متصلة لها متطلبات صارمة، وتلك التجربة من الوهن الجسدي والنفسي المتزايد الذي عانيت منه على مدى ثلاثة عقود كان بمثابة «علامة» لي بأنني انتهيت أخيراً من شخصية فرانك باسكومب، والى الأبد، وأصبح بإمكاني تأليف كتب مختلفة، وشرعت في ذلك.
الظروف والنسيان
فلماذا عاد ريتشارد فورد إلى باسكومب في مجموعة قصصه الصادرة حديثاً؟ يقول إن السبب في ذلك الظروف والنسيان وعدم استخدام مهارته، والأهم إدراكه أن باسكومب أفضل من يسرد أحداث إعصار ساندي.
وكانت تداعيات عاصفة ساندي التي اختبرها مع زوجته في هارلم بمدينة نيويورك، دافعه لتأليف كتابه الأخير، لكنه يعترف بأنه في العادة، لا يكتب عن أحداث راهنة، فمن وجهة نظره، يجب أن تتحرر الأحداث العامة الكبيرة التاريخية من السلطة الاختزالية لوسائل الإعلام الجماهيري، قبل أن تتمكن قصة من أن تجد شراة بما يكفي لتصبح ضرورية في ذهن القارئ.
وكان قد انتقل للعيش في نيو أورليانز، مع زوجته، في أعقاب إعصار كاترينا عام 2005. وما دعاه للانتقال، ربما هي نصيحة الشاعر راندال جاريل، التي تفيد بأن الكاتب هو الشخص الذي يحتاج إلى أن تكون لديه الخبرة، وليس صاحب الخبرة بالضرورة.
إذ يقول: على الرغم من وجود مقدار القوة التي يجب أن تمتلكها المأساة وفقاً لأرسطو، إلا إنه من الضروري أيضا أن تكون وظيفتي دوما، الانتباه إلى الأحداث الكبرى. وإعصار ساندي بالتأكيد كان يمتلك مقدار القوة ذاك، ويقول فورد: بعد أيام من العاصفة، زرت مكانا (مشهدا)، اجتاحته العاصفة على ساحل نيو جرسي، موقع مغامرات باسكومب، وعدت بالسيارة إلى نيويورك.
وكان رأسي مليئا، ليس فقط بالمنازل المحطمة والأرواح المتناثرة على الألواح الخشبية، لكن أيضا، بالأحاديث الصامتة بصوت فرانك باسكومب، وبطريقته في اختيار الكلمات وإيقاعاتها، ودعاباته وإحساسه بالخطأ والصواب. وأدركت أن باسكومب يمكنه أن يسرد تلك الأحداث، لكن لا يمكنه أن يصنع قصة بمفرده.
فشخصيات الرواية ليست بشراً حقيقيين من لحم ودم، وبالتحديد بالنسبة للروائي، بل إنها نتف من كتابات مرقعة قابلة للتبديل، تعكس حيزا من حياة الكاتب، الذكريات والخيال والمخاوف والرغبات والتجارب المقموعة، وبعضا من الكلام والنقد الساخر للصحف، واختلاس السمع وإساءة فهم ما سمع، كلها تخضع لإرادة الكاتب، ثم توضع على الصفحات ليراها الآخرون.
مجرد حظ
وما يصنع القصة هو شعور قوي محسوس، سببه حدث يختبره المرء أو يسمعه أو يتخيله، إعصار، حريق في غابة، تخلي أهل عن طفلهم، مع غريزة مفادها أن الحدث له تبعات لم يجر التعبير عنها بعد أو تصورها. وهذا الشعور الصامت هو ما يسميه الشاعر بابلو نيرودا «شيئا يرفس في النفس». وأدرك أنه يمكنه الكتابة عن ذلك باستخدام فرانك باسكومب كأداته، فنيو جرسي تعتبر مضماره..
كما أن لباسكومب ما يكفي من المفردات الأخلاقية المطواعة.. والإحساس بالفكاهة. أما الباقي فكان مجرد حظ، حيث ان معظم الإبداع برأيه هو كذلك. وكانت لديه سنوات من أحداث، وقضايا، ونكات، وجرائم، وكوابيس، مختزنة في دفاتر ملاحظاته بانتظار استخدامها. ويقول إنه رتبها بكلمات لتصبح مكونات لتبعات عاصفة ساندي، حتى انها لم تكن..
كذلك في الأصل. فكثير من ما يثير إعجابنا بالأدب الجيد، وحسب تصوره، يكون منبعه تحديدا مثل تلك الترتيبات الجديدة، بذكاء ولغة متخيلين حديثاً، حول ما يسبب الأحداث في العالم.
ويكمل الكاتب: المهارة في الخداع هو عما نتحدث عنه هنا. إنها تمكن من تأمين وظيفة يتسم الأداء فيها بـ «المواربة»، ويمكنه من خلالها، بذل أفضل ما لديه، وبعث مظاهر إنجازات من حطام إخفاقات عديدة سابقة. وهذه هي المكافأة التي يحصل عليها الكاتب على أعماله، إذا كان من المحظوظين، وقد كان هو واحدا منهم.
الحب والصداقة والعائلة في مواجهة الشيخوخة وإخفاقات القرن الجديد
مضت ثماني سنوات منذ أن التقينا للمرة الأخيرة، الشخصية الرئيسية في ثلاثية الأديب الأميركي ريتشارد فورد، فرانك باسكومب، وهو يبيع عقارات في نيوجرسي، ويدخل في منتصف الخمسينات من عمره.
لكن من الواضح أن فورد كان لديه المزيد ليقوله على لسان فرانك، وفقا لصحيفة «إندبندنت»، في تقرير نشرته أخيرا. وفي القصص القصيرة الأربع التي تشكل كتاب فورد الأخير «دعني أكن صريحا معك»، نرى فرانك المضحك والودود والانفعالي يواجه شيخوخته، فيما يدمر إعصار ساندي الخط الساحلي لنيوجرسي.
منطوٍ قلق
وبعد أن بلغ سن الـ68، أصبح أكثر قلقا وانطواء وأضعف بنية. كانت حياته عبارة عن امتحان متواصل، فقد عانى من وفاة طفل، ومن التفكك المحزن لزواجه الأول، وكان عليه وداع طموحاته الأدبية.. وتلك القصص القصيرة، تدور أحداثها في أعقاب إعصار ساندي، حيث هلكت مجتمعات بأكملها على منتصف ساحل الولايات المتحدة.
يبدأ الكتاب مع تأمل باسكومب الثري والمتقاعد، في خراب بيت الشاطئ الذي كان يملكه. في القصة الأولى «أنا هنا فرانك» فإن سمسار العقارات باسكومب يشهد على كل الدمار، وعلى رائحة الخشب المقطوع حديثا وورق القطران الحلو، وما تمثلانه من «أجواء كارثة كاملة»، حيث «لا شيء له رائحة الدمار كما عبق المحاولات الأولى للإنقاذ». ولم تدمر البيوت فقط، لكن فكرة أميركا عن نفسها كأمة.
توترات عرقية
وفي القصة الثانية «كل شيء يمكن أن يكون أسوأ» يستمع باسكومب لامرأة سوداء ترتدي «معطفا احمر لامعاً لموسم الميلاد»، تتحدث عن قصتها المحزنة مع التوترات العرقية وعدم التوافق العائلي، ويقول: السود يتحملون عبئا ثقيلا، في محاولة أن يكونوا طبيعيين. فلا عجب انهم يكرهوننا. وفي القصة الثالثة يبدو فرانك منغمسا في حديث مع زوجته السابقة..
حيث التأمل بالجروح القديمة. وتنتهي المجموعة بقصته «موت الآخرين»، وهي لقاء تتأرجح فيه العواطف، ويقوض فيها المرض العضال الجسد. وهناك حزن يتسرب في تلك القصص القصيرة المضحكة والفلسفية والدافئة والغنية بالعواطف. وفرانك الناجح لا يبدو راضيا بوضعه. ومن المؤثر رؤيته يقاوم بداية موكب الموت «السقوط المؤثر الأخير لقطار الأفعوانية».
لكنه يستمر في التأمل بمعنى الوجود في هذه القصص، وكل حكاية متصلة بالأخرى، تتحدث عن الحب والصداقة والعائلة والعرق والسياسة والزواج والخسارة والتقدم في السن وكل اضطرابات الحياة التي نعيشها. ويقول النقاد، إن ثلاثيته الأدبية تضيء بروح العصر لجيل كامل، ونحن عبر الشخصية الرئيسية باسكومب، نشهد تطلعات وأحزان وأشواق وإنجازات وإخفاقات الحياة الأميركية في القرن الجديد.
______
*البيان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *