مهرجان برلين الدولي (2): ترنس مالك ينتقد هوليوود


*محمد رُضــا

إذن، يعود المخرج ترنس مالك إلى الظهور أو نصف الظهور في الواقع.

في السينما يطل ويهرب. يظهر ويختفي. يبدأ عملا ولا يكمله، وينشغل بعمل آخر، وربما لا يكمله أيضا. فجأة يعود بعمل ثالث.
في مهرجانات السينما، يقدم فيلمه ثم يهرب من حفلات الختام. ربما يهرب من المؤتمرات الصحافية. قد يكون السبب هو خجل أو حالة انطواء أو مجرد عدم معرفة كيف يتعامل مع سواه. ربما لهذا السبب كاميرته تترك الممثلين يلعبون بعيدا عنها، وتروح متجهة إلى زرع أو ماء أو بيوت بعيدة.
كم مرة شاهدنا مثل هذا المشهد من قبل؟ براد بت في «شجرة الحياة» يمشي والكاميرا وراءه. فجأة تتركه وتنحاز يسارا وهو لا يزال يمثل ويتكلم. أولغا كوريلنكو تواجه الكاميرا وتقول شيئا في «إلى العجب». تتركها الكاميرا في نصف العبارة وتنشغل بالتقاط شيء ما إلى يمينها. بن أفلك، شون بن، راتشل ماكأدامز ليسوا أفضل حظّـا.
* حول مستقبل أفضل
ترنس مالك فنان بلا ريب، وذلك منذ أن وطأ أرض السينما بفيلمه الأول «بادلاندز» سنة 1973. لم يكن يجرؤ، وقد باشر مهنته حديثا، أن يهرب من ممثليه ويلتفت إلى ملامح الحياة الأخرى، لكنه كان دوما عاشقا للطبيعة وللمساحات الكبيرة فوقها. وفي أحيان كان يرصد الوضع الاقتصادي من خلال لقطة تستمر لبعض دقائق، مثل ذلك المشهد الكبير للحريق في «أيام الجنة»، حيث تلتهم النار البيت الكبير، في حين تتوارد خواطر المشاهدين عما قاد إلى ذلك من تراكمات عاطفية ونفسية. في ذلك الفيلم هناك تلك اللقطة الطائرة فوق قطار محمل بالمهاجرين، أيام البؤس الاقتصادي، الباحثين عن مستقبل أفضل في مكان آخر من أميركا. في آن معا رسم الوضع الشخصي لبطليه بين جموع المهاجرين (وهما رتشارد غير وبروك أدامز) ووضع البلاد الاقتصادي. وفي بعد ثالث، فعل ذلك بلقطة شعرية جميلة.
لكن أيامها كانت أفلامه أوضح قليلا، وبقيت كذلك إلى حين قريب. عندما أخرج «شجرة الحياة» سنة 2001 و«إلى العجب» (2013) ترك كثير من المشاهدين حيارى فيما قد يكون المقصود. وفي فيلمه الجديد الذي يعرض في نطاق الدورة الخامسة والستين من مهرجان برلين الحالي (من الخامس إلى الخامس عشر) قد يدهم مالك مشاهديه بلقطات تبدو مثل علامات سؤال، أو بمشاهد لا نهايات لتفسيراتها. لكن من يكترث فعلا؟! هو فنان ومبدع وعليه أن يحافظ على درجته من الحرية الفنية. وفي هذا النطاق إنما يعمل بمقتضى ما ذكره المخرج الروسي الراحل أندريه تاركوفسكي عندما قال: «إذا تنازلت قليلا، تنازلت كثيرا» قاصدا بذلك التأكيد على أن الفنان يجب أن لا يتنازل عن رؤيته.
* حضور وغياب
على كل ذلك، المثقفون السينمائيون والنقاد وهواة السينما الصافية يحبّـون مشاهدة أفلامه. وهو لا يحققها للربح لأن أكثر أفلام درا للإقبال («الخيط النحيف الأحمر»، 1998) بقي مغامرة مالية خاسرة. خرج في السنة ذاتها التي عرض فيها ستيفن سبيلبرغ فيلمه «إنقاذ المجند رايان». فيلمان عن حرب واحدة (العالمية الثانية)، فيهما قدر كبير من المواقف القتالية. فيلم مالك أكثر فنا. فيلم سبيلبرغ أكثر واقعية. الفن خسر مالا. الواقعية كسبت الرهان.
من عام 1973 عندما قام مالك بتحقيق فيلمه الأول «بادلاندز»، حتى اليوم حقق المخرج 7 أفلام فقط. كان بدأ السينما كاتبا سنة 1971 وتابع، حتى مطلع هذا العقد، كتابة سيناريو أفلام كثيرة لم يخرجها، مفضلا عدم استخدام اسمه (من بين تلك الأفلام على سبيل المثال «قُد، قال» ‬ Drive, He Said الذي أخرجه سنة 1971 جاك نيكولسون).
في عام 1973 أنجز «بادلاندز» مع مارتن شين وسيسي سبايسك وورن أوتس في البطولة، ثم انتظر حتى العام 1978 قبل أن يحقق فيلمه الثاني «أيام الجنة» ثم غاب.
الغياب صفة المخرجين الكبار، أو بعضهم على الأقل. سنوات عدة مرّت بين كل فيلم وآخر من أفلام ستانلي كوبريك. سنوات أكثر مرت بين بعض أفلام أندريه تاركوفسكي (ولو أن السبب كان رغبة الدولة هناك في أن يكف عن العمل كليا بسبب مواضيعه غير المتناسقة مع الآيديولوجيا الشيوعية)، لكن مالك غاب وغاب حتى ارتفع الغبار على اسمه. أمضى 20 سنة متواريا قبل أن ينجز سنة 1998 فيلمه الثالث «الخيط الأحمر الرفيع».
ما بين هذا الفيلم الثالث، وفيلمه الرابع «العالم الجديد» (2005) 6 سنوات، ثم 6 سنوات أخرى، قبل أن يعود بفيلم «شجرة الحياة» سنة 2011. لذلك أحدث مالك مفاجأة كبيرة عندما أتبع «شجرة الحياة» بفيلمه السادس «إلى العجب» وبينهما نحو سنة أو أقل.
وها هو يمضي 3 سنوات أخرى وهي ليست بالكثيرة قبل أن يعود بعمله الجديد «فارس الأكواب» Knight of Cups الذي هو أول عمل للمخرج يشترك في إطار مسابقة برلين.
ماذا عن هذا الفيلم؟ ما قصّـته؟ ما الذي سيواجهه المشاهدون، وبينهم من هم من أكثر خبراء السينما فوق هذا الكوكب، حين تفتح الكاميرا على واحد من مناظره التأملية العريضة؟ لا أحد يعلم باستثناء أن مفتاح الفيلم عبارة ترد على لسان بطله كرستيان بايل تقول:
«من كان ذلك الرجل الذي كنت أرغب في أن أكونه؟» السؤال حارق يصدر عن كاتب سيناريو اسمه ريك أتاحت له هوليوود ما تعده ارتقاء: كتب عملا ناجحا. فتحت له الأبواب. تحوّل فيها إلى شخص محتفى به. نجم من نجومها.. لكن ما يتبدّى لها ارتقاء يدركه هو على حقيقته: إنه انحدار أخلاقي يجابهه ريك بذلك السؤال وبأكثر منه.
مرة أخرى الكاميرا بيد المخرج إيمانويل لوبزكي الذي صور له أفلامه الثلاثة الأخيرة. وهي كعادتها في كل من هذه الأفلام («العالم الجديد»: «شجرة الحياة» و«إلى العجب») لا تهدأ. مالك لا يستطيع أن يغير منهاجه تبعا لأي رغبة حتى ولو كانت رغبته. فيلمه الجديد سيشابه سابقه من حيث لهفة الكاميرا لصورة مبهرة، لحركة دائمة، لمزيج من احتفال كل العناصر بصريا وصوتيا. هناك لقطاتها الطويلة، مشاهدها التي تترك الممثل في اللحظة التي تريدها وتنصرف لغيره، هناك الماء، الكثير من الماء، وهناك الإنسان والكثير منه أيضا. وفوق هذا وذاك هناك تلك الحالة الشعرية والوجودية التي يطرح من خلالها مالك الأسئلة و… لا يجيب.
* أربعة في الانتظار
* لجانب «فارس الأكواب» أنجز ترنس مالك عملا جديدا بعنوان «رحلة الزمن» مع براد بت وكايت بلانشيت، لكن مع مدير تصوير لم يعمل معه من قبل هو بول أتكينز. لديه فيلمان من إنتاجه انتهيا من التصوير هما التسجيلي «جينادلي التمساح» و«40 إطارا». كذلك لديه فيلم آخر من إخراجه ما زال بلا عنوان يـقال إنه سيعرضه في مهرجان «كان» المقبل.
_________
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *