*مهى سلطان
هلن الخال (1923- 2009) رائدة من رواد التشكيل اللبناني والنقد الفني. إنها حكاية من أجمل حكايات بيروت- الحداثة في فورانها وغليانها وعصيانها وتمردها على الثوابت والتقاليد. يقام لها معرض استعادي لأعمالها هو الأول بعد رحيلها، في غاليري مارك هاشم (من تنظم فاديا عنتر)، يلقي الضوء على تجاربها الفنية منذ مرحلتها الدراسية في أكاديمية “الألبا” التي تعود إلى عام 1947، وأسلوبها في التكعيبية وفن البورتريه وصولاً إلى التجريد الصافي. يرافق افتتاح المعرض الذي يضم قرابة سبعين عملاً فنياً، شهادات من أصدقائها المقربين (سيزار نمور ونايلا تمرز وندى جرار)، ترسم ملامح خفية عن حياتها ومعاناتها وخصائص أسلوبها الفني، لاسيما أن غالبية الأعمال المعروضة تعود لمقتنيات ابنها جواد الخال بعيد رحيله في مستهل عام 2015.
شخصية استثنائية في تحررها وانفتاحها الثقافي على فنون الشرق والغرب، في مرحلة كانت تتجه أنظار أبناء جيلها إلى مفاعيل الحداثة الأوروبية ومغامراتها في مدرسة باريس، بادرت إلى إدخال مفاهيم التجريد الأميركي القائم على التأمل الفلسفي للعلاقات اللونية في اتجاه مضاد لفن «الأكشن». منحت فضاءات جديدة لعلاقة اللوحة بالقصيدة، على صفحات مجلة «شعر» التي كان يصدرها زوجها الشاعر يوسف الخال.
عاشت حياتها للفن لكنّها لم تستطع أن تعيش منه. لذا دأبت على كتابة المقالات النقدية وزيارة المعارض ومــواكبة الأجيال الجديدة، كما ظلت تتلقى طلبات تصوير لوحات البورتريه التي كانت تبرع فيها أيّما براعة. وعلى رغم ما لاقته من صعوبات حياتية وظلم وجحود، ظلت السيدة المتربعة على عـرش إيقاعها الهادئ والرصـين تحتفـظ بمعاناتها، بشفافية وتـــواضع ونــبل، ينم عن عمقها الإنساني وصدقها وكفاحها. وضعت أول كتاب باللغـــة الإنكلــيزية يروي سيرة الفنانات العربيات عكست فيه أهمية عطاءات المرأة – الفـنانة ومعاناتها وقدرتها علـــى التحدي والتجاوز، في محيط ثقافي مطبوع بالخشونة والسيطرة الذكورية.
ملوّنة من الطراز الرفيع ورسامة برعت منذ مقتبل تجاربها في رسم البورتريه والمناظر الطبيعية والموضوعات الإنسانية. ولعل هذه المرجعية الصُوَرية المبكّرة شكلت ثوابت راسخة في فنها إزاء انطباعات اللون والنور. وعلى رغم أنها زاولت الأسلوب التكعيبي المحدث باستخدامها السكين والمجحاف في التلطيخ، غير أنها عادت إلى شفافية ملامسة الريشة لسطح القماش، في تقنية لونية تعتمد في شكل أساسي على الغمامية والتشفيف والتذويب اللوني. وظلت هذه التقنية على ثبوتها في أعمالها سواء حضر الشكل الواقعي أم غاب. هكذا تنبري الأشياء في أشكال صافية جديدة مغسولة ونظيفة كأصفر الحامض وأزرق البحار واللازورد والأخضر السندسي للتلال والأرجواني الحار لمدارات الكواكب.
ولئن كان جوزف ألبرز ومن قبله ماليفيش قد كرّما المربع، فإن هلن الخال، ابتعدت عن الحافات الخطرة والقاتلة التي لا رجوع فيها إلى الألفة، وفتحت نوافذ مربعاتها على الحياة المنبثقة من مبدأ آخر للرؤية والوجود، فتحتها على اختبارات كيمياء اللون ومحتواه الروحاني العميق، البصري والنفسي.
لم يكن الفضاء الكوني وحده هو ما شغل ريشة هلن، بل كثيراً ما قطفت شفافية مناظرها التجريدية من وهم الطبيعة وألوان فصولها بإحساس من يمسك بمفاصل الزمن والمكان والمناخ، بحثاً عن فضاء كبير يدعو للتأمل وهو فضاء انتقائي لا زمني ولا مكاني بل لونيّ روحاني بامتياز. فلوحاتها على رغم أنها في غالبيتها من الأحجام الصغيرة غير أنها تدل على شخصية صاحبتها وهوية أسلوبها الفني الراقي.
_______
*الحياة