أين الكتابة من إحراق البشر


*يوسف ضمرة

كل تلك المنشورات الأدبية والفكرية طوال عقود مضت لم تفلح في كبح جماح الإرث العربي. لا القصص ولا الروايات ولا الشعر ولا الفلسفة استطاعت أن تخفف من تلك الحمولة الثقافية البائسة التي حملناها عقوداً، بل قروناً. اكتشفنا أن عالم الكتابة والقراءة المضيء، كان ولايزال يخص دائرة محدودة، تتسع أو تضيق، بحسب الظروف الموضوعية والذاتية. هذه الدائرة تتناسخ تلقائياً فتبدو جينات سكانها متشابهة أو متوارَثَة. وليست مصادفة أن يخرج من أسرة كاتب ما كتاب آخرون. فهنالك مناخ يمليه ظل الكاتب على الأفق الأسري.

لا محمد عبدالحليم عبدالله الرومانسي جداً، صاحب «الوسادة الخالية» و«شجرة اللبلاب»، ولا إحسان عبدالقدوس بجرأته في تناول قضايا الأسرة والمراهقات على غرار «لوليتا».. ولا يوسف إدريس أو نجيب محفوظ أو إبراهيم أصلان، تمكنوا من حرف انتباه عامة الناس نحو التفكير في حياتهم وتحديثها وتطويرها.
من المؤكد أن عامة الناس لا يقرأون. ومن المؤكد أنهم لو «أخطأوا» وقرأوا ، فإنهم يحيلون ما يقرأونه إلى مرجعية ماضوية؛ مسطرة يقيسون بها كل ما هو جديد ومغاير ومختلف عن الإرث الثقافي الذي يمضون أعمارهم مزهوين به. هذا الإرث هو نفسه الذي يبيح لآخرين قطع الرقاب وإحراق الناس أحياء في أقفاص مقفلة. هذه الثقافة هي التي إن أغمضت عينا أبقت عينها الأخرى ساهرة كحارس لا يفكر في إغماضها، طالما وقر في عقله أنه يقوم بخدمة السماء. هذا الإرث هو نفسه الذي يجعل المرء يشتهي زوجة جاره، ثم يغسل ذنوبه بألف طريقة. فهل يقدم له الأدب هذه الخدمات يوماً؟ فماذا نفعل؟ هل نتبرأ من الكتابة مثلاً؟
بثقة كبيرة نقول لا. فلم تكن جماهير الثورات عبر التاريخ تقرأ الأدب؛ الشعر والقصة والرواية. ولم تكن تشاهد أفلام أنجلينا جولي وبراد بيت، ولم تكن تستمع إلى بيتهوفن وموزارت، ولم تشاهد عروض شكسبير.
المشكلة الكبرى لدينا هي أن القراء الحقيقيين غير مستعدين في زماننا للتقدم خطوة أخرى. خطوة تقربهم من العامة، لنغلق الدائرة الكهربائية كي يصل التيار! أما منذ عقدين، فقد انضمت عوامل أخرى لتشكل عقبات دون حصول عامة الناس على معرفة أحدث مما يحملون من إرث. بل يمكن القول إن مئات الفضائيات «الدينية» عملت على تحصين الإرث القابع في النفوس من جهة، وأسهمت في تقزيم المعرفة الحديثة. فقد جاء من يدعم هذا الإرث بمؤثرات لم تكن موجودة من قبل.. الصورة والألوان و«الأكشن» ومئات التفسيرات التي لم تكن ضمن الإرث نفسه. ثم جاءت الشبكة العنكبوتية لتمتن العزلة التي فرضها هذا الإرث الثقافي والمعرفي على صاحبه. وإذا كانت العزلة من قبل ثقافة وفكراً ومعرفة، فقد تمكنت الإنترنت من إضافة العزلة المادية إلى العزلة الثقافية والمعرفية. صار لزاماً على من يغوص في هذا العالم، أن يكون حبيس جدران وأبواب مغلقة، ويتمتع بكل ما يسمح له من العبور إلى خفايا إرثه وتفاصيله ودهاليزه ومعانيه وتفسيراته ودلالاته من دون أي حوار مع طرف مقابل. وقد تناول كمال أبوديب هذه الظاهرة في مؤلفه «كتاب الحرية» وأسهب في تفكيك آليات عملها وآثارها.
القتل حرقاً، ليس فيلماً أو رواية أو قصيدة. إنه نتاج موضوعي لبشر، في الزمن ذاته الذي قرأنا ماركيز وماريو بارغاس يوسا ونزار قباني ومحمود درويش.
_____
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *