فصول من السيرة الذاتيّة لـ”كولن ويلسون”13


*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
بدا واضحاً أنّ النجاح المدوّي الّذي حظي به ( اللامنتمي ) تسبّب في خلقِ موجةٍ من العداء لي و كنتُ على المستوى الشخصيّ أعملُ جاهداً على كبحِ هذه الميول العدوانيّة ضدّي ، فمثلاً نشرتْ إحدى الصحف في سياق أحد الحوارات معي عبارةً قلتُ فيها أنّ طموحي الأعظم هو أن أكون كلمةً تتردّد بين جنبات كلّ منزلٍ ، وردّ أحد الصُحفييّن المحلّيين ” أنت بالفعل كلمة تتردّد أصداؤها بين منازلنا ، سيّد ويلسون ، و هذه الكلمة هي : مُزَيّف !! ” ، و تملّكني فضولٌ في معرفة هل أنّ الرجل كان قرأ ( اللامنتمي ) فكاتبْته في الأمر متسائلاً لمَ ظنّ بي الزيف ، و ردّ الرجل عليّ برسالةٍ طويلة شرح فيها خيباته هو مع مهنة الكتابة و انتهينا أخيراً أن نكون صديقيْن يتبادلان رسائل ودّية للغاية ، و قد تعلّمْتُ من هذه التجربة درساً ثميناً : ليس ثمّة فائدةُ من الجزع إزاء مظاهر العدوان و التحامُل و تزييف الحقائق التي نُواجَهُ بها احياناً إذ هي في الغالب لا تعني أنّ المشكلة تكمن فينا بل هي تنفيسٌ عن مشاكل دفينةٍ يعانيها أصحابُها و مروّجوها . حصل ذات الشيء مع كاتب آخر يدعى ( كوريللي بارنيت ) الّذي صار فيما بعدُ مؤرّخاً عسكريّاً لامعاً : فقد شرع الرجل في مهنته الكتابيّة بروايةٍ مدهشةٍ – و إن كانت وحشيّة بعض الشيء – ثمّ راح يكيلُ الهجمات ضدّي و ضدّ صديقي ( بيل هوبكينز ) في إحدى الصحف المرموقة فما كان منّي إلّا أن أبتاع نسخة من روايته وأقرأها فوجدتها ممتازة – برغم حسّ القسوة الجامحة فيها – فكاتبتُه لِأخبرهُ برأيي في روايته فأجابني برسالةٍ رقيقة مع دعوة للعشاء ، و عندما لمحْته لاوّل مرّة وجدْتهُ رجلاً فاتناً حسن الطلعة و كانت زوجته امرأة جميلة للغاية و قد أثبتت الأيّام لاحقاً أنّنا كنّا أفضل صديقيْن لبعضنا . كان صديقي بيل هوبكينز على العكس منّي في سلوكه تجاه منتقديه ولم يكن ليؤمن أبداً بسياسة ” أدرْ له خدّك الآخر ” و كان أن نشأت بينه و بين بارنيت قطيعةٌ مزمنة لم تصلحْها الأيّام ، و لطالما راودني شعورٌ أنّ بيل يعيش أجواء القرن التاسع عشر برموزه الكبيرة ( من أمثال فكتور هوغو ) والصراع المعلن بين الرومانتيكيّين والكلاسيكيّين . وأظنّ أنّ بيل فشل في إدراك حقيقة الفرق الجوهريّ بين صحافة القرن التاسع عشر الصارمة و نظيرتها في القرن العشرين حيث البحث عن جوانب إثارة الأحاسيس بكل الوسائل الممكنة .
كانت المواقف العدائيّة الّتي قوبلتُ بها بعد نشر اللامنتمي قد وصلت أحياناً آفاقاً غير مسبوقةٍ أو متوقّعة : ففي أحد المساءات انضممْتُ إلى دعوة عشاء أقامها ( مارغوت وارمسلي ) مدير الأعمال في مجلّة ( إنكاونتر Encounter ) المرموقة و كان يجلسُ قبالتي الروائيّ كونستانتين فيتزغيبون ، وعندما سألني مارغوت عن رأيي في أعمال ( ديلان ثوماسDylan Thomas أجبتُ بالقول إنّي لا أحبّ معظم أعماله ، وفي تلك اللحظة رأيتُ فيتزغيبون وقد تصاعد الدم في وجهه حتّى غدا قرمزيّاً داكناً ثمّ راح يصيح في وجهي و يدعوني إلى القتال خارج المطعم و هو يصرخ مزمجراً ” أّيّها الوغد ، هل تظنّ نفسك ملكْتَ العالم بسبب تلك الإطراءات البلهاء الّتي صبّها عليك بعض الأغبياء ؟ ” ، و دهشْتُ كثيراً عندما سمعت بعد يومين من تلك الليلة أن فيتزغيبون ذاته دلق علبةً من البيرة على رأس صديقٍ لي لأنه دافع عنّي في إحدى حانات سوهو !! .
لعب صديقي بيل هوبكينز دوراً ميكيافيليّاً في حياتي : كان دائم الإطراء على ذلك الجيل الأقدم من الكُتّاب الجريئين المقاتلين غير الهيّابين أمثال : هوغو ، زولا ، ويلز ، شو و كان رأيه دوما أنّ الكاتب ينبغي أن يكون له تأثيرٌ مجتمعيٌ واضحٌ و كان أكثر ما يزدريه هو فضيلة ” الهدوء المتّسم بالوقار ” كما كان مثاله الأعلى هو نمط الكاتب – السياسيّ الّذي بشّر به شو في بعض كتاباته . لم يبْدِ بيل – و هو الأمر الّذي أثار دهشتي – أي حسدٍ تجاهي ، ولكنّ نجاحي خلق فيه نوعاً من الانضباط والعزيمة الصارمة لكي يضمن له اسماً في عالم النشر و القراءة فبدأ العمل مثل آلةٍ بخاريّة على رواية أسماها (المقدس و الخراب The Divine and the Decay) الّتي سرعان ما تلقّفها الناشر هوارد صامويل ورئيس تحريره الشاب اللامع توم ماشلر : الشاب العصاميّ الّذي صنع شهرته الإعلاميّة بنفسه ، ورأى ماشلر أنّ النجاح العارم الّذي هبط على جماعة ( الشباب الغاضب ) ينبغي استغلاله على المستوى التجاريّ فجاءت رواية هوبكينز لتكون بمثابة لقيةٍ سماويّة تساعده في حجز موقع لاسمه في خضمّ دهاليز النشر التجاريّة المربحة . و هكذا انطلق ماشلر في إعداد كتابٍ بعنوان ( إعلان Declaration ) أراده أن يضمّ سلسلةً من المقالات الّتي كتبها جماعة الشباب الغاضب ، و رفض كلّ من كينغزلي أميس و أيريس مردوخ بحكمة و بصيرة المشاركة في الكتاب سواءُ بتدبيج مديح له أو المشاركة بمقالة فيه و هكذا وجد ماشلر نفسه مجبراً على إشراك كلّ منّي ، و أوزبورن ، و وين ، و تيتان ، و بيل هوبكينز ، و مخرج الأفلام لندساي أندرسون ، و الروائيّة دوريس ليسنغ ، و ستيورات هولرويد الّذي كان نشر حديثاً روايته ( الانبثاقُ من الفوضى Emergence from Chaos ) الّتي نشرها غولانز ناشر كتبي و كتب في غلافها الخلفيّ أنّها تحمل رسالة شبيهة برسالة كتابي ( اللامنتمي ) و أنّ كاتبها هولرويد لم يتأثّر بي أبدا و هو الأمر الّذي أرى أنّ غولانز جانبَ الصواب فيه كثيراً ، و لكن على أيّة حال حاز كتاب هولرويد قدراً عظيماً من النجاح و الاهتمام وساهم إلى حدّ بعيد في تعزيز الهوس الجماهيريّ بجماعة الشباب الغاضب . و لكنّ ذات النقّاد الّذين بالغوا في إطراء اللامنتمي شنّوا منذ البدء هجوماّ كاسحاً و ظالماً ضدّ هولرويد وكان واضحاً منذ البدء أنّهم عزموا على عدم السماح ببزوغ نجمٍ جديد صاعد يحقّق شهرة و نجوميّة إعلاميّة بين ليلة و ضحاها كما حصل معي ، و الحقُّ أنّ كلّاً من ستيوارت و بيل كانا ضحيّتيْن لنجاح اللامنتمي و فشلا للأسف في فهم مسألةٍ على قدرٍ كبير من الأهمّية : إنّ كلّ نجاحٍ جماهيريّ عاصف لا بدّ أن ينتهي يوماً ما بردّة فعلٍ عنيفة معاكسة !! .
كان نجاحي الماليّ بعد نشر اللامنتمي ملحوظاً و لايمكن إغفاله : فقد طبع ناشري غولانز في البدء طبعة أولى من الكتاب بخمسة آلاف نسخةٍ نفدت خلال ايّام معدودات ثمّ تتالت الطبعات حتّى بيعت من الكتاب أربعون الف نسخة و أبْدت دار نشر ( هوتون ميفلين ) الأميركيّة العملاقة رغبتها في طبع الكتاب و تسويقه في أميركا وهذا ما حصل بالفعل و نُشر الكتاب في شهر أيلول من عام 1956 ، كما نشرت مجلّة ( تايم Time ) الأميركيّة حواراً معي امتدّ على صفحة كاملة قبل وقت قصير من نشر الطبعة الأميركيّة و سرعان ما أصبح الكتابُ واحداً من أكثر الكتب مبيعاً وظهرت صورتي المنشورة على صفحات مجلّة ( لايف Life ) الذائعة الصيت وأنا مستلقٍ في حقيبة نومي في هامبستد هيث و أرتدي السترة ذات العنق و أضحت تلك الصورة لاحقاً علامتي المميّزة و صرْتُ أعرَفُ بها منذ ذلك الوقت .
تمكّنْتُ بعد وقتٍ قصير من نشر اللامنتمي من مقابلة إليوت بعد أن علمْتُ أنّه يداوِمُ على الذهاب بانتظامٍ كلّ أحد إلى كنيسة القدّيس أوغسطين في منطقة ( بوّابة الملكة Queen”s Gate ) و علمْتُ أيضاً أنّه كان يعمل ناظراً للكنيسة ( أي أنّ أحداً لو حصل و تشاجر أو أربك الهدوء في الكنيسة لَكان واجباً على إليوت أن يمسك بمؤخّرة عنقه و يقوده إلى بوّابة الكنيسة ليطرده خارجاً ) ، وهكذا عزمْنا انا و جوي الذهاب إلى الكنيسة في أقرب يوم أحد للتأكّد من صحّة هذا الكلام ، و عندما فعلْنا ما عزمنا عليه وجدنا إليوت حاضراً بالفعل و لمحناه جالِساً على أحد المقاعد الخشبيّة الطويلة في مؤخّرة الكنيسة و كان مرتدِياً بدلة سوداء أنيقة مع قميصٍ يشعّ بياضاً و ذي ياقةٍ مُنشّاة فذهبْنا و جلسْنا قبالته ، و مع بدء الموعظة الدينيّة سمعنا صوت تحطّم زجاجٍ جعل كلّ من كان حاضراً يقفِزُ من مكانه ثمّ تعالت الأصواتُ ، و هنا وجدْتُ لزاماً عليّ أن أخرج لأرى ما كان يحدث فوجدْتُ العديد من زجاجات الحليب مهشّمةً أمام باب الكنيسة ولمحتُ عدداّ من الأطفال الصغار يتراكضون بعيداً ، وبعد أن تأكّدْتُ من ابتعادهم عدتُ إلى مقعدي و لمحْتُ نظرة امتنان ودودة تشعّ من عينيّ إليوت . ذهبّتُ الأسبوع اللاحق لرؤية إليوت في مكتبه بدار نشر ( فابر وفابر ) و كنت آنذاك أتعاونُ مع الشاعر ( رونالد دنكان ) في مسألة إطلاق سراح الشاعر المعروف ( عزرا باوند ) من السجن الّذي كان محتجزاً فيه بتهمة الخيانة و كنتُ ألتمس الحصول على توقيع إليوت على طلب الالتماس الداعي لإطلاق سراح باوند ، و بدا لي إليوت في مكتبه تماماً كما رايته في الكنيسة : رجلاً مهندماً يحرص على ارتداء ما يجعلهُ يبدو كمدير تنفيذيّ لشركة أعمال كبرى ، و عندما بادرْتهُ بالقول ” رأيتك الأحد الفائت في الكنيسة ” أجابني على الفور” أعلم وأتذكّرك جيداً ” ، فدهشْتُ و سألته ” وكيف هذا ؟ ” فردّ عليّ باقتضاب “و هل يوجد أحمقٌ سواك يحضرُ الكنيسة وهو يرتدي بلوزة ذات عنق؟ ” !! ، و من المثير في هذا السياق أن أروي تلك الحكاية الّتي كنتُ سمعتُها عن ( فاليري ) زوجة إليوت : ففي إحدى حفلات العشاء التي حضرها إليوت و زوجته قفز كلب صغير على كتفَي فاليري وراح يلعقهما بنهم ، و عندما شاهد إليوت هذا ابتسم و اكتفى بالقول ” أعلمُ تماماً كيف يشعر هذا الكلب الآن!! “.
_______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *