ريتشارد لينكلاتر: منازلة مع الزمن


*زياد عبد الله


لا تدّعي أفلام ريتشارد لينكلاتر (1960) انتصاراً على الزمن، لكنها تسعى إلى التحايل عليه واستثماره في سياق يسعى إلى تقديم قطعة من الحياة، أو بالأحرى قطعة مترامية ومطابقة للحياة، بكل ما أوتي من أدوات تتيحها السينما. وقد توّج مسعاه هذا في آخر أفلامه، “صِبا” (Boyhood)، الذي حصد “دب البرليناله” الفضي، وثلاث جوائز “غولدن غلوب” وثلاث جوائز “بافتا”، وعدة جوائز أخرى، وهو مرشح الآن لست جوائز “أوسكار”.
تأسست عملية تصوير الفيلم الروائي، التي استغرقت 12 عاماً (ابتداءً من عام 2002)، على آلية تسجيلية، يجسّدها عنوان الفيلم، “صِبا”، عبر الإمساك بحياة ميسن (إلير كولترن) من عمر السابعة إلى الثامنة عشرة، وذلك من خلال اجتماع طاقم عمل الفيلم لعدة أيام في كل عام للخروج بـ 10 إلى 15 دقيقة من حياته.
وقد شارك في التمثيل، إلى جانب إلير كولترن، كل من لورلي لينكلاتر (ابنة المخرج)، التي جسدت شخصية سامنثا، أخت ميسن، وباتريشيا أركيت التي أدّت دور الأم، وإيثان هوك الذي أدّى دور الأب، وهو ممثل لعب دور البطولة في أفلام كثيرة أخرجها لينكلاتر. أما فريق المونتاج فتولى توليف تلك الأفلام القصيرة، المصوّرة على مدى اثنتي عشرة سنة، للخروج بفيلم مدته 165 دقيقة.
يمكن لما صنعه لينكلاتر في “صِبا” أن يجد مرجعيات له تسجيلياً وروائياً، كما في السلسلة التسجيلية التلفزيونية “Up”، للمخرج الإنكليزي مايكل أبتد، التي تمتد من عام 1963 حتى عام 2019، بمعدّل حلقة من السلسلة كل سبع سنوات، يصوّر أبتد فيها شخوص عمله التسجيلي وما حل بها من متغيّرات وما آلت إليه من مصائر.
وفي آليته، يلتقي فيلم “صبا” أيضاً مع فيلم الإنجليزي مايكل ونترباتم “كل يوم” (2012)، الذي أمضى صاحب “الطريق إلى غوانتانامو” خمس سنوات في تصويره، بمعدل مرتين في السنة، راصداً المتغيّرات في حيوات أطفال رجل سجينٍ يمضي محكوميته.
يمضي فيلم “صبا” في خط سردي أفقي، يمتد مع نمو ميسن، وتهيمن عليه نزعة طبيعية أكثر منها واقعية، مشغولة بنسخ الحقيقي، وبالتالي بقول ما تصير إليه الشخصيات، وليس ما بمقدورها أن تكونه! ولعل تفاصيل حياة ميسن تقودنا مباشرةً إلى إيهام المشاهد بأنه حيال حياة كاملة يعيشها في تفاصيلها، وإن كان زمنها الفيلمي لا يتعدى الساعات الثلاث، وذلك من خلال تقطيع مونتاجي مدهش، وتوالي المراحل العمرية من دون فواصل أو تواريخ، ومن دون “فلاش باك” ولا راوٍ.
فعلى سبيل المثال، يستيقظ ميسن وإذا به قد كبر سنة، أو يفشل البروفسور زوج الأم في إدخال كرة الغولف في الحفرة فيتبدّى بذيئاً مغايراً لما كان عليه، وتبدأ شخصيته بالتحوّل والانحدار.
يلاحق الفيلم سير الحياة من دون أن تنال منه ميلودرامية ما أو منعطافات درامية تخلّ بالمسار الطبيعي للأحداث، كما هو الحال مع علاقة ميسن وسامنثا بأبيهما الذي يمضيان معه بعض عطل نهاية الأسبوع، فيسأل ميسن أخته: “هل تظنين أنه سيمضي الليلة معنا؟”، الأمر الذي لا يتحقق، إذ سرعان ما ينشب خلاف بين الأبوين المطلّقين، يراقبه ميسن وسامنثا بواسطة منظار بلاستيكي.
تمضي الحياة في فيلم “صبا”، وتنتقل الأم من خيبة إلى أخرى، حيث تكمن منعطفات درامية ذات نزعة طبيعية، يتم فيها تصوير الحب والزواج كلعنتين تطالان حياة ميسن وأخته، علماً أن الأم هي التي ستبقى وحيدة في النهاية؛ إذ سيعيش ميسن وسامنثا داخل عائلة الأستاذ الجامعي الذي سيتزوج من أمهما فيصبح لهما أخ وأخت جديدان هما ابنا الأستاذ.
وسيبدو كل شيء على ما يرام، مع ممارسة الأخير دور الأب، إلا أنه سرعان ما يصبح كحولياً وعدوانياً، ما يدفع الأم إلى الهرب بابنيها، ثم إلى الزواج مجدداً من جندي في الحرس الوطني خدم في العراق والبوسنة، يقع بدوره في الإدمان على الكحول. كما لو أن الرجال محمّلون بغضب كامن سرعان ما ينفجر بالأم وولديها، وكما لو أن بناء العائلة الأميركية آيل للسقوط دائماً.
الزمن التاريخي حاضر كخلفية ترافق أحداث الفيلم الرئيسية، كما يتجلى ذلك في طقس الحصول على نسخة من كتاب “هاري بوتر”، وفي الانغماس بألعاب الفيديو، بوصفهما مفصليين في حياة جيل أميركي ينتمي إليه ميسن؛ إضافة إلى أحداث تاريخية، يكون احتلال العراق الحاضر الأكبر فيها، ومعه مشهد الجنود الأميركان في الفلوجة المكرّر على التلفزيون.
وفي هذا السياق، يبدو الأب شديد العداء لبوش الابن، إذ يقول لميسن وسمانثا ألا يصدقا أن للعراق علاقة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر.
يشكّل الفيلم سجلاً للحياة الأميركية في الألفية الثالثة، بما يضيء على المعيش اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، مستنداً إلى العائلة الأميركية كمعبر إلى ذلك. وهذا السجل، الذي يكتمل مع “صبا”، يتكامل مع أفلام لينكلاتر الروائية، وتحديداً ثلاثيته “قبل الشروق” (1995) و”قبل المغيب” (2004) و”قبل منتصف الليل” (2013)، كونها الأكثر اتصالاً بالبناء الذي قام عليه “صبا” على صعيد الزمن.
فمع ثلاثيته هذه، نحن حيال قصة تكتمل فصولها مع الجزء الأخير منها، ونتابع فيها مآلات قصة حب بين جيس (إيثان هوك) وسيلين (جولي ديلبي)، وبالتالي تقدّمهما في العمر من جزء إلى آخر.
في رصيد لينكلاتر 16 فيلماً روائياً، تتمركز في غالبها حول الحياة الأميركية المعاصرة. ولعل انطلاقته الحقيقة أتت مع فيلم “سلاكر” (1991) حيث يجعل من الشخصية بناء فيلمياً كاملاً، ويأتي السرد متعاقباً من خلال تسعين شخصية؛ ما وضعه بقوة حينها على خارطة السينما الأميركية المستقلة.
وقد واصل سعيه الدائم في التجريب عبر اقتراح سياقات سردية متعددة في كل أفلامه، وعبر مواصلة البناء على الشخصية من دون سياق درامي، كما في فيلمه “حياة اليقظة” (2001) الذي ينتمي إلى نوع “الأنيماشن”، حيث تشظّي الزمن الذي يظهر أيضاً في “سكانر داركلي” (2006) بعوالمه المهلوسة الآتية من عقار “دي” وشخصية الفيلم الرئيسية التي تتساءل عن معنى الحياة. أما فيلمه “شريط” (2001) فاقتبسه لينكلاتر من مسرحية لستيفن بلبير، وتجري جميع أحداثه في غرفة فندق خلال ليلة واحدة.
لا يحتاج البحث عن كلمة مفتاحية لتجربة ريتشارد لينكلاتر عناءً كبيراً، فهي متمثلة في “الزمن” الذي يخوض المخرج صراعاً ضد مروره واقعياً وافتراضياً. وآخر تجليات هذا الصراع كامنة في “صبا”، من دون أن يفارقنا أيضاً ما يردده جيس من قصيدة أودن، “عندما تنزّهت ذات مساء”، في فيلم “قبل الشروق”: “بدأت كل ساعة في المدينة بالتملل والرنين/ لا تدع الزمن يخدعك/ لن يكون بمقدورك إلحاق الهزيمة به..”.
________
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *