*لطفية الدليمي
عندما “انقضّت العقبان على القصر الرئاسي”
العبارة الاستهلالية هي صاعق التفجيروهي الدخان الذي يؤذن بثورة البركان وانطلاق الصهير، سألتك: أيها المعلم ترى كم استلزم الأمر من السنوات لتصقل العبارة الاستهلالية في خريف البطريارك “انقضّت العقبان على القصر الرئاسي ” التي أعدها عبارة بحجم رواية تكفي لتغطية أحداث قرون عديدة.
كنت تحدق في المدى البعيد وراء البحر والسماء الغسقية الحمراء ونحن نشرب شاي المتّة بقصبات من أكواب مزخرفة وأجبت على تساؤلي بأنك انتظرتها سبعة عشر عاما لتشرع في سرد سيرة أنموذجية لجميع ديكتاتوريي عصرنا ، كتبت كتبا عديدة وأنت تنتظر اختمار صورة البطريرك الخرف في مخيلتك ، هكذا هي الأعمال الخالدة العظيمة لا تنضج بين ليلة وضحاها ولا تخضع لمجرد رغبة الكاتب في الكتابة فلا يتسرع في إنجاز عمله بل قد يهبه ربع سنوات عمره لينضج جيدا، وكذلك الأمر مع الأعمال الأوبرالية العظيمة: فأوبرا ” خاتم النبيلونغ ” لفاغنر استلزمت منه عشر سنوات أمضاها بين المانيا ومنفاه في سويسرا.
كم من الدروس تعلمنا منك يا معلم الرواية وسيد العزلة ؟؟ وكم حرضتنا أعمالك، فعندما قرأنا السقوط المدوي للبطريرك ،حلمنا أن تنقضّ العقبان على القصور المحصنة “لتحرك الزمن الراكد برفيف أجنحتها” كما فعلت العقبان في رواية (خريف البطريرك) وأيقظت المدينة من سبات قرون عديدة وتساءلنا حينها : ترى ،هل سيكون بوسعنا الإفاقة من سباتنا الدهري بعد انقضاض العقبان الحديدية على القصر الرئاسي ؟
كشف لنا ميندوزا برهة الإلهام التي منحتك إياها طائرة الفرار عندما هرب فيها ديكتاتور فنزويلا بيريز جيمينيز ،في تلك اللحظة الفريدة عندما حلقت طائرة الديكتاتور فوق ليل مدينة كاراكاس – ولدت لديك فكرة ” خريف البطريارك ” أنهيت كوب المتة وطلبت المزيد فقدّمتُ لك الشاي الياقوتي المعطر بالهيل وسرحت بنظرك بعيدا وقلت : “كان على متن طائرة الهيليوكوبتر جمينيز وزوجته وبناته ووزراءه وأقرب أصدقائه وكان الديكتاتور غاضبا وساخطا لأن مساعده الخاص ترك من فرط الاستعجال حقيبة فيها أحد عشر مليون دولار أسفل سلم الحبال الذي تسلقوه ليصعدوا الى الطائرة .”
وجعلتك تقهقه بضحكة مجلجلة حتى دمعت عيناك عندما أخبرتك أن حكامنا الذين خلفوا الديكتاتور بعد ثلث قرن من حكمه وحروبه الحمقاء ، لا يبالون بهذه الأحد عشر مليون دولار لانهم ببساطة نهبوا المليارات واستولوا على ميزانية البلد في وضح النهار، فعلق ميندوزا ساخرا :
– يبدو أن ديكتاتورنا كان تلميذا فاشلا في مدرسة اللصوص !
أكملت حديثك : كنا هناك في كاراكاس نغطي الأحداث لحظة هروب الديكتاتور، فتوقفت إذاعة الموسيقى الكلاسيكية بعد ثلاثة أيام من البث المتواصل في انتظار سقوط الديكتاتور ليعلن المذيع خاتمة الحكاية ، لا تنس بيلينو : ذلك المشهد الجمالي العجيب عندما رأينا الأنوار تضاء في نوافذ كاراكاس تباعا وكأنها مصابيح شجرة عيد الميلاد، بعد هرب الرجل وفي الصباح الباكر نفخوا في الأبواق ودوت صافرات المصانع ورفرفت رايات النصر في الطرقات.
قال ميندوزا :كانت تلك هي المرة الأولى التي نشهد فيها سقوط ديكتاتور.
قلت لكما – في بلادنا ما عدنا نحصي مرات السقوط التي مرت أمامنا ونتوقع المزيد منها كل حين ،كم أتمنى ان يتاح لي ما يكفي من الزمن لأكتب عما شهدت.
همس لي مندوزا : أتعلمين لقد قرأ غابيتو جميع السير الذاتية للحكام المستبدين ،واكتشف أن جميع حكام أميركا اللاتينية المستبدين قد أصابهم الجنون، وأن جميعهم أبناء أرامل ، يا للمصادفة ! سأروي لك لاحقِا قصصا حقيقية عن هؤلاء المختلين.
يتبع
______
*المدى