آلة الجوزة البغدادية


رحمن خضير عباس*

( ثقافات )


لم يبق من سفرة أبي بشّار البغدادي سوى يومين ،ثم يعود الى كندا حيث يعيش منذ فترة طويلة. لقد قضى شهرا كاملا في بغداد ، لغرض مراجعة المعاملة التي تقدم بها قبل خمس سنوات الى وزارة الهجرة العراقية ، للرجوع الى وظيفته ومن ثم الحصول على راتبه التقاعدي ، وفق قوانين الفصل السياسي . تذكر ذالك وهو ينزل من ( الكيّة ) إلتي اقلته الى باب المعظم ،كما تذكر إلحاح أخيه حينما أكّد عليه في مكالمة هاتفية. يقول فيها :
” معاملتك.. عادت مرة اخرى الى الوزارة ، لعدم استيفاء المستمسكات ، وعليك ان تأتي سريعا لإستكمالها” 
كان صوت الأخ مترددا وكأنه غير واثق من من المعلومات التي باح بها لأبي بشار البغدادي ، توصل لتلك القناعة حينما اضاف اخوه ” انت شخاسر …وصّل الكذاب الباب الدار “
ولكن توصيل الكذاب الى باب الدار قد كلف ابا بشارالبغدادي سفرات متتالية ، تحمّل فيها الكثير من الجهد والمشقة والتردد عبر المدن والدوائر وأخذ الصور ، وتنفيذ إستنساخ الوثا ئق ، لاسيما إصرارهم على البطاقة التموينية ! والجنسية وشهادة الجنسية وبقية وثائق العمل والدراسة والشهود . وحينما اكمل كلما أرادوا ، وقدم المعاملة التي تم فحصها من قبل الكاتبة وهي تلوك صمونة تفوح منها رائحة السمّاك المبثوث على الكباب . قالت له :
” إنشاء الله ، سنرسلها في اقرب وقت الى الأمانة العامة لمجلس الوزراء “. قال لها بلهجة اقرب الى الرجاء :
– يعني اعتمد عليك ؟ أجابته وكأنها تهزأ منه ” إعتمد على الله ” . حدث هذا قبل خمس سنوات ، واعتقد بان رجوعه الى الوظيفة سيكون وشيكا . لعلها فرصة لإستعادة بعض شذرات العمر التي تسربت منه وهو يبحث عن مأوى بين بلدان العالم . فكر بينه وبين نفسه : ” وأخيرا سأعود الى بغداد الحبيبة ،وسأستنشق طعم التراب الذي غادرته مرغما ، تراب الأرض التي تشققت من يباب الحروب والحصار والغزو ووو.. 
– (هييييه ….ماتشوف )
سمع صرير كوابح سيارة مسرعة كادت ان تدهسه والركاب يصيحون عليه بأنْ ينتبه حينما يعبر الشارع .. لم يكن باب المعظم هو ذاته الذي تركه في نهاية السبعينات . لم يبق منه سوى اسمه وبقايا هياكل لعمارات مهملة تشبه الأطلال ، ومحلات تجارية تتكوم على بعضها بشكل عشوائي ، أمّا الأرصفة فقد تحولت الى واجهات فضفاضة لبيع البضائع المستوردة . 
رائحة دجلة تستحثه للمضي نحو اليمين . كان يعرف ايام شبابه منطقة الحيدرخانة وشوارعها الضيقة وخاناتها ومقاهيها . كما لم ينس ساحة الميدان المزدانة بباصات أمانة العاصمة ذات الطابقين والتي تطرز شوارع بغداد . لم ينتبه الى إختفاء طوب ابو خزامة وهو غارق في دهشته ، وحينما دلف الى مقهى حسن العجمي ، لم يجد من يتعرف عليه من رواد المقهى ، فآخر قدح للشاي إرتشفه مع شلة أصدقائه قبل انطلاقهم الى شارع أبي نؤاس ، كان قبل أربعة عقود بالتمام والكمال . استسلم لشعور غامض وهو يستمع لصاحب المقهى ، الذي حاول جاهدا إرشاده الى محلات بيع العود والجوزة . 
– ثالث دربونة على إيدك اليسرة ، ماراح إتّيهْ .
مشى بخطوات متعثرة من خلال زقاق بغدادي مهمل ، حيث الشناشيل المتهالكة والملوثة بغبار السنين ، اخشابها القديمة والمتآكلة تتجانس مع لون الجدران القديمة الآيلة للسقوط ، وفي لجة هذا المشهد وجد نفسه امام الحانوت الذي يختص بصناعة وبيع آلة الجوزة التي كان يبحث عنها . عرّف نفسه لصاحب الحانوت الذي أدرك بحاسته أنّ ابا بشار البغدادي مغترب يبحث عمّا يذكره بالوطن . كان الحديث قد تشعب بينهما ،من تدهور الحالة في بغداد وبؤس شارع الرشيد الذي تحول الى مركز للنفايات الى الوضع الأمني ، مرورا ب ( تركي الجرّاخ ) الذي كان من أوائل من اختص بصناعة الجوزة ، التي دخلت بشكل رئيسي في الجالغي البغدادي آنذاك . هذا ماكان يقوله الحاج عباس وهو منهمك في وضع اللمسات الأخيرة على جوزة كانت قيد الإنشاء ..ثم يضيف بصوت مبحوح : أختار بنفسي جوزة الهند . واقطعها الى نصفين ، ثم اغلفها بجلد سمك الجرّي ، استخدم الشريص في لصق الجلد بالجوزة , وهو من مسحوق البامية . 
وماذا عن الخشب ؟ 
أجابه بصوت الواثق من نفسه ..نصنع الزند والقوس من خشب السيسم ..ثم اضاف وهو ينفث دخان سيجارته ونستعمل الوتر من ذيل الحصان . جرّب الحاج عباس عزف الجوزة لتجربتها . فلم يكن من ابي بشار البغدادي سوى ان يتهالك على المقعد الجلدي ، فيتناهى له صوت شجي وكأنه يحاول أنْ يخترق حزمة السنين التي مضت . 
– كنت أظن أنّك تصنع الجوزة فقط، ولم أعتقد انك تجيد العزف ! 
ضحك الحاج وهو يضع الجوزة في كيس من المشمع الأنيق 
– لايمكن أن تصنع الآلة الموسيقية دون معرفة أسرارها . 
وكأنه يحتضن حبيبته حمل ابو بشار البغدادي آلة الجوزة بعد أنْ تأكد من تغليفها . نسيّ في غمرة إندهاشه أنْ يمرَّ على محل ( شربت زبالة) ليخفف سعير العطش الذي لازمه منذ الصباح . كانت الشوارع والأزقة متداخلة يشكل بدائي ، فوضى الزحام ومخاوف الموت وسعير أنباء الأنفجارات التي تمزق المدينة وتجعلها حقلا للشك واليأس واحتمالات التشظي موتا من سيارة مركونة ، كأنها شيطان خرافي يلتهم البشر والحجر والحياة . اتجه نحو جسر الشهداء . كان نهر دجلة يجري بهدوء ، وثمة هواء مشبع بالرطوبة يلامس حبيبات العرق التي تنضح من جبهته . وحالما بدت (الشواكة ) أمام عينيه الغائمتين حتى احسّ بان بغداد التي يتسكع على جسرها العتيق في هذه اللحظة المكثفة والمشفوعة بشتى الإحتمالات ، ليست ببغداد التي إفترشت ذاكرته طيلة هذه السنين المشحونة بالحنين والأرق ، والتي قضّاها بين الملاذات التي تشعّ أمنا وإنسانية . 
– كان يهذي مع نفسه أحيانا ” مالذي جعلك تلهث راكضا وراء سراب الحقوق ؟ أوهمت نفسك بأن ميزان العدل عاد الى نصابه “. تَذكرَ أنه كان معجبا بمحام ألماني كتب خلاصة تجربته في القانون وألقاها امام نقابة المحامين في حفلة توديعه . كان ذالك في نهاية القرن التاسع عشر . حين طبعت المحاضرة ككتاب . حاول أبو بشار البغدادي أنْ يقتني الكتاب ويلتهم سطور التجربة ، التي تؤكد على فلسفة الحق والصراع من اجله . حتى حاول أن يترجمه الى اللغة العربية ، ولكن سخرية صديق ، علقَ على إهتمامه بمضون الكتاب ، هي التي أثنته عن ذالك ” نقعه واشرب ماءه ” ولكن هذه السخرية التي أزعجته تلك اللحظة . أصبحت جليّة وواقعا ملموسا ،وها هو يحوم كالتائه من دائرة الى اخرى . يتقاذفون به ككرة البنك بونك في ظل فوضى خرافية وزحام بدائي . 
– هل صدقت كذبة التغيير وعودة الحق الى نصابه ؟ كنتَ ساذجا ، وجئت الى هنا متحمسا لإحياء الأيام القديمة التي استوطنت ذاكرتك ، وأبت أنْ تبارحها طيلة سنين الغربة ولوعتها وأشجانها. خسرت كل شيء بعد إنفصلت عنك زوجتك ، والتي تركتك وانت في الهزيع الأخير من ليل العمر المعتم ، وبقيت وحدك لايؤنسك الا إصرارك الدؤوب على القراءة والكتابة . في البداية شعرتَ وكأن كابوسا ثقيلا ينزاح عن صدرك بعد أنْ تحملت نزقها وتبدل أمزجتها ، وترفها وإسرافها . حاولت المستحيل أن تصلح ذات البين من أجل إبنك الوحيد الذي حُرمتَ من رؤيته . كم مرة طلبت منه أن يزورك الى شقتك الصغيرة ولو مرة في الشهر.. فقال انه يعمل في ماكدونالدز ولاوقت لديه فقلت له : سادفع لك ساعتي عملك وتعال هنا لتنهي واجباتك المدرسية .. ولكنه رفض الفكرة ، وجعلك تتوهج على صفائح الإنتظار ، حتى نسيت أنّ لك إبنا ، وها أنت تتدثر بالأحلام من زمهرير الوحدة والنأي . 
وفجأة .. يسمع صوتا رهيبا وكأنه زلزال مدمر ، جعل الشوارع ترتج بالسابلة المتدافعين ، والسيارات المسرعة . كان الدخان يتصاعد والناس يصرخون . شد الجوزة الى صدره وراح يركض مع الناس وفي نفس الإتجاه . كانت انفاسه متلاحقة والعرق يتصبب على جبهته .والأصوات المبحوحة من البشر تؤكد ان التفجير غير بعيد عن علاوي الحلة . اصبحت الشوارع مسرحا لفوضى الضجيج والصراخ وسيارات الإسعاف والحريق . كان يركض بإتجاه الدخان ، يبحث عن اللهيب الذي يحرق الحياة ويدمرها . لم يمتلك فكرة عما يريد عمله ولكنه كان ينساق بنفس الإتجاه وكأنه يريد أنْ يقبض على جمرة الموت التي تغتال روح المدينة . غبار الطريق ورائحة غريبة تملأ الشوارع . لم يستطع ان يصل الى هناك ولكنه شاهد بأم عينيه كيف يذيقون مدينته جرعات من الموت اليومي ، جرعات من الرعب والقتل والعذاب . جلس على الرصيف ليلتقط أنفاسه المتلاحقة ويمسح العرق الذي كان يسحّ من جسده ويصعد الى وجهه فتغيم نظارته بعتمة ضبابية .كانت دموعه تتارجح بين مقلتيه ، لأنه لم يستطع ان يفعل شيئا . وكانه يحمل حقيبة ثقيلة حمل جسده المنهك ، وذهب بعيدا في شوارع لاتعرف الرحمة .
في الصباح التالي ، كانت سيارة الأجرة تحمله الى ساحة عباس بن فرناس ، ومن هناك أقلته سيارة اخرى مرخصة للدخول الى المطار . ومنذ صعوده من الساحة حتى وصوله الى شبّاك الجوازات تعرض وبقية المسافرين الى اكثر من عشر مرات من التفتيش للحقائب والملابس والجوازات وبطاقات السفر .وكان المكان يغص بالمسافرين والحمالين والسواق والشرطة . وفي كل نقطة للتفتيش كان عليه أن يمرر حقائبه والجوزة من خلال أجهزة السونار ،ثم يُطلب منه انْ يفتح الكيس لتظهر الجوزة الى العيان ، ولم يصدق أنه طبع جوازه ولم يبق أمامه الآ شرطة الكمرك . 
ماهذا الذي تحمله معك ؟ ساله الشرطي وهو يقارن بين صورته في الجواز وبين ابي بشار المتعب والواقف محتضنا جوزته . 
إنها جوزة .. ثم أضاف يعني مثل الكمنجة ..اشتريتها من الحيدرخانة ..
أخذها الشرطي وأخضعها لتفتيش دقيق ، ثم ذهب الى الضابط المسؤول الذي بدوره اعاد تفتيشها ثم إلتفت الى ابي بشار الذي كان مستغربا .
– ممنوع خروج الألات الموسيقية ، إلا بموافقة من وزارة ألثقافة .
قالها المسؤول وهو ينسحب بدون مبالاة ، تاركا ابا بشار البغدادي يغلي من الغضب والمهانة ، وهو يهذي الى نفسه بصوت باهت أقرب الى الحشرجة . وكأن هذه الآلة التي استلت منه اشبه بقطعة من جسده . كان يستلقي على الكراسي في قاعة الإنتظار مهموما ، تذكر شعوبي إبراهيم الذي كان يضيء ليالي بغداد بجوزته ، وتذكر عذوبة الجالغي البغدادي وهو يهمُّ بالدخول الى متن الطائرة . 
منذ عودته الى كندا ، قبل أسبوعين وهو مهموم بالجوزة ألتي صودرت منه .حتى أنه نسي فشله في الرجوع الى الوظيفة او التقاعد وذالك لأنه كان يشعربخضوعه الى عملية أشبه بالسلب منها الى المنع . شعر بالأسف لأنه لم يحتج ويقول لهم : بانكم لم تحافظوا على ثروات البلد . من الخبرات المهاجرة الى الآثار المسروقة ، وتمنعون عني آلة موسيقية ليس لها علاقة بالتراث .
– لا لن اجعلهم يسرقون مدينتي . ساصنع الجوزة هنا
احس ببعض الحماس لهذه الفكرة . لبس ملابسه بعجل وخرج الى اسواق الخضرة والفواكه في اوتاوة. إشترى جوزة هند من ( متجر لوبلوز) ، ثم ذهب الى سوق السمك ليشتري ( كات فش ) التي تشبه الجرّية العراقية . حالما عاد الى البيت حتى شمّر عن ذراعه بقطع جوزة الهند الى نصفين . وبعد ذالك فتح السمكة بشكل يحافظ على جلدها ، نجح في مهمته ، ووضع الجلد ونصف الجوزة على الطاولة ، ثم إنهمك في قطع حبات البامية وترك الأشياء كي تجف . وفي الأيام التالية ظل يبحث عن خشب مناسب ، واعتقد جازما بانه سيجده في محلات ( سلفيشن آرمي) التي تبيع القديم من الأدوات ” ساشتري كرسي قديم وساستفيد من قوائمه الخشبية ” . في ظرف اسبوع كان قد جهز كل شيء واستعان بصديق لتحوير الخشب كي تصبح كالزند ، وكالقوس .وانهمك في عمله المثابر حتى وصل الى قناعة كاملة أنه استطاع ان يصنع هذه الآلة البغدادية . لم يجد شعرات ذيل الحصان ولكنه اشترى اوتارا من محل يبيع الأدوات الموسيقية . وضع المشط وشد عليه الوتر ، ثم طلى الجوزة بالورنيش ، ولم يبق لديه سوى أن يجرب صوتها . مرر القوس على الأوتار ولكن صوتها لم يكن مقنعا .. حاول مرات عديدة بعد ان قام بتنظيم الأوتار وتوزيعها . ولكن صوتها كان اشبه بالحشرجة منه الى صوت الجوزة .
هوّن على نفسه قليلا ، بفكرة انه ليس عازفا موسيقيا حتى يهتم للأداء والصوت ، إنّما هو عاشق للتحف البغدادية ، لذا فقد علقها على الحائط قريبا من النافذة ،وجعلها تعانق اوتار القوس فبدت له كأنها لوحة فنية تضج بالحياة ، مما أشعره بسعادة طارئة ، وكأن هذه الآلة قد أضفتْ على شقته البائسة مسحة من الفرح ، لم يألفه من قبلُ

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *