*أدونيس
-1-
بدا المشهد في باريس (الأحد.11.1. 2015 ) مدهشاً، واقعاً ورمزاً: غربٌ موحد، ثقافياً وسياسياً، في التوكيد على الديمقراطية والتمسك بها، وعلى حقوق الإنسان وحرياته، وعلى رفض العنف والإرهاب في مختلف أشكالهما.
الأحرار في العالم العربي ينتمون إلى هذا المشهد ويعملون مع العاملين لكي يصبح كونياً.
هكذا يرون أن هذا المشهد كان سيبدو أكثر إدهاشاً لو أن «صورته» تتطابق حقاً مع معناه:
1- لو أن لهذه الصورة المعنى نفسه، والحضور نفسه لا «داخل» البلدان الغربية، وحدها، بل أيضاً «خارجها» في البلدان العربية وغيرها من بلدان العالم.
2- لو ان الحرب على الطغيان والإرهاب خارج البلدان الغربية، تتم ثقافياً وديموقراطياً، كما هو الشأن فيها. وليس بطغيان أشد، وإرهاب أكثر توحشاً كما هو الأمر في البلدان العربية والإسلامية.
نعم «كلنا شارلي». لكن هذه «النعم» لا تتوقف عن التململ صارخةً: أين الجناح الآخر لطائر الحقيقة؟ ولماذا لا نقول:» كلنا فلسطين»؟ وكلنا مع حقوق الإنسان وحرياته؟ وكلنا مع السلام ضد الحرب؟
-2-
قضية « شارلي ايبدو» مرتبطة، جوهرياً، في الثقافة الغربية، بمبدأ الفصل الكامل بين ما هو ديني من جهة، وما هو سياسي ثقافي اجتماعي من جهة ثانية. كل شيء لإعادة النظر، وللنقد، من أجل مزيد من المعرفة. وهذا يفترض الحرية الكاملة: رأياً وتعبيراً. وفي هذا الإطار، نُقدت التوراة، منذ سبينوزا. ونقدت المسيحية والأناجيل. ونُقد شخص المسيح نفسه.
وإذاً ينبغي على العرب أن يتفهموا هذه المسألة، موضوعياً. دون ذلك سيبدون أنهم يمارسون القمع والعنف والإرهاب ضد الإنسان الغربي، حقوقاً وحريات.
لكن يبقى سؤالٌ، يرتبط بطبيعة الرسوم الكاريكاتورية: هل الغاية منها هي حقاً المعرفة، والحوار الإنساني مع الإسلام، أم أن الغاية تكمن في مجرد السخرية والاستفزاز؟
وإذا كان الجواب في الاحتمال الثاني، وهذا هو الأرجح، فإن القانون المدني في الغرب يعاقب على القدح والذم. وحبذا، إذاً، لو كان العرب والمسلمون تعاملوا مع هذه الرسوم، قانونياً، ووفقاً للتشريع الغربي ذاته.
-3-
هذه مناسبة تستدعي الإشارة إلى أن الغالبية العظمى في الجمهور العربي قلما تغضب للقضايا المصيرية الكبرى، المرتبطة بحياة الإنسان العربي، واستلاب أرضه، وتشريده أو تفقيره وتجويعه، أو اضطهاده وسجنه، أو حتى غزْوه واستعماره.
فثقافة هذه الغالبية تدور حول الشخص، لا حول الفكرة، وتُعنى بالشكل والمحافظة عليه، لا بالمعنى والدفاع عنه. وهي تتمحور إجمالاً حول الأهواء والمصالح والانتماءات، لا حول البحث، والمعرفة والتقدم.
-4-
أتخيل أن المدن «الميتة» في البلدان العربية: «مدينة حمورابي»، و»مدينة الأبجدية» و»مدينة الأهرام»، عقدت لقاءً في باريس لِتَدارُسِ الأوضاع الراهنة، لمناسبة الأحداث «المشتركة» بين العرب والغرب. وقد قررت في هذا اللقاء أن تُوجه رسالة إلى باريس، حصلت على نسخة منها، هي مجموعة «كبيرة» من الأسئلة، اختار للقارئ عدداً منها هي التالية:
1- أنتِ، يا أمّ «الثورة الفرنسية»، مع حقوق الإنسان وحرياته، منذ انتصار ثورتك: معها، لا في فرنسا وحدها، بل في العالم كله.
لماذا، إذاً، تتردّدين في الوقوف إلى جانب شعب (ربما سيُمنع قريباً حتى ذكر اسمه) – شعب يُشرّد وتهدم بيوته، ويقتل، يومياً، منذ أكثر من نصف قرن: الشعب الفلسطيني؟ وهي حالة لا مثيل لها في التاريخ، منذ إبادة الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأميركية.
2- لماذا تقولين شيئاً وتفعلين شيئاً آخر؟ تقفين، نظرياً، إلى جانب الشعوب في كفاحها ضد الطغيان، وتقفين عملياً مع جماعاتٍ في هذا الكفاح، أشد طغياناً، وأكثر إيغالاً في احتقار الإنسان وامتهانه، نظرياً وعملياً؟
3- تملكين متاحف لحفظ المنجزات الإبداعية البشرية تُعدّ بين أجمل المتاحف وأغناها في العالم. فكيف تقبلين أن تنهب المتاحف في البلدان العربية، ويُعبث بها، وتدمّر الآثار التي تحتضنها – من قبل جماعات تشاركين في دعمهم وتسليحهم، بحجة الحرب على الطغيان؟ وكيف يمكن أن «تشاركي في شراء» مرتزقة من جميع أنحاء العالم للقيام بثورة من أجل تحرير العرب من الطغيان؟
أهناك «ثورة» تقوم على الارتزاق والمرتزقين؟
4- أنتِ أعطيتِ للمرأة حقوقها كاملةً، المرأة بإطلاقٍ وليس للفرنسية وحدها. فلماذا تقفين إلى جانب مجموعات تفرض على المرأة قيوداً مهينة للقيم الفرنسية ذاتها – تُرجم حتى الموت، او تُعرض في الأقفاص للبيع كما تُباع (الدواجن والحيوانات) أو تُمنع من أن تمارس أبسط حقوقها الإنسانية؟
5- نحن المدن «الميتة» نضم صوتنا إلى جميع الأحياء، ونكرّر أن المشهد فيكِ (11/1/2015) كان مدهشاً وفريداً. ونضيف أنه جدير بأن يكون فاتحة جديدة وإنساناً جديداً: لديموقراطيةٍ تتطابق فيها «الصور» و «المعاني»، لا على المستوى الغربي وحده، بل على المستوى الكوني أيضاً.
لكِ تحية القانون الحمورابي، وتحية الأبجدية.
– 5 –
هل تمكن، حقاً، البرهنة على صحة العقيدة بِقتل مَن لا يؤمنون بها، أو بِقتل من يرتدّون عن الإيمان بها؟
أتذكّر في هذا الصدد ما يقوله نيتشه:
«الدم يفسد أصفى عقيدة، يحوّلها إلى نوع من الهذيان (…) إنّه أسوأ شاهد للحقيقة».
– 6 –
الناظر الآن إلى الوضع العربي، السياسي والثقافي والاجتماعي، لا يقدر إلاّ أن يتذكّر «ألف ليلة وليلة» في مختلف دلالاتها، وعلى جميع الأصعدة:
«الخرافة» حقيقة عليا، والشياطين ملائكة، والفضاء قصر جنسي بلا حدود، والضحك ليس إلا فاجعة.
ويكاد الكذب أن يكون، هو وحده، الصدق.
– 7 –
تأخرت الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية في اتخاذ القرار بمحاربة الإرهاب. وهو تأخّر يعزوه بعض المحللين إلى انشغالها في كيفية الخلاص من «مخلوقاتها» هي، وما الخطط التي سترسمها، من جديد، لِتَسْويق هذه «المخلوقات» وتسخيرها.
نأمل ألاّ تشطح بهم المخيّلة، بحيث يتحوّل القرن الحادي والعشرون إلى قَرْنٍ يكون الإرهاب اسْمُهُ الأوّل. وآنذاك سيكون امتداداً لرؤيا يوحنّا.
والسؤال الأشد رعباً وإقلاقاً في هذا الإطار هو: كيف سيبدو العالم العربي – الإسلامي – اليهودي، منظوراً إليه بعيْنَيْ يوُحنّا، وبرؤياه؟
في هذا الأفق، أتمنّى أن يطرح كلّ عربيّ على نفسه هذا السؤال: ماذا قدّمت سياسة الولايات المتّحدة للعرب، معرفةً وعلماً وتقنيةً، خصوصاً في الميادين التي تساعدهم على الخروج من الثقافة القروسطيّة، وعلى التقدّم، بدءاً من نشوء إسرائيل؟
أقول: العرب، لا الأنظمة.
والجواب هو أن هذه السياسة لم تقدّم لهم إلاّ ما يَسْتلب أو يطمس حقوقهم في تلك الميادين – خصوصاً في التحرّر، والتقدّم، وفي الحياة الحرّة الكريمة. وذلك يتجسّد على النحو الأكثر وضوحاً ومباشرةً في فلسطين.
إنها، بعبارةٍ ثانيةٍ، تكرّر موقف المؤسّسين الأوائل، من السّكان الأصليين – الهنود الحمر، بتدميرهم من داخل، وإبادتهم، أفراداً وجماعات، وبِحَصْرِ ما تبقّى منهم في «معازل» أو في «خيام» و»أكواخ».
هكذا، ليست قضيّة الفلسطينيين، بالنسبة إلى السياسة الأميركية قضيّة «وطنيّة» حَقّاً، وإنما هي بالأحرى قضية «غالبٍ منتصر» و»مغلوبٍ منهزم». وبما أنّها ليست «وطنية» فهي ليست «دولية». وتِبْعاً لذلك، ليس الفلسطينيون «مؤهّلين» للانضمام إلى مُنظّماتٍ دوليّة. ومعنى ذلك، ضِمناً، أنهم غير مؤهّلين لكي يكونوا «دولة». وعليهم، تِبْعاً لهذا «المنطق»، أن يتدبّروا أمورهم مع «الغالب»، مع إسرائيل نفسها. فمصيرهم هُو في يد إسرائيل، والقرارُ في هذا كلّه، هو ما تقرّره إسرائيل.
هكذا لا تريد سياسة الولايات المتحدة أن تتخلّى عن «ماضيها». فهي تعطي لإسرائيل الحق الكامل في إنهاء القضية الفلسطينية كما تشاء، وفقاً للزمان والمكان، ووفقاً للتصوّرات والخطط، تماماً على غرار ما فعل الأسلاف الأميركيون مع الهنود الحمر.
يبقى على العرب والفلسطينيين، بخاصة، أن يتسابقوا إلى الدُّخول في البرنامج الذي تعدّه الولايات المتحدة لتدريب العرب على كيفية حَمْل السّلاح للخلاص من الاستبداد والطّغيان في البلدان العربيّة، طَبْعاً، مع «فُروض» الإعجاب الكامل بـ «ديموقراطية» إسرائيل، و»احترامها» النّموذجيّ لحقوق الإنسان وحريّاته!
_______
*الحياة اللندنية