الإرهاب ومنابعه.. والحريات وحدودها


زليخة أبوريشة*



فتحت حادثة “تشارلي ايبدو” ملف الإرهاب ومنابعه مجدداً، وهذه المرة على مستوى الغرب كله. فظاهرة الإرهاب وحدها -دون منابعه- كانت شاغلاً أساسياً من شواغل دول أوروبا وأميركا منذ أن وُلدت “القاعدة” من رحم الحرب الأميركية ضد السوفييت في أفغانستان. ومع أنّ التعمية على هذه الولادة المشؤومة قائمة على قدم وساق، إلا أنّ الانتباه لأول مرة رسمياً إلى البيئة الحاضنة للإرهاب في أوروبا يشيرُ إلى اعتراف الحكومات هناك بأن منابع الإرهاب من صنعها، وعليها هي دون غيرها تجفيفها. فالكانتونات التي يعيش فيها المهاجرون المسلمون في فرنسا مثلاً، يجاورهم فيها فرنسيون مرتاحون اقتصادياً ومتعلمون وأحرار وآخذون جميع حقوقهم، بينما هؤلاء محشورون في لغاتهم الأصلية، مع فرنسية ركيكة، ومحاصَرون بالغربة والتخلّف والعنصرية الشعبية والإهمال الرسمي. فلمَ تحت هذه الظروف لا ينمو الإرهاب في هذه الأوساط التي لم تترسّخ فيها مفاهيم العدالة والديمقراطية والحرية؟ بل من خلال تفكير انحطاطيّ وهمجيّ، تنمو نزعة أخذ الحقّ بالسيف، ومن خلال حقد ثقافيّ طويل الأمد تتشكّل هذه الآلاف الجرارة من المقاتلين الجاهزين للانتقام في أيّ لحظة من “الغرب الكافر”!
للإرهاب منابعه الرئيسة، وهي ذاتها في كلّ مكان ملخَّصةً بالفقر والجهل وانعدام العدالة. ونضيف إلى ذلك “عدم الاندماج” في مجتمعات الغرب. فجميع بيئات الفقر والجهل في العالم، مع ميزان عدالة مكسور، وإهمال متعمّد، هي مقترحات ورُخص لإرهاب سينفجر في أيّ وقت، وبأتفه الحوادث. 
من جهة أخرى، فإنّ حادثة الدورية الفرنسية فتحت ملف الحرية وحدودها. فالنقاش الدائر الآن في العالم قد يبرِّرُ بعضُه الجريمةَ البشعة برمي المسؤوليّة على الصحيفة لأنها تجرّأت على مقدّسات. ومع أن الضمير الأخلاقي لهؤلاء المبرّرين نائم أو ميّت، لأنّه يوافق على القتل مقابل الكلمة أو الصورة، ويوافق على أخذ الحق باليد في دولة هي في النهاية دولة قانون، فإنه يمكن القول إن الصحيفة المذكورة ليست هي المسؤولة عن إهانة الرسول الكريم، بل هو القانون الذي يسمح! هذا القانون الذي يتيح لكل من يشاء أن يسخر من أي ديانة على الأرض ويهين أي عقيدة بما فيها المسيحية نفسها! أي أن أي مسلم أو متأسلم في أي ضاحية من ضواحي باريس يستطيع أن يتّخذ ما يشاء من رسوم ومقالات وأشكال للتّعبير، وبحريّة مطلقة، ما دام في حدود القانون. وإذا كنا لا نوافق على مضمون رسوم الصحيفة الفرنسية، فإنّنا ندينها أخلاقياً، مثل ملايين في العالم. ولكن، ولكي تستطيعَ الإدانةُ الأخلاقيّة أن تعاقب على هذا الفعل فلابد من أن تتحوّل إلى قانون يرسم الحدود بين حرية التّعبير والعدوان. ولدينا مثال صارخ على أنه من الممكن في أعتى دول الديمقراطية في العالم أن يوضَعَ حدٌّ لهذه الحرية، ونعني به القانون الذي يعاقبُ على نفي حدوث “الهولوكوست”، الذي ليس إلا نتيجة تكاتف اللوبي اليهوديّ ونشاطه الاستثنائيّ. وبدل تفريغ التشوهات النّفسيّة الفظيعة بالجريمة البشعة، لمَ بالله عليكم لا تنهض الملايين المسلمة في الغرب بمهمّة الضغط على حكوماتها لاستصدار قوانين تمنع السخرية من العقائد والمقدّسات وإهانتها؟ وخصوصاً أن ثمّة ملايين أخرى لا ترضى عن أيّ تناولٍ سفيهٍ لنبيّ الإسلام وعلى رأسهم بابا الفاتيكان؟ 
دعونا لا نفقد الأمل…!

– شاعرة وباحثة من الأردن
( الغد )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *