*هيثم حسين
لعلّ ما يدفع بعض القرّاء -على قلّتهم- في العالم العربيّ إلى قراءة نتاجات عدد من الكاتبات هو الرغبة في التلصّص على حيواتهنّ الخاصّة، كأن تكون هناك حقائق تسرّبت إلى الكتابة من باب التخفّف من أعباء الكتمان، وقرار البوح والاعتراف بما كان وما شكّل منعطفاً في مسارهنّ، وهذا بغضّ النظر عن حضور الخيال كعنصر فنّيّ فعّال في العمليّة الكتابية والإبداعيّة، ودوره في إغناء الصور أو رسمها وخلقها، أو حتّى اختلاقها، ومساءلة الكاتبة عن الحقيقة والواقع في ثنايا كتابتها الموصوفة بالاعترافيّة.
هل من الواقعيّة القول إنّ كتابة المرأة الاعترافيّة تكاد تنحصر في جوانب جنسيّة..؟
لا يخفى أنّ الكبت والقمع والحرمان الذي يفتك بالمجتمع تحت مسمّيات وقيود شتّى، يتسبّب في فرض ستارة معتمة على الممارسات التي تتمّ في الخفاء، وخلف الجدران، وقد يكون أكثر تلك الممارسات قذارة، هو الاعتداء الجنسيّ من قبل المقرّبين على المرأة، وعلى الأطفال في كثير من الأحيان، وقد يكون الاعتداء ممّن يفترض بهم النهوض بحمايتها، من أب أو أخ أو قريب، حيث أنّ ذلك يرغم المرأة على التكتّم خشية الفضيحة، وربّما القتل، لأنّ المجتمعات الفحوليّة تبقي الشرف مرهوناً بجسد المرأة ومقتصراً عليه. وهذا إسفاف بحقّ المفهوم والإنسان معاً.
حين تكتب روائية حكايتها التي تسرد في إطار اعترافيّ، فإنّها تبحث بحثاً محموماً عن الجمال عبر تقديم نقيضه بتشريحها الروائيّ، تفصّل في تفكيك نوازع الشرّ التي تسيّر الناس، ولا تخجل من تقديم شخصيّتها، أو نفسها، كحقل للتجارب، قد تتمادى في الإيلام، تتكلّم بشراسة وتفعم سردها بكلمات صميميّة تُمرئي حجم الأسى الذي تعانيه، وكمّية القبح المستشري، تفصّل في بؤس التحوّل المدمّر الذي يرتضي فيه المرء التخلّي عن إنسانيّته مقابل منافع آنيّة زائلة.
قد تكون كتابة نوال السعداوي أحد الأمثلة الأبرز عربيّاً في سياق تعرية المجتمع الفحوليّ، وحظيت فترة بالاهتمام والمتابعة، اكتسبت قيمتها وأهميتها من واقعيتها الصادمة في بعض الأحيان، لكنّها ظلّت تدور في الفلك نفسه، تراوح مكانها رغم تغيّر المجتمعات النسبيّ، وبدت كأنّها تعيد كتابة الفكرة نفسها في كثير من أعمالها، والتكرار أصاب الأعمال في مقتل، فلو قرأت لها بضعة أعمال يمكن أن تكتفي بها من باب الإلمام بالعوالم والأفكار، أي أصبحت الكتابة الاعترافية قيداً. وهنا، في حالتها، لم يبق الاعتراف فرديّاً، بل حمل صفة جماعيّة، بحكم عملها كطبيبة حافظة لأسرار مريضاتها، ومن ثمّة يكون “نشر غسيلهنّ” بعد ممارسة بعض الحيل الأدبيّة من تحوير وترميم وترقيع لتصبح الحكايات صالحة للنشر من دون أن تثير حفيظة أقارب هذه البطلة أو تلك.
لا يقتصر الإجرام بحقّ المرأة في بقعة دون غيرها من هذا العالم، بل يكون لكلّ مكان طريقته في الالتفاف على المرأة، وإن بإيهامها بأنّها تتحكّم بزمام أمرها وأمر غيرها أيضاً في بعض الأحيان. وفي المجتمعات الغربيّة تكثر مشاكل تكبيل المرأة بقيود معاصرة. ما دفع كثيراً من الكاتبات إلى اللجوء لصيغة الاعترافات لنشر غسيل مجتمعهنّ، بإظهار المخبوء والمعتّم عليه، أو ذاك الذي يجري في إطار لعبة تسويقيّة لئيمة.
تنهض المرأة في سياق الكتابة المعرّية الفضّاحة لقيم المجتمع الاستهلاكيّ الذي يحوّل جسد المرأة إلى سلعة للمتاجرة بدور السلطة التي هي الضحيّة نفسها، في متاهة تبادل أدوار تقع المرأة فريستها. من ذلك مثلاً ما عرضته الفرنسيّة ماري داريسك في روايتها الجريئة «الخنزرة»، «دار قَدمس، ترجمة: سهيل أبو فخر، دمشق 2011» والتي ركّزت فيها على إبراز ما يتعرّض له المجتمع من ابتذال وتمييع وتشويه وتعريته. تحدّثت عن الفحولة المَرضيّة، والأنشطة التجاريّة غير المشروعة، والاستغلال الجنسيّ المخجل، والجشع المتغوّل، وكذلك عن أساليب المنظّمات التي تتناقض أعمالها مع مزاعمها، والتي تساهم في التضحية بالفرد في حين يفترض بها أن تحميه، أو أن توفّر له سبل الحماية.
تذكّر «الخنزرة» بالمسخ لكافكا، ولا سيما من ناحية التشوّه الذي يتعرّض له الأفراد، والتشوّه الذي يعمّ، حيث يتمظهر الحيوان في أشكال البشر، ويتلبّس المرء الشكل الحيوانيّ، فضلاً عن الصفات والطباع المرافقة. وتراها تعتمد التورية لتؤكّد أنّ التناسب يكون عكسيّاً بين المثال المعمّم والإقصاء المطبّق. تتوارى خلف شخصيّة تتقمّص الخنزير الذي يتقمّصه الإنسان لتفضح ذاك الخنزير القارّ في قرارة الإنسان المتوحّش. تظهر كيف أنّ الحيوانيّة تجتاح المرء حين يتخلّى عن إنسانيّته. وكيف أنّ المجتمع يتقهقر إلى بدائيّته، ويعود إلى قوانين الغاب وشرائع القوّة. لتسود علاقة الفريسة والمفترس التي تحتلّ محلّ القوانين المدنيّة الإنسانيّة. وتبرز بهيميّة البشر، وكذلك كيف يمكن أن يصير البشر أكثر بهيميّة من الوحوش.
ربّما يحتمل الاعتراف صيغة من صيغ “نشر الغسيل” التي تروم التشخيص والتشريح للبحث عن معالجة ومداواة، وقد يحتمل رغبة في الانتقام، والخيط الفاصل بينهما دقيق للغاية. وهنا لا بدّ من التنويه إلى أنّ الكتابة الانتقاميّة تحمل معها فيروسات موتها المبكر وعوامل نهايتها السريعة، فقد تحظى ببعض المتابعة الإعلاميّة، وبعض الضجيج المفتعل، لكنّها تظلّ في عالم الأدب مهملة بعيدة عن جوهر الأدب ورسالته الإنسانيّة.
كاتب من سوريا مقيم في ليدز- بريطانيا/ العرب