بسمة النسور
لم تعد أغاني (الفيديو كليب) ظاهرة عابرة، محكومة بالزوال، شأن أي تقليعة تسود فترة، ويعتنقها الجميع قبل أن تتبدد ويتلاشى أثرها تدريجياً، بل باتت، ومنذ سنوات، جنساً فنياً عريقاً معترفاً به في العالم، وغدا من أهم أشكال التعبير قوة وتأثيراً وانتشاراً، ولا سيما بين جيل الشباب. من دون شك، فإن (الفيديو كليب)، بصيغته الراهنة، شكل فني قائم بذاته مكتمل العناصر، له أسس وقواعد ومدارس ونظريات ورواد ونقاد وجماهير مليونية من المعجبين، كذلك نجوم كبار حازوا الشهرة العالمية، بفضل الاستعانة بتقنياته المعقدة، لعل أبرزهم الفنان العالمي الراحل، مايكل جاكسون، الذي قدم في ألبومه الأكثر شهرة (ثريلر)، في الثمانينيات، منظوراً جديداً لشكل الموسيقى، أذهل العالم في حينه، وطرح، آنذاك، اقتراحات وحلولاً فنية ثورية في هذا المجال، حول الخروج عن النمطي الكلاسيكي، وكيفية الاستفادة من المساحات الإضافية الهائلة التي تتيحها إمكانات الصورة. وذلك كله لتجسيد النص الغنائي بصرياً، باستخدام الجسد وتطويعه، أداة رفيعة المستوى في التعبير عن حالات النفس البشرية، بكل تناقضاتها وجمالياتها وقسوتها، ووحشيتها أحياناً. وكما هو معروف، توصلت الإنسانية إلى التعبير بالجسد رقصاً، قبل الاهتداء إلى اللغة، فتراجعت أهميته سلوكاً إنسانياً فطرياً، غير أن مساحة التعبير بالرقص تظل أكثر رحابة، وربما أشد بلاغةً وأقل تعقيداً، وقد ارتبط هذا الفعل بالفرح والخوف والحزن والتقرب من قوى الطبيعة كذلك. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار الفيديو كليب أبرز تجليات تطور هذا الفن الذي عبّر عن معاناة الإنسان المعاصر وغربته، في زمن التغول التكنولوجي الذي منحنا وهم الألفة والتواصل الحميم، فيما نحن ممعنون في الوحشة والتوحد.
وبقليل من التأمل، سوف نكتشف أن تجربة الغرب، وعلى الرغم من تركيزها على أجساد المغنين، رجالاً ونساءً، كرموز جنسية صارخة، تتحول، عند المراهقين، إلى مثال أعلى، يثير حفيظة أولياء الأمور. وعلى الرغم من المضامين التي تحمّل موسيقاهم قيماً غرائبية، وعنيفة أحياناً، فإنها لا تغفل الجانب الإبداعي، في الكلمة واللحن والصوت، وغالباً ما يكون المغني، أو المغنية، مؤلف الكلمات وملحنها. ما يعطي الأغنية مصداقية وتوتراً فنياً أعلى. ومن المستحيل في الغرب أن يحقق شخص ما نجومية في الموسيقى خصوصاً، ما لم يكن صاحب موهبة فذة حقاً، والأمثلة، في هذا السياق، أكثر من أن تحصى لفنانين وفنانات عالميين، يتمتعون بالموهبة والبراعة والحس الفني، مثل بيونسيه الأميركية السوداء، واللاتينية جنيفر لوبيز، والكولومبية شاكيرا، والكندي جاستن بيبر، وغيرهم الكثير.
واقع الفيديو كليب في عالمنا العربي مختلف كلياً عن الفكرة الإبداعية الأصيلة، المنحازة إلى القيمة الفنية الإبداعية الجمالية المحضة، بل إنه، على الأغلب، مشين، ويدعو إلى الأسف. ومثل شأننا دائماً، شعوباً تابعة سياسياً واقتصادياً وفكرياً وثقافياً، نندفع، بكل الغباء الممكن، إلى تقليد أي ظاهرة تأتينا من الغرب دونما تمحيص. وحين تتابع أي فيديو كليب عربي تأكد أن له أصلاً في بلد غربي ما بالضرورة، وما هو إلا تقليد حرفي أبله، كما انبرى إلى (الصنعة) مقاولو ومتعهدو حفلات باستخدام فتيات نواد ليلية من الدرجة العاشرة. وبذريعة الفن، أسست فضائيات مشبوهة متخصصة بعرض وصلات عري ممجوج، ضمن فضاء موسيقي ملفق ومفبرك على مدار الساعة، وغيبوا المواطن العربي، المغيّب أساساً، ببضاعتهم الخادشة للذوق التي تتسم بالتفاهة والإفلاس والاتكاء على عرض نخاسي مبتذل لجسد المرأة، باعتباره السلعة الأكثر رواجاً.
ولا يخلو الأمر من الاستثناء القليل لتجارب عربية ذات قيمة إبداعية حقيقية، تحترم ذائقة المشاهد الذكي الحساس، وهي ما نعوّل عليه فقط وحصرياً.
* العربي الجديد