منصف الوهايبي
من نكَد الزمان أن يقدّمنا العالم ـ أو أن يقدّمنا طائفة من بني قومنا ـ على هذا النحو البائس الذي يكاد يُزري بنا جميعا، وكأنّنا أمّة «إرهاب»، يتيمة مجهولة النسب؛ على الرغم من أنّ العناصر التي أسهمت في بناء الحضارة العربيّة هي عينها التي تنحت الأفقَ الذي تتشكّل ضمنه رؤية العرب للحبّ عامّة والعذري خاصّة، وهو الذي اخترنا أن نخصّص له هذه الفسحة.
نعم، كان لنا أسلاف كتبوا مغتبطين في مسألة الحبّ أو موضوعه. ولقد طعّموا العربيّة بروح جديدة وأفعموها بمفاهيم، قبل أن تكون محمولة على دلالات الحبّ والغبطة؛ كانت هي بدورها مفاهيم مغتبطة وغاية في الطّراوة، حتّى لكأنّ شيئا منها يعلق باللّسان بعد نطقها.
ينتسب هذا الحبّ إلى بني عذرة بنسب صريح. والشعراء الذين نُعتوا بـ«العذريّين» ومنهم قيس لبنى (ت.68هـ/687م)، وجميل بثينة (82هـ/701م) وكثير عزّة (105هـ/723م). أمّا مجنون ليلى فقد تكون قصّته «ملفّقة» كما يذهب إلى ذلك ريجيس بلاشير. وهؤلاء الشعراء عاشوا كلّهم في العصر الأموي، ولكنّهم لا ينتمون جميعهم إلى بني عذرة؛ فعبد الله بن عجلان من قبيلة نهد التي كان موطنها شمال غرب نجران، وجميل بن معمر يتحدّر من بني ضنة، وقد قضّى أكثر عمره في وادي القرى. وأمّا مجنون ليلى، فينسب إلى قبيلة عمرو بن صعصعة.
إنّ لبني عذرة وجودا تاريخيّا لا ريب، لكنّه قد لا يفيدنا كثيرا في فهم هذا الغزل أو هذا الحبّ العذري الذي يُنسبُ لغة أو اصطلاحا إليهم؛ خاصّة أنّ الأخبارعنهم يعتريها اضطراب غير يسير. فهم عند البعض بدو، وهم عند آخرين كانوا خليطا من بدو وحضر.
والبداوة نفسها كما يؤكّد الطاهر لبيب «مفهوم متلوّن لا يحيل على واقع واحد، في الجزيرة العربيّة…» وفي كلامه مقدار كبير من الصواب؛ فهذه القبائل كانت دائما على سفر؛ تتنقّل تحت وطأة الحاجة إلى الماء والكلأ والمرعى، أو بسبب الحروب التي كانت تخوضها مع مجموعات وقبائل أخرى، أو الهجرات الكبرى التي دفعت بها نحو اليمن ثمّ نحو الشمال. فضلا عن أنّ شجرة أنسابها ضبطها الأمويّون لدواع إداريّة وسياسيّة. وما يمكن إثباته، بكثير من الاطمئنان أنّ هذه القبيلة التي ترجع أصولها إلى جذام فقضاعة؛ استوطنت وادي القرى، وأنّها وإن كانت قد أقامت على تخوم مكّة فإنّها لم تكن جزءا من نسيج عمرانها، وإنّما «بقيت على هامشها».
وفي خبر بطله جميل بثينة، يقول الأب، وهو يحاول أن يكفّ ابنه عن هذا العشق الذي لا طائل منه: «يا بنيّ! حتّى متى أنت عَمِهٌ في ضلالك!لا تأنف من أن تتعلّق بذات بعل يخلو بها، وأنت عنها بمعزل، ثمّ تقوم من عنده إليك فتغرّك بخداعها،وتريك الصّفا والمودّة، وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرّة لمن ملكها…». ويقول جميل: «والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي، أو أزيل شخصها عن عيني لفعلت، ولكن لا سبيل إلى ذلك، وإنّما هو بلاء بليت به».
ويخرج جميل هاربا بعد أن نذر أهل بثينة دمه وأباحهم السّلطان قتله. ولكن ما يعنينا من قصّته، هذا الحبّ البدوي النّاشئ هو أيضا في ما هو «محرّم» أو»محظور»، ونقصد هذه العلاقة بين جميل الأعزب وبثينة المتزوّجة. وفيها من «الحسّيّة» ما فيها، على أنّها حسّيّة من نوع مختلف، من ذلك أنّ بثينة تدخل جميلا خباءها في غفلة من زوجها.
ويقول الرّاوي: «وتحدّثا طويلا، ثمّ اضطجع واضطجعت إلى جنبه، فذهب النّوم بهما حتّى أصبحا…» والطّريف أن لا الرّاوي ولا أيّ من هؤلاء الذين حفظوا لنا هذه القصص، يومئ أو يلمّح إلى «زنى»أو»خيانة زوجيّة». ولا مسوّغ لذلك، في تقديرنا، سوى غياب الجنس بمعنى الجماع، في هذا النّوع من الحبّ، إلاّ ما تعلّق منه بالقسم الأعلى من جسد المرأة، وهو»شطر الحبّ» بعبارتهم، فيما «الشّطر الأسفل» للبعل».
وهذه القصّة ـ على ما نرجّح ـ نصّ حافّ يتولّد من بيتيْ جميل، وقد ساقتهما بثينة؛ عندما سألها الخليفة عبد الملك بن مروان عن جميل: «وكيف صادفته في عفّته؟» فتقول: كما وصف نفسه:
لا والذي تسجدُ الجباهُ لهُ
ما لي بما دون ثوبها خــبَرُ
ولا بفِيها ولا هَمَمْت بـهِ
ما كانَ إلاّ الحديثُ والنّـظرُ
أو قوله:
وإنّي لأرضى منك يا بثْنُ بالـــذي
لَوَ أيقنهُ الواشي لقرّتْ بلابلُهْ
بلا وبأنْ لا أستطيعُ وبالمنــــــــى
وبالوعْدِ حتّى يسأمَ الوعْد آمِلهْ
وبالنظرةِ العجلى وبالحولِ
أواخرهُ لا نلتقي وأوائلــــــــهْ
وقد بنى الراوي على أساس منه، الخبر الآتي: «سعتْ أمَة بثينة بها إلى أبيها وأخيها، وقالت لهما: إنّ جميلا عندها الليلة، فأتياها مشتملين على سيفيهما، فوجداهما مجتمعين وجميل يشكو إليها وجده، ثمّ عرض عليها بشيء ممّا يجري بين العشّاق؛ فأنكرته عليه، وقال: لئن عاودت تعريضا بريبة، لا رأيت وجهي أبدا. فضحك وقال لها: والله ما قلت إلاّ لأعلم ما عندك فيه؛ ولو رأيت منك مساعدة، لضربتك بسيفي، أو ما سمعت قولي؟ [الأبيات السابقة] فقال أبوها لأخيها: قم بنا فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها. فانصرفا وتركاهما».
ﻭﻳﻘﻮﻝ ابن الجوزيّة إنّ بعضهم ﻛﺎﻥ ﻳﺸﺘﺮﻁ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻌﺎﺷﻖ ﻭﻣﻌﺸﻮﻗﺘﻪ، أﻥّ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻧﺼﻔﻬﺎ ﺍﻷﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﺸﺎﺀ، ﻭﺍﻟﻨﺼﻒ ﺍﻷﺳﻔﻞ ﻳﺤﺮّﻡ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻳﺴﺘﺸﻬﺪﻭﻥ بقول الشاعر
ﻓﻠﻠﺤﺐّ ﺷﻄﺮ ﻣﻄﻠﻖ ﻣﻦ ﻋﻘﺎلِهِ
ﻭﻟﻠﺒﻌﻞ ﺷﻄﺮٌ ﻣﺎ ﻳُﺮﺍﻡ ﻣﻨﻴﻊُ
على أنّ المثير في مثل هذه القصص، أنّها لا تأبه بـ»الغيرة» غيرة الزوج؛ إلاّ ما ندر. ولعلّ في هذا ما يصلها بالقصّة القرآنيّة. فالعزيز لم يخف عنه أمر خيانة «زليخة»، ولكنّه اكتفى بنصحها «اسْتغفرِي لذنبكِ، إنّكِ كنتِ من الخاطئينَ». ويسوّغ الأنطاكي سلوك العزيز تسويغا طريفا؛ فمصر تقع تحت برج الجوزاء، وهذا ممّا يذهب الغيرة عن ساكنيها.
لعلّ ما يسوّغ نظرتنا إلى الحبّ العذري على أنّه «إيروتيكا روحيّة»، أو «حبّ « طفولّي «أموميّ «، ولكنّه «حسّي» هو أيضا؛ هذا التـّعـلّق بالقسم الأعلى من جسد المرأة ـ على نحو ما نجد في كثير من قصص العذريّين الذين يصفون القبلة ورضاب المرأة وصدرها ومعصميها ـ ارتداد،على ما يبدو، إلى مرحلة من مراحل الطّفولة الأولى وحنين إلى صدر الأم ّ أو حضنها. وقد لا يكون الإعراض عن القسم الأعلى إلاّ إعراضا عن الجزء المحرّم من جسد الأمّ، قد يكون مصدره الخوف من صورة الأب من حيث هو رمز الثّقافة القامعة. وهذا الإعراض لا ينفي الجانب الحسّي في الحبّ العذري بل لعله يؤكّده ويثبته «فكلّ ما ليس تناسليّا في الحبّ إنّما هو جنسيّ».
*شاعر وناقد تونسي
( القدس العربي )